الدوحة ـــ بوابة الشرق
كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته:
بعد التشخيص الدقيق الذي ذكره القرآن الكريم، الذي تمثل في الانسان وتصرفاته.. وضع علاجاً عاماً وشاملاً لمشاكل البيئة ونحوها من خلال منهج عقدي تغييري يقوم على تغيير الإنسان ظاهره وباطنه نحو الاصلاح وتحقيق المنافع، والحفاظ على الصلاح وعدم الاضرار والاعتداء على حق أي كائن مخلوق، وهذا التغيير يتطلب منهجاً، وبرامج للتغيير الجذري، لو نظرنا إلى جميع الشرائع السماوية، وبخاصة الشريعة الخاتمة لوجدناها تركز على الانسان، لأن سنة الله تعالى فيه قاضية بأنه لن يحدث تغيير نحو الأحسن في هذه الحياة، أو الأسوأ فيها إلاّ من خلال تغيير ما في داخل هذا الانسان حيث يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) ويقول تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ).
وتغيير الداخل يقصد به تغيير العقيدة والفكر والتصور، فهو الجهاز الداخلي الذي يحرك الجسد نحو ما يريده، وهذا ما عبرّ عنه ابن خلدون فقال: (أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل، فلا يتم فعل الانسان في الخارج إلاّ بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض، ثم يشرع في فعلها ).
ومن هنا نفهم الربط في القرآن الكريم بين العقيدة الحقة وبين الاصلاح، وبين العقيدة الباطلة “الشرك والالحاد” وبين الفساد والافساد، فقد ذكر الله تعالى في سورة الفجر مجموعة من الطغاة المستبدين ثم وصفهم بقوله: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) وقال في وصف المتولى عن العقيدة الحقة: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ) وهكذا.
وذلك لأن المؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر يؤمن بأن كل ما في الكون من نعم الله تعالى، وأنه مخلوق لله تعالى خلقه للانسان ليستعمله بالطرق التي أجازها الخالق، فهو بمثابة الوكيل فلا يجوز الاعتداء، ولا مخالفة موكله، فحينئذ يلتزم بأوامر الاصلاح، وبنواهي الافساد كلياً، بل يخاف الله تعالى في تعامله فيحسن ويصلح حتى يحبه الله، ويدعوه تضرعاً وخفية، فقال تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) فهذه الآية الكريمة واقعة ضمن مجموعة من الآيات قبلها وبعدها كلها تتحدث عن الأرض والسماء والليل والنهار، والشمس والقمر، والرياح والثمرات، بل تتحدث عن أن (….. الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) بل تواصل هذه الآيات من سورة الأعراف فتذكر نماذج من الطغاة المفسدين، وحينئذ تأمر المسلمين بذكر هذه النعم العظيمة بالحفاظ عليها والاستفادة منها مما ينفع ولا يضر، فقال تعالى: (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
ومع هذا الاصلاح الداخلي والتغيير في الأنفس تركز النصوص الشرعية على اصلاح سلوك الانسان، في كل مجالات الحياة من خلال التربية، والتزكية، والعقوبات الرادعة ونحوها حتى يصل الأمر إلى العناية بطهارة الانسان من كل ما يحيط به، ولا يسع المجال للخوض في برامج الاصلاح في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، ولكن يكفي أن نردد ما قاله القرآن الكريم من أنه ما نزل إلاّ لتحقيق الخير والرحمة والمصلحة والمنفعة، ودرء الضرر والشرور، والفساد والافساد فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).
أثر فساد البيئة على الاقتصاد:
أولاً تمهيد في بيان العلاقة بين البيئة والاقتصاد:
فكما رأينا أن ما حدث للبيئة من آثار سلبية في عصرنا الحاضر هي في جوهرها إضرار بالموارد، وفي حقيقتها مشكلات اقتصادية بالدرجة الأولى، لأنها تتعلق بالموارد الاقتصادية، وتضر إضراراً مباشراً بأدوات الانتاج، ومراحل النشاط الاقتصادي، كما أن هذه المشاكل ناتجة عن فلسفة النظام الرأسمالي الذي يطلق العنان للفرد لممارسة النشاط الاقتصادي دون رعاية للبيئة ونحوها، مما نتج منه طغيان، وإسراف بل تبديد للموارد والطاقات، وإفساد في الأرض وإهلاك للحرث والنسل في حالة الحروب.
