إن الشافعية أيضاً متفقون مع غيرهم في أن المرجع في القبض إلى العرف ولكنهم مع ذلك وضعوا هذه الضوابط التي كانت محكومة بأعراف زمانهم , يقول الشيرازي : ” إن القبض ورد به الشرع وأطلقه , فحمل على العرف , والعرف فيما ينقل النقل , وفيما لا ينقل التخلية ”    ولكن النووي عقب عليه بأن قبض الدراهم والدنانير ( النقـود ) , والمنديل والثوب والإناء الخفيف والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف بين الشافعية   .

 

وذكر ابن قدامة أن قبض كل شيء في المذهب الحنبلي بحسبه , فإن كان مكيلا ً أو موزوناً وقد بيع كيلا ً أو وزناً فقبضه بكيله ووزنه , وإن كان كان المبيع دراهم , أو دنانير فقبضها باليد , وإن كان ثياباً فقبضها نقلها وإن كان حيواناً فقبضه تمشيته من مكانه , وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري بدون حائل .

 

وقد علل ابن قدامة لذلك ” بأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق , والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا ”   .

 

ونرى مثل هذا التعليل , والرجوع إلى العرف في أغلب الكتب الفقهية – إن لم يكن في جميعها – مما يدل على أن مسائل القبض محكمة بالعرف , وحينئذ يمكن حمــل كثــير من التفصيلات الفقهية على أعراف أزمنة الفقهاء وعوائدها   .

 

 

القبض الحقــيقي والقبض الحكــمي :

 

يظهر مما أوردناه من نصوص الفقهاء أنه يمكن تقسيم القبض إلى القبض الحقيقي والقبض الحكمي , غير أنه يمكن أن يثور التساؤل حول ما يتم به القبض على سبيل الحقيقة ؟ أو بعبارة أخرى : ما هو القبض الحقيقي ؟ هل هو التناول باليد , أم هو تسليم المعقود عليه بشكل ينتفي معـه الخروج من الضمان ؟ .

 

فإذا أردنا الأول فواضح حيث يكون ما عدا المناولة باليد قبضاً حكمياً , لكن إذا أردنا به المعنى الثاني حينئذ يدخل بعض أنواع التخلية قبضاً حقيقياً أو كما سماه الكاساني : قبضاً تامـاً , حيث ذكر جملة من أنواع التخلية وسماها قبضاً تامـاً , أي ترتب عليه جميع الأحكام المترتبة على العقـد بالكامل – كما سبق آنفـاً   .

 

وعلى ضوء التفسير الأول للقبض الحقيقي – أي الحسي – يدخل في القبض الحكمي ما سوى المناولة باليـد , وحينئذ يشمل القبض الحكمي الحالات الآتية وهي :

 

1- التخلية بشروطها مع التمكين , حيث اعتبرها الحنفية بمثابة القبض الحقيقي في ترتب الآثار عليها , ولو لم يقبضها الطرف الآخر حقيقية , وذكرنا صورها آنفـاً .

 

2- إتلاف المعقود عليه من قبل المشتري – سواء كان بنفسه أو بأمره – قبل استلامه الفعــلي , وتعيينه , حيث لو أتلف –  مثلا ً – المبيع , أو عيبه صار قابضاً له , ولذلك يتقرر عليه الثمــن وكذلك لو أمر المشتري البائع بإتلافه , وفعل تنفيذاً لرغبته , ” ….. فإن كان المبيع في يد البائع فأتلفه المشتري صار قابضاً له ” لأنه صار قابضاً بالتخلية , فبالإتلاف أولــى , لأن التخلية تمكين من التصرف في المبيع , والإتلاف تصرف فيه حقيـقة , والتمكــين من التصرف دون حقيــــقة التصرف …. , وكذلك كل تصرف نقص شيئاً , لأن هذه الأفعال في الدلالة على التمكــين فوق التخلية , تم بالتخلية صار قابضاً فيها أولى   ,  ويقول النووي : ” أن يتلفه المشتري فهو قبض منه على الصحيح , لأنه أتلف ملكه فصار كما لو أتلف المالك المغصوب في يد الغــاصب يبرأ الغاصب , ويصير المالك مسترداً بالإتلاف , وفي وجه إتلافــه ليس بقبض لكن عليه القيمة للبائع ويسترد الثمن   .

