بعد المعايشة مع هذا الموضوع والبحث عن مسائله في بطون المصادر المعتمدة من كتب التفسـير والحديث , والفقه يمكننا أن نلخص النتائج التي تمخض عنها البحث بما يلي :
أولا ً : أن القبض في اللغة لا ينحصر معناه في الأخذ باليد , وإنما له عدة معاني منها الإمساك والتمكن من الشيء , والأخذ المطلق , ونحوها , وقد ورد بهذه المعاني اللغوية أيضاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة .
ونفيد من هذا البحث اللغوي أن القبض ليس له معنى محدد معين في اللغة , ولم يخصصه الكتاب أو السنة بمعنى معين , ولذلك يكون مرجعه إلى العرف , وهذا ما صرح به الفقــهاء .
ثانياً : وفي اصطلاح الفقهاء وجدناهم متفقين على أن القبض في العقار بالتخلية , ثم ثار بينهم خلاف في غيره , فوجدنا اتجاهاتهم تنحصر – بشكل عام – في اتجاهين : اتجاه يرى أن القبض هو التخلية والتمكن من القبض دون حائل ولا مانع , واتجاه آخر يرى أن القبض في المنقول لا يتم إلا بالنقل , أو الكيل , أو الوزن , أو التوفية .
وقد ذكرنا أدلة كل فريق مع ما يمكن أن يجري فيها من مناقشة , فوجدنا أن الذي يدعمه الدليل هو أن القبض هو التخلية , والتمكن من الاستلام دون حائل ومانع , لكنا اشترطنا أن يكون القبض في الربويات يتم داخل المجلس , وكذلك رجحنا القول بأن القبض التام في الطعام لا يتم إلا بالنقل أو التوفية , أو الكيل , أو الوزن جمعاً بين الأدلة .
ثالثاً : وصلنا من خلال أنواع القبض وصوره التي ذكرها فقهاؤنا القدامى أن مرجع هذه الصور أعراف أزمانهم وعوائدها , حيث عللوا أحكامها بالعرف , وقرروا أن الحاكم فيها العرف .
رابعاً : وعند بحثنا عن صور القبض المعاصرة وضعنا ضابطة تسهل لنا كثيراً من صور القبض المعاصرة وهي : أن مبنى القبض وأساس مسائله وصوره قائم على العرف , حيث إن أطلقه , ولم يرد في اللغة في معنى محدد , فيكون الرجوع فيه إلى العرف , ومن هنا فكل ما عـدّه العرف قبضاً في أي عصر من العصور فهو قبض ما دام لا يصطدم مع نص شرعي ثابت صريح , ومن هنا فمقتضيات الأعراف السابقة لا تكون حجـة على مقتضيات عصرنا الحاضر ما دامت أعرافه قد تغيرت , لأن ما هو مبني على العرف يتغير بتغيره , وعلى ضوء ذلك وصلنا إلى ما يلي :
أ ) قبض العقار لا يزال بالتخلية , وكذلك قبض المصانع والشركات .
ب ) المنقولات – ما عدا الطعام – إذا كانت حاضرة يتم فيها القبض بمجرد التخلية , وأما الطعام فلا يجوز بيعه إلا بعد نقله , أو كيله , أو وزنه .
ج ) وأما القبض في السلع الحاضرة – ما عدا الطعام – والسلع التي رآها المشتري سابقا , فيتم بمجرد التخلية بعد العقد .
د ) وأما السلع الغائبة , فإما أن يتم العقد فيها بين المستورد والمصدر مباشرة … وحينئذ لا يلزم العقد إلا بعد وصول البضاعة , ومطابقتها للمواصفات التي طلبها المشتري في العقد , وبالتالي فإن القبض يتم بعد ذلك مباشرة .
ومن المعلوم فقــهاً أن رؤية الوكيل تنوب عن رؤية الموكل , وأن رؤية البعض قد تغني عن رؤية الكل .
هـ ) وقد يتم العقد عن طريق البنوك من خلال الاعتمادات المستندية وحينئذ ٍ إما أن يدخل البنك كوكيل فيكون استلامه البضاعة قبضاً , وكذلك إذا دخل كشريك .