فقد نجم عن النظام الرأسمالي الحر أسوأ أنواع الاحتكارات، وأبشع أنواع السلوكيات فمثلاً قامت أمريكا في السبيعينيات من القرن العشرين بإحراق جبال من القمح، وأعداد هائلة من المواشي، كما قامت الدول الأوروبية الغربية بإتلاف بحيرات من الحليب والزبدة، كل ذلك لأجل بقاء الأسعار مرتفعة، في الوقت الذي كان مئات الملايين يتضورون جوعاً، وتموت أعداد هائلة بالمجاعة، بل تاجر البعض بالأغذية الفاسدة، واللحوم المريضة وبأعضاء البشر وصدرت بعض القوانين مبررة لذلك فأجازت في أمريكا تصدير الأغذية والأدوية التي لا تتوافر فيها شروط استهلاكها المحلي إلى الخارج إلى العالم الثالث المسكين.
ومن جانب آخر فإن هدف النظام الرأسمالي هو توفير الوفرة والغنى والرفاهية لأصحابه، لذلك فلا فرق بين من يصنع المواد الكيميائية أو يشتريها ليصنع منها الأدوية، وبين من يصنعها، أو يشتريها ليصنع منها أسلحة مدمرة… إلاّ في فرق واحد، وهو أيهما أكثر ربحاً، ومن هنا استبيحت سيادة الدول وحرمة الشعوب، فاحتلت الأراضي من قبل المستعمرين بحثاً عن المعادن، والثروات، والطاقات مما نتج عنه إذلال الشعوب وكبتها وقتلها وتشريدها، حتى ان الأستاذ الجارودي يثبت بالأدلة ان حضارة الغرب، ورفاهيته اليوم قامت على أكتاف الشعوب المحتلة وثرواتها وطاقاتها في القارات الثلاث (آسيا، أفريقا، أمريكا الجنوبية)
لم يقم الاقتصاد الرأسمالي على مبادئ الدين الحنيف، وقوانين الأخلاق، والقيم الانسانية في النشاط الاقتصادي، ولم يكن له رادع إلاّ القوانين التي قلما تدخلت في هذا المجال، ولذلك تحطمت القيم الدينية تحت عجلة الثورة الصناعية، وغُيّبت القيم الأخلاقية والانسانية في ظل الحروب الاستعمارية الاستعلائية، وانتهكت حقوق المستضعفين في ظل القوانين والتحليلات التي أطلقت العنان للفرد، ولقانون العرض والطلب، وبررت النتائج السلبية بدافع الحرية والتنافس، فمثلاً ان قانون ساي للأسواق وهو “كل عرض يخلق الطلب عليه” يعطي للمنتج المبرر لأن ينتج أي شيء دون النظر إلى مآلاته ونتائجه وآثاره على البيئة أو الإنسان، ولم يؤثر كثيراً في هذه القوانين والتحليلات الرأسمالية ظهور بعض الدعوات الاصلاحية، وبعض المدارس الاقتصادية الجديدة في النصف الثاني من القرن العشرين التي دعت إلى القيم الأخلاقية، حيث ظل عالم الاقتصاد في الغرب متأثراً بالنظام الرأسمالي وقوى السوق، والعرض والطلب، وسعر الفائدة، وحركة رؤوس الأموال، ومؤشرات الأسواق المالية دون التفات إلى المشكلات الحقيقية التي تعاني منها البيئة، بل البشرية جمعاء، بل إن قوى العولمة الرأسمالية لا تركز إلاّ على أكثر المنتجات ربحية، وأكثر التجارات المدرة للربح السريع، فانتشرت المضاربات والمقامرات والمراهنات، وتجارة أسلحة الدمار الشامل، وازدهرت تجارة المتعة، والأفلام الاباحية، ونجم عن ذلك قلة حجم إنتاج الطيبات على مستوى العالم، وازدياد حجم إنتاج الخبائث مما زاد من فساد البيئة وتلوثها.
والعالم الغربي المتطور في تسارع شديد في ظل العولمة لتحقيق المزيد من المكاسب التجارية والاقتصادية، ولذلك ترفض أمريكا التي تسببت في انبعاث الغازات المتسببة في تآكل طبقة الأوزون بنسبة 35 % وتليها دول السوق الأوروبية، التوقيع على معاهدة الحد من الانبعاث الحراري.