بذلت الموسوعة الفقهية في الكويت جهداً طيباً من خـلال بحث الحوالة للوصول إلى تأصيل فقـهي للتحويلات المصرفية , وناقشت فيه بالتفصيل القـول بتخريجها على السفتجة المعروفة لدى الفقهاء , فبينت فيه ما بينهما من أوجه التشابه والفروق , كما ناقشت القول بتخريجها على القرض , أو الوكالة , ثم رجحت القول بأن التحويلات المصرفية عملية مركبة من تصرفين أو أكثر , ومن هنا فهي عقد جديد لا يشتمل على محظور شرعاً فيكون صحيحاً جائزاً شرعاً من حيث أصله , ونحن نحاول أن نذكر بإيجاز هذا التكييف الفقهي مع المناقشة والترجيح .
تخريجها على السفتجة :
والسفتجة كما – يقول الفقهاء – عبارة عن كتاب يكتبه المستقرض للمقرض إلى نائبه ببلد آخر ليعطيه ما أقرضه , وقد أجازها جماعة من الفقهاء , ( مع وجود الشرط الذي يستفيد به المقرض الأمان من خطر الطريق وهو شرط التوفية في بلد آخر ) فهي وسيلة أبيحت – كما يقول ابن قدامة – لأنها تحقق المصلحة للعاقــدين من غير أن تؤدي الضرر بأحدهما , بالإضافة إلى أن الأصل في العقود الإباحة .
وتوجد بين السفتجة والتحويلات المصرفية أوجه شبه من حيث عملية التحـويل , وضمان الطريق وغيرهما لكنه كذلك يوجد أوجه اختلاف أربعة وهي :
الوجه الأول : إن السفتجة كانت تتم بين بلدين في حين أن التحويل المصرفي قد يكون بينهما , وقد يكون بين مصرفين في بلد واحد .
وفي نظري أن هذا الفرق ليس جـوهريا فلا يؤثر , إذ أن العلة التي من أجلها كرهها بعض الفقهاء هي اشتراط الوفاء في بلد آخر , حيث جر منفعة في نظرهم فإذا كان المحققون قد أجازوها مع ذلك فإجازتها مع قرب المكانين , وعدم وجود نفع يذكر حيث لا يوجد الخوف من الطريق – تكون بطريق أولى .
الوجه الثاني : أن السفتجة قد يكون المقترض فيها مسافراً , أو عازماً على السفر فيوفي هو نفسه أو نائبه إلى المقرض أو إلى مأذونه , بينما التحويل المصرفي ليس فيه ذلك , حيث أن المصرف الأول – وهو المقترض – لا يوفي بنفسه إلا إذا كان المصرف الثاني الدافع فرعاً للأول .
غير أن المصرف الثاني حتى إذا لم يكن فرعاً له , لا يقوم بأي إجراء إلا من خلال ما يصل إليه من توجيهات المصرف الأول .
الوجه الثالث : إن المفروض في السفتجة – باعتبارها نوعاً من القرض – اتحاد جنس النقد المدفوع عند العقد والمؤدى , في حين أن التحويل المصرفي لا ينحصر في هذه الحالة , بل قد يكون الأداء بعملة أخرى , حيث يأخذ المصرف نقوداً , ويكتب بنقد آخر .
غير أن هذا الفرق وإن كان له وجاهته لكنه لا يؤثر في أصل الحــل , إذ يكيف التحويل المصرفي في هذه الحـــالة على القرض والتوكيل , أو القــرض والحـــوالة , وفي رأيي أنه يدخل ضمن المصارفة في الذمة التي قال بها جماعة من الفقهاء – كما سبق – .
نعم إن التقابض شرط أساسي في كل مصارفة – كما دل على ذلك الحديث الصحيح – وما يحدث في البنوك عند التحويل هو مبادلة بين نقود ونقود فيها تحويل وصرف , ومن هنا فتسليم المصرف الوسيط شيكا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس , أي أن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه فيكون الصرف قد استوفى شريطته الشرعية في التقابض , وذلك لأن الشيكات – عرفاً وقانوناً وثيقة – بمثابة النقود الورقية , ولذلك يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيراً وتحـويلا ً, وأنها محمية في جميع القوانين المالية , حتى تعتبر سحب الشيك بدون رصيد جريمة تعاقب عليها , ولذلك فاعطاء المبلغ نقداً وأخذ مقابله بشيك بمثابة ” خذ وهات : هاء و هاء ” ولكن لا بد من ملاحظة كون السعر للعملتين حسب السعر اليومي السائد .
أما إذا لم يدفع النقود إلى المصرف الذي أعطاه الشيك فيكـون ذلك توكيلا ًمن المصرف للمصرف الآخر بدفع المبلغ المكتوب فيه , وليس في هذا إشكال .
الوجه الرابع : إن السفتجة لم يكن فيها عمولة في حين أن التحويل المصرفي اليوم يتقاضى في مقابله مبلغاً من المال , وهذا إشكال حيث أنه في الظاهر من باب قرض جر منفعة .
