بقلم – د. علي محيي الدين القره داغي
جريدة الوطن – الدوحة
القرارات والفتاوى حول مشكلة الديون والمتأخرات
ولم تكتف أمانة مجمع الفقه الدولي بكل ما صدر من القرارات والفتاوى حول الموضوع، وإنما عقدت ندوة علمية بالتعاون بينها وبين المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإٍسلامي للتنمية بجدة يومي 15، 16 يناير 2002م نذكر ما تمخضت عنه الندوة بالنص: (وبعد الدراسة المستفيضة للبحثين اللذين عرضا في هذه الحلقة، وتعقيبات أصحاب الفضيلة من الفقهاء والمصرفيين، وعلى إثر المناقشة العامة للموضوع رأى المشاركون في الندوة ما يلي:
أولاً: (أ) التأكيد على ما جاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي آنفة الذكر من عدم جواز إلزام المدين المماطل بأي زيادة على الدين بشرط سابق أو دون شرط لأن ذلك من الربا المحرم، ويجوز أن يشترط الجزائي في جميع العقود المالية ما عدا التي يكون الالتزام الأصلي فيها ديناً.
(ب)- دعوة مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة إلى إتاحة الفرصة لمزيد من الدراسة في الموضوع، نظراً لما هو متوافر لدى المؤسسات المالية الإسلامية من بيانات إحصائية وحجج شرعية تساعد في بناء أساس قوي لحل مشكلة المماطلة في الديون وفق آليات لا تفضي لأي شبهة ربوية.
ثانياً: دعوة مجمع الفقه الإسلامي والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالتنسيق مع المؤسسات المالية إلى العناية بالصور والإجراءات والتدابير المقترحة أدناه وغيرها من الصور الأخرى تأملاً وبحثاً ودراسة من خلال تنظيم ندوات علمية تخصص لهذا الغرض، واستكتاب من يلتمس القدرة على الإسهام بجديد في الموضوع، والصور والإجراءات المعروضة للنظر والتدبر هي كما يلي:
1 ـ معالجة خاصة للبنك الإسلامي للتنمية وغيره من المؤسسات الدولية والعامة: فبما أن البنك الإسلامي للتنمية مؤسسة دولية تهدف إلى دعم التنمية الاقتصادية في الدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية فإن له وضعاً خاصاً لتعامله مع الدول، إذ لابد في مثل هذه الحالة من تحرير ضابط الإعسار الذي تعد به الدولة مماطلة أو غير مماطلة، وتحقيق مناط العقوبة بالسجن ونحوه حيث لا يتأتى ذلك بالنسبة للدول.
2 ـ دراسة اشتراط رد جزء من الربح المستوفى عند سداد الدين في أجله: حيث يقوم البنك بإعادة جزء من أرباح عمليات المرابحة التي يقوم بها لبنك في حال قام العميل بتعجيل الدفع عند تأريخ الاستحقاق.
3 ـ دراسة إمكانية اعتبار التعويض عن الضرر الذي يلحق بالمصارف الإسلامية من جراء المماطلة في الديون بمنزلة الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة حفاظاً على الاستثمار المصرفي الإسلامي؟
4 ـ دراسة التزام المدين المماطل بأداء زيادة على الدين يقبضها المصرف ثم يجنيها في حساب خاص لصرفها على وجوه الخير.
5 ـ دراسة إمكانية إلزام المدين المماطل قضاء بأداء الدين وتقديم قرض مناسب للدائن ولفترة زمنية مناسبة، ويخول للدائن الانتفاع المشروع من هذا القرض خلال هذه المدة ثم يرده إلى صاحبه (المماطل) وبهذا يحصل التعويض للدائن بالانتفاع بمال مماثل لمدة مماثلة لحرمانه من ماله.
6 ـ دراسة إنشاء صندوق ضمان الديون المتأخرة: تنشئه الدولة لتسوية الديون المتأخرة.
7 ـ دراسة شراء أعيان يملكها العميل المدين لتؤجر له لكي تمكنه من سداد الدين.
8 ـ دراسة شراء أعيان من العميل المدين ثم المشاركة معه بها في نشاطه.
9 ـ دراسة شراء صكوك ملكية لأعيان مؤجرة يمتلكها المدين المماطل مقابل الدين، تشجيعاً للدائنين على مبادلة ديونهم مقابل تلك السندات.
10 ـ دعوة المصارف الإسلامية إلى استحداث آليات وصيغ تعتمد على المشاركة في رؤوس الأموال، بدلاً من الصيغ الحالية القائمة في اغلبها على الديون).
الحلول والبدائل الشرعية لمشكلة المتأخرات
الحلول والبدائل التي يمكن أن تساعد في حل المشكلة، أو أن تحلها جذرياً نوعان: حلول جزئية عملية تساعد في حل المشكلة، ولكنها لا تحلها جذرياً، وحلول جذرية.
النوع الأول: الحلول الجزئية المساعدة:
وهي تشمل الإجراءات الإدارية التي تسبق التمويل، ثم الحلول الجزئية التي تتخذ بعد التأخير.
أولاً: الإجراءات الإدارية التي ينبغي أن تسبق التمويل، وهي:
1 ـ تعاون البنوك الإسلامية فيما بينها، وحتى بينها وبين المؤسسات المالية الأخرى لأجل معرفة الأشخاص الملتزمين بالدفع، والأشخاص المماطلين، وذلك من خلال تبادل المعلومات الخاصة بالشركات والأشخاص.