أما إذا دخل البنك كمرابح ( بيع المرابحة ) فيكون قبضه للبضاعة قبضاً لنفسه , ولا يتم القبض للعميل إلا إذا وصلت البضاعة إلى الميناء المطلوب , ويتم العقد بينهما , ثم يراها , ويخلي بينه وبينها حسب العرف الجاري .
و ) وأما القبض في النقود فلا بد أن يكون في المجلس , ولكن مفهوم المجلس قد يتوسع فيه , وكيفية القبض قد يؤثر فيها العرف دون الاصطدام مع النص على ضوء ما يأتي :
1- تقديم المبلغ إلى المصرف وقيامه بتسجيله لحساب العميل الخاص الاستثماري , أو الجاري قبضه , وبذلك يكون المصرف مضارباً , أو شريكاً – حسب الاتفاق – في حالة تسجيله في حسابه الاستثماري , ويكون مديناً في حالة تسجيله في الحساب الجاري ( حسب الاتفاق ) .
2- يدفع العميل ريالات مثلا ً ليسجلها المصرف في حسابه الخاص بالدولار فيقوم المصرف بذلك ويعطى له ايصالا ً, فهذا أيضاً جائز يدخل في باب المصارفة في الذمة التي أجازها جماعة من الفقهاء , وأكد على ذلك مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي .
3 – تحويل مبلغ من النقود بعد تحويلها إلى عملة البلد المحول إليه يتضمن المصارفة في الذمة , مع ما يسميه الفقه الإسلامي بالسفتجة , وكلتاهما جائزتان , وكذلك لو أخذ العميل شيكاً مصرفياً أو شيكاً سياحياً .
خامساً : وجدنا أن أركان القبض ثلاثة : القابض , والمقبض , والمقبوض , ويشترط في المتقابضين ما يشترط في العاقدين – كقاعدة عامة – .
سادساً : الأصل عدم اتخاذ القابض والمقبض لكن الفقهاء أجازوا اتحادهما في عدة حالات ذكرنا منها سبعاً .
سابعاً : أوضحنا بشيء من التفصيل أثر القبض في العقـود الصحيحة , فوجدناها بالنسبة له ليست على سنن واحد حيث قسم الفقهاء العقود بالنسبة لأثر القبض إلى أربعة أقسام وهي :
1- قسم لا يشترط فيه لا في صحته , ولا في لزومه , ولا في استقراره مثل النكاح , والحوالة , والوكالة , والوصية .
2- قسم يشترط فيه القبض في صحته مثل الصرف .
3- ما يشترط فيه القبض في لزومه كالرهن , وقد آثرنا آراء الفقهاء في ذلك مع الأدلة والمناقشة ثم رجحنا القول بأن الرهن يلزم بمجرد العقد , وأن القبض شرط للاستقرار , وحينئذ يجبر الراهن على تسليم الرهن بعد العقد .
وقد ذكر الفقهاء لهذا القسم مثالا ً آخر وهو الهبة , وذكرنا آراء الفقهاء في ذلك وأدلتهم , مع المناقشة , وترجيح الرأي القائل بأن القبض فيها شرط اللزوم .
4- وقسم يشترط فيه القبض لاستقراره مثل البيع , حيث يترتب على عدم القبض عدة آثار من أهمها أن المبيع يكون على ضمان البائع ما دام لم يقبض ( على خلاف فيه وتفصيل ) .
ومن أهم هذه الآثار أيضاً عدم جواز البيــع قبل القبض , وقد ذكرنا فيه آراء الفقــهاء , وأدلتهم مع المناقشة , ثم ترجيح جواز البيع قبل القبض إلا في الطعام جمعاً بين الأدلة ( مع تفصيل وتحليل ) .
ثامناً : فصلنا القول في أثر القبض في العقود الفاسدة , حيث ذكرنا إتجاهات الفقهاء , ورجحنا القول بأن المقبوض بعقد فاسد مضمون على قابضه .
تاسعاً : أثرنا حكم المقبوض على سوم الشراء , أو النظر , أو الرهن , حيث وجـدنا فيه تفصيـــلا ً ذكـــرناه .
هذا والله أسأل أن يعصمني من الزلل والخطأ ويجعل أعمالي خالصة لوجهه الكريم وهو حسبي فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه الفقير إلى الله :
د . علي محيى الدين القره داغي .