لكنه لدى التحقيق إن هذه الزيادة في مقابل العمل الذي يقدمه البنك , ومصارفه , وذلك لأنه يوجد فرق شاسع بين السفتجة التي كان يقوم بها الأفراد والتي لم تكلف شيئاً , وبين ما تقوم به البنوك التي تكلفها الكثير , فهي شخصية اعتبارية تتحمل رواتب الموظفين والعمال بالإضافة إلى تكاليف الإدارة والأثاث وغير ذلك .
ومع وجاهة هذه الحلول التي ذكرت رجحت الموسوعة الفقهية أن التحويلات المصرفية اليوم أو البريدية عملية مركبة من معاملتين , أو أكثر , بل هو عقد حديث بمعنى أنه لم يجر العـمل به على هذا الوجه المركب في العقود السابقة , ولم يدل دليل على منعه , فهو صحيح جائز شرعاً من حيث أصله بقطع النظر عما يحيط به من مواد قانونية يجب لمعرفة حكمها استقصاؤها تفصيلا ًودراستها للحكم فيها .
بالإضافة إلى ذلك فإن كيفية القبض عند المحققين تعود إلى العرف , يقول شيخ الإســلام ابن تيمية : ” الأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع كالصلاة والزكاة , والصيام والحج , وتارة باللغة كالشمس والقمر , والبر والبحر , وتارة بالعرف كالقبض , والتفرق , وكذلك العقود كالبيع والإجارة , والنكاح والهبـــة وغير ذلك , ويقول الإمام القرافي : ” كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة , وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد , بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد , بل قد نص الفقهاء على أن الحوالة بمنزلة القبض , وكذلك الإبراء , لذلك أقر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورتـــه الحاديـــة عشرة المنعــقدة بمكـة المكـرمة في 13- 20 رجب 1409 هـ ما يلي :
أولا ً : يقوم تسليم الشيك مقام القبض عند توفر شروطه , في مسألة صرف النقود بالتحويل في المصارف .
ثانياً : يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال أي عملة بعملة أخرى سواء ً كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف , أو بعملة مودعة فيه .
القبض في العقار في وقتنا الحاضر :
تقضي القوانين الحديثة المعاصرة بضرورة إتباع تسجيل العقار , وشهره عند بيعـه , ومن هنا فلا يكتفى بمجرد تخلية العقار بعد العقد الشفهي , فقد كان القانون المدني الفرنسي القديم يعتمد في مادته (1138) على قاعدة إنتقال الملكية بمجرد العقد , ثم اضطر إلى اصدار قانون في 23/3/1855 خاص بالتسجيل , والذي قرر بموجبه أن ملكية العقار – ولو أنها تنتقل بمجرد العقد – لا يكون انتقالها معتبراً بالنسبة إلى الغير إلا من وقت تسجيل العقد في مكتب التسجيل الذي يقع في دائرته العقار المبيع .
وتبعه في ذلك القانون المدني المصري في قانونه القديم حيث نص في المادة 47/69 على ضرورة تسجيل العقار لثبوت الحقوق فيه بالنسبة للغير , ثم قرر في قانون التسجيل الصادر في 1923( المادة الأولى ) أن الملكية وسائر الحقوق العينية لا تنشأ ولا تنتقل , ولا تتغير ولا تزول لا بين المتعاقدين ولا بالنسبة لغيرهم إلا بالتسجيل .
وبذلك صارت قاعدة انتقال الملكية بمجرد العقد مقصورة على المنقول دون العقار , وأصبح الالتزام بنقل ملكية العقار يحتاج إلى تنفيذ من خلال كتابة العقد على ورق من نوع خاص تضعـه الدولة , ثم التأشير عليه من مصلحة الشهر العقاري , والتوقيع عليه أمام موثق , أو موظف مختص بالتصديق , ثم تسجيله فعلا ً.
وجــاء التقنيــن الجــديد المصري لينص في مــادته (934) على ضرورة إتباع الإجراءات السابقة ثم رأى المشرع المصري أن يأخذ بنظام السجل العـيني من خـلال القــانون رقم 142 لســنة 1964 م .
وكان المشرع الفرنسي قد أدخل تعديلات جوهرية على نظام الشهر العقاري المعمول به منذ عام 1935 م , من خلال مرسومين في 2 يناير 1955 م , 14 أكتوبر 1955 م .
والقانون المدني العراقي نص كذلك في مادته (508) على أن ” بيع العقار لا ينعقد إلا إذا سجل في الدائرة المختصة , واستوفى الشكل الذي نص عليه القانون ” فهذه المادة صريحة في أن بيع العقار عقد شكلي في نظر القانون المدني العراقي حيث لا ينعقد إلا إذا سجل في دائرة الطابو على عكس القانونين – المصري والفرنسي – اللذين لم يجعلاه شكلياً , وإن كانا قد جعلا هذه الإجراءات ضرورية , حيث لم يجعلا التسجيل ركناً في العقد بل شرطاً لانتقال الملكية .
ومع ذلك يمكننا القول بأن جعل التسجيل ركناً أو شرطاً لا يغير عن طبيعة القبض في العقار , حيث لم تتغير طبيعة القبض بعد العقد , فهو لا يزال تمكين العاقد من العقار وتخليته له , بعد العقد الذي يدخل فيه التسجيل كركن أو شرط .