ومن هنا فحينما يتقدم شخص للتمويل على البنك أن يستفيد من ملفه الخاص به عنده أو عند غيره في مجال السداد أو المماطلة. ويرتبط بهذا إدخال هؤلاء المماطلين في القائمة السوداء كعقوبة رادعة للمماطلة.
2 ـ الأخذ بالأسباب الفنية والوسائل العلمية المطلوبة من دراسة الجدوى الاقتصادية الجادة ونحوها.
3 ـ عدم التركيز على المرابحات والبيع الأجل، بل ضرورة الدخول في المشاركات والمضاربة والاستصناع، أو التجارة أو إنشاء شركات للاستثمار المباشر وغير المباشر.
4 ـ ضرورة الالتزام الحاسم بالقوانين واللوائح المنظمة لأمور البنك دون مجاملة.
5 ـ أخذ ضمانات كافية من الرهن والكفالة ونحوهما.
ثانياً: الإجراءات التي يمكن اتخاذها عند تأخر السداد:
الإجراء الأول: التصرف في الدين المتأخر، وذلك من خلال الاتفاق مع المدين نفسه ببيع الدين بالعين (كالعقار ونحوه) مع ملاحظة إدخال ما خسره البنك في الثمن المتفق عليه، ثم هذا جائز.
وهناك حل آخر مكمل وهو أن يقوم البنك الإسلامي بعد شراء العقار (أو نحوه) بتأجيره للمدين نفسه إجارة منتهية بالتمليك، كما يمكن القيام بالحوالة ونحوها.. وهناك تفاصيل حول التصرف في الديون يمكن للبنك الإسلامي الاسـتفادة من بعض صوره المجازة،
ومن الجدير بالذكر أن بعض البنوك الإسلامية في إحدى الدول الإٍسلامية تقوم بإعادة الاتفاق على نسبة الربح بحيث تزيد هذه النسبة لصالح المصرف تبعاً للزمن الذي يتأجل إليه الدفع، ومع أن هذا واضح في دخوله في جدولة الديون على نفس الأسس الربوية، ولكنه مع ذلك وجد مبرراً لذلك من خلال جواز بيع الديون، وزعم من يفتي بذلك بأن مذهب الشافعي يجيز ذلك، وقد أثبتنا من خلال بحث لنا عن الديون عدم صحة ذلك، حيث تقوم بعض مؤسسات تلك الدولة المالية الإسلامية ببيع دين المرابحة من خلال قيام المصرف اليوم مثلاً ببيع سلعة بالمرابحة إلى أحمد بثمن مقدر بعشرة آلاف دولار (مثلا) لمدة سنة، وحينئذ يتحول الثمن إلى دين يستحق الأداء بعد سنة موثق بسندات القبض، وعندئذ يقوم المصرف ببيع تلك السندات على محمود حالاً أو في زمن أقل من السنة مثلاً بمبلغ أقل من دين المرابحة، ثم يقوم محمود باستيفاء الدين كاملاً (قيمة الصفقة السابقة بين المصرف وأحمد) بعد انتهاء مدته.
تحقيق مذهب الشافعية في بيع الديون
وبالرجوع إلى المصادر المعتمدة في المذهب الشافعي نرى أن خلافه ليس في بيع الدين بالدين على التفصيل الذي ذكرناه، وإنما خلافه في بيع الدين بالعين، كما ظهر ذلك من خلال ما نص عليه الشافعي وفقهاء المذهب، فقد جاء في الأم: من سلف في طعام موصوف فحل السلف، فإنما له طعام في ذمة بائعه، فإن شاء أخذه به كله حتى يوفيه إياه، وإن شاء تركه كما يترك سائر حقوقه إذا شاء، وإن شاء أخذ بعضه وأنظره ببعض، وإن شاء أقاله منه كله…. ثم قال: فالقياس والمعقول مكتفى به فيه كما ذكر عدة آثار تدل على ذلك.
وقد لخص الأئمة الشيرازي والرافعي والنووي مذهب الإمام الشافعي في بيع الديون، حيث جاء في المهذب: (وأما الديون فينظر فيها فإن كان الملك عليها مستقراً كغرامة المتلف، وبدل القرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض، لأن ملكه مستقر عليه فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض، وهل يجوز من غيره ؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة.
والثاني: لا يجوز، لأنه يقدر على تسليمه إليه، لأنه ربما منعه، أو جحده، وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز.
والأول أظهر، لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلماً فيه لم يجز بيعه).
وإن كان ثمناً في بيع ففيه قولان: قال في الصرف: (يجوز بيعه قبل القبض لما روى ابن عمر، قال: (كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير فاخذ الدراهم وأبيع بالدراهم فاخذ الدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس بذلك ما لم تتفرقا وبينكما شيء) ولأنه لا يخشى من انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالبيع بعد القبض.
وروى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز …. ثم قال: وإن جوزنا الاستبدال فلا فرق بين بدل وبدل، ثم ينظر إن استبدال ما يوافقهما في علة الربا كدنانير عن دراهم اشترط قبض البدل في المجلس، وكذا إن استبدل عن الحنطة المبيعة شعيراً إن جوزنا ذلك.
وهذا الذي ذكرناه كله في الاستبدال وهو بيع الدين ممن هو عليه، فأما بيعه لغيره كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر حيواناً بتلك المائة، ففي صحته قولان مشهوران:
أصحهما: لا يصح لعدم القدرة على التسليم.
والثاني: يصح بشرط القبض في المجلس.