 

3-  قيام المشتري –  مثلا ً – ببعض التصرفات في المعقود عليه قبل استلامه الفعلي مثل أن يودعه عند أجنبي , أو يعيره , وطلب من البائع تسليمه إليه يصير قابضاً , وكذلك لو حتى أجنبي على المبيع فإختار المشتري اتباع الجاني بالضمان كان إختياره بمنزلة القبض عند أبي يوسف , وعند محمد لا يكون , وكذلك لو استبدل المشتري الضمان ليأخذ مكانه من الجاني شيئاً آخر جاز عند أبي يوسف , وعند محمد لايجوز , لأن هذا تصرف في المعقود عليه قبل القبض , لأن القيمة قائمة مقام العين المستهلكة , والتصرف في المعقــود عليه قبل القبض لا يجوز لا من البائع ولا من غيره   .

 

4- أن يتصرف البائع في المبيع شيئاً بإذن المشتري , حيث يكون فعله بأمر المشتري بمنزلة فعـل المشتري بنفسه إذا كان ذلك ينقص المبيع , فيصير قابضاً , أما إذا كان لا ينقصه كالغسل بأجر أو بغيرأجر فلا يصير قابضاً , لكن لو طحنه بأمر المشتري صار قابضاً , لأن الطحن بمنزلة الكيل في مثله   .

 

5- القبض السابق على البيع , بأن يكون المبيــع عند المشتري أثناء العقـد , حيث نجد فيه تفـصيلا ًعند الحنفية , بقول الكاساني الحنفي موضحاً : فأما إذا كان في يد المشتري فهل يصير قابضاً للبيع بنفس العقد أم يحتاج فيه إلى تجديد القبض ؟ فالأصل فيه أن الموجود وقت العقد إن كان مثـل المستحق بالعقد ينوب منابه وإن كان له يكن مثله فإن كان أقوى من المستحق ناب عنه وإن كان دونه لا ينوب , لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق التناوب لأن المتماثلين غيران ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسده وإن كان أقوى منه يوحد فيه المستحق وزيادة وإن كان دونه لايوجد فيه إلا بعض المستحق فلا ينوب عن كله وبيان ذلك في مسائل وجملة الكلام فيها أن يد المشتري قبل الشراء إما أن كانت يد ضمان وإما أن كانت يد أمـانة , فإن كانت يد ضمان , فإما أن كانت يد ضمان بنفسه وإما أن كانت يد ضمان بغيره :

 

1- فإن كانت يد ضمان بنفسه كيد الغاصب يصير المشتري قابضاً للمبيع بنفس العقد ولا يحتاج إلى تجديد القبض سواء كان المبيع حاضراً او غائباً , لأن المغصوب مضمون بنفسه والمبيـع بعـد القبض مضمون فتجانس القبضان فناب أحدهما عن الآخر , لأن التجانس يقتضي التشابه والمتشابهات ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسده سواء كان المبيع حاضراً أو غائباً , لأن الغاصب في الحالين يد ضمان .

 

2- وإن كانت يده يد ضمان لغيره كيد الرهن بأن باع الراهن المرهون من المرتهن فإنه لا يصير قابضاً , إلا أن يكون الرهن حاضراً أو يذهب إلى حيث الرهن ويتمكن من قبضه , لأن المرهون ليس بمضمون بنفسه بل بغيره وهو الدين والمبيع مضمـون بنفسه فلم يتجانس القبضان فلم يتشابها فلا ينوب أحدهما عن الآخر , ولأن الرهن أمانة في الحقيقة فكان قبضه قبض أمـانة , وإنما يسقط الدين بهلاكه لمعنى آخر لكونه مضموناً على ما عرف وإذا كان أمانة فقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الضمان كقبض العارية والوديعة .

 

3- وإن كانت يد المشتري يد المشتري يد أمانة كيد الوديعـة والعارية لا يصير قابضاً إلا أن يكون بحضرته أو يذهب إلى حيث يتمكن من قبضه بالتخلي لأن يد الأمانة ليست من جنس يد الضمان ولا يتناوبان   .

 

وأما المالكية والحنابلة فقد نصوا على أن القبض السابق يحل محل القبض المستحق بالعقد مطلقاً دون النظر إلى التفصيلات التي ذكرها الحنفية حول كون اليد يد ضمان أم يد أمانة , وكذلك لم يشترطوا الإذن من صاحبه , ولا مضى زمان يتأتى فيه القبض   ,  وكذلك الحكم عند الشـافعية   مع تفصيل في المبيع الغائب – .

 

 

 

جاء في المجموع : ” وقال المتولي : ” لو باع شيئاً هو في يد المشتري قبل الشراء فإن كان في يد ضمان كغصب , أو عارية , أو سوم صار بمجرد الشراء مقبوضاً له , لأن البيع جهة ضمان أيضاً فيسقط ضمان القيمة , ويحصل ضمان المشتري وإن كان في يده بجهة أمانة كوديعة , أو وكالة أو شركة , أو قراض صار بمجرد البيع مقبوضاً ولا يحتاج إلى إذن في القبض , وهل يشترط مضي زمان يتأتى فيه القبض إذا كان المبيع غائباً عن مجلس العقد ؟ فيه وجهـــان… . قال : ولنا وجه ضعيف أنّ من اشترى شيئاً في يده لا يصح قبضه إياه قبل أداء الثمن إلا بإذن البائع   ,  غير أنهم اختلفوا في باب الرهن , فلو أودع عند رجل مالاً , ثم رهنه عنده قال النـووي : ” فظاهر نصه – أي الشافعي – أنه لا بد من إذن جديد في القبض , ولو وهبه له , فظاهر نصه حصول القبض بلا إذن في القبض , وللأصحاب طرق أصحها : فيها قولان , أظهرهما : إشتراط الإذن فيهما …… ”  ثم ذكر : ” إذا باع المالك الوديعة , أو العارية ممن في يده , فهل يعتبر زمان إمكــان القبـــض بجواز التصرف وإنتقال الضمان ؟  وجهــان : أصحها نعم  .

 

والذي يظهر رجحانه هو أن القبض السابق قبض مطلقاً – كما هو رأي الجمهور – وذلك لأن الغرض الأساسي من القبض أن يصل المعقود عليه إلى مستحقه ولا دليل على أن يكون ذلك بعـد العقد , إذ لا شكلية في الفقه الإسلامي , كما أنه لا دليل على اشتراط كون القبضين متماثلين – مما ذكره الحنفية – إذ المدار على اثبات اليد وهو ثابت بأي نوع من أنواع اثبات اليد سواء كان يد أم لا .

 

كما أن اشتراط الإذن – بعد القبض السابق – تحصيل للحاصل , إذ أن اقراره له في يده بمنزلة إذنه في قبضه , بالإضافة إلى أن إنشاءه عقداً جـديداً معه مع كون المعقود عليه في يده دليل على رضاه فاستغنى عن الإذن المشترط في الإبتداء , إذ أن القاعدة الفقهية تقضي بأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الإبتداء   .

 

واما اشتراط مضي زمان – كما هو رأي بعض الشــافعية – فيعتبر أمراً شكلياً بحتاً , إذ أن مضيه لا يزيد من حقيقة القبض شيئاً .

 

6- التقابض في الذمة سواء أكان في الذمة من الطرفين , أو من طرف واحد وهذا يشمل عدة حالات منها :

 

أ – دين بعين وهو أن يدفع المدين بنوع من النقود – كالدراهم – نوعاً آخر – أي الدنانير – بدل دينه , وهذه العملية في الواقع صرف وهو يشترط فيه القبض من الطرفين في المجلس , وذلك بأن يرد إليه الدراهم أولا ً , ثم يرجع الدراهم إليه ليأخذ منه الدنانير , ولكن الشريعة تنظر إلى النتيجة , لذلك أجازت دفع الدنانير بدل الدراهم في المجلس دون النظر إلى هذه الشكلية الطويلة .

 

 

 

 

 

يقول الإمام السبكي : ” …. دين بعين كما إذا كان عليه دينار فقال : بعتك الدينار الذي عليك بهذه العشرة دراهم فيجوز أيضاً بشرط أن يكون ذلك الدين مما يجوز الاستبدال عنه … , فجواز أخذ الدراهم عن الدنانير , والدنانير عن الدراهم الثابتة في الذمة حكى عن عمر , وابنه , والحسن والحكم وحماد وطاوس والزهري والقاسم بن محمد , وقتادة , وإبراهيم , وعطاء …. وهو مذهب 

الثوري , والأوزاعي , وإسحاق , وعبد الله بن الحسن , وأبي نور , وروي كراهة ذلك عن ابن مسعود , وابن عباس , وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود , وأبي سلمة , وأبي بن عبد الرحمن , وسعيد بن المسيب , وابن شبرمة وهو أحد قولي الشافعي   ,  وبجوازه قال أبو حنيفة , ومالك وأحمد   .

 

ويقول ابن قدامة : ” ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفاً بعين وذمة في قول أكثر أهل العلم   ,  وقال أيضاً ” فإن كان المقضي الذي في الذمة مؤجلا ًعقد توقف فيه , وقال القاضي : يحتمل وجهين :

 

أحدهما : المنع وهو قول مالك ومشهور قول الشافعي , لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه فكان القبض ناجزاً في أحدهما , والناجز يأخذ قسطاً من الثمن , والآخر : الجواز وهو قول أبي حنيفة  لأنه ثابت في الذمة بمنزلة المقبوض فكان رضى بالتعجيل   ,  ثم قال ابن قدامة : ” والصحيح الجواز إذا قضاه بسعر يومها , ولم يجعل للمقضي فضلا ًلأجل التأجيل … ” لأن النبي لم يستفصل ابن عمر حين سأله , ولو كان الحكم يختلف لسأل واستفصل , لأن البيان في وقت الحاجة واجب   .

 

لكن ابن قدامة نقل عن أحمد عدة مسائل في هذا الباب , منها : أنه قال : ولو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فدفع إليه ديناراً فقال استوف حقك منه فاستوفاه بعد يومين جاز   , ومنها : ما إذا كان لرجل على رجل دنانير فقضاه دراهم شيئاً بعد شيء , حيث قال أحمد : يصح إذا كان يعطيه كل درهم يحسابه من الدينار   ,  وكذلك إذا أعطاه الدراهم شيئاً بعد شيء ولم يقضه ذلك وقت دفعها إليه , ثم أحضرها وقوماها فإنه يحتسب بقيمتها يوم القضاء لايوم دفعها إليه   .

 

ولم يخالف في مسألتنا إلا ما نقل عن ابن عباس , وأبي بن عبد الرحمن وابن شبرمة , وابن مسعود   , غير أن السبكي نقل عن هؤلاء القــول بكراهته وليس بالمنع   . وأيـاً ما كان فالحــــديث المشـــــهور عن ابن عمـــر يـــدل على  جــواز ذلـك بوضــوح , حيث يقــول ابن عمر : ” كنت أبيع الإبل بالبقيع – وبالباء معروف وبالنون سوق المدينة – فأتيت رسول الله (صــلى الله عليه وسلم ) وهو في بيت حفصة , فقــــلت : ” يا رســـول الله رويدك أسألك أني أبيــع الإبل بالبقيــع فأبيــــع بالدنانير وآخــذ الــــدراهم , وأبــيع بالــدراهم وآخـــذ الدنــــانير , آخذ هذه عن هذه , وأعطي هذه عن هذه , فقال رســول الله (صلى الله عليه وسلم ) : ” لا بأس من أن تأخذ بسعر يومها ما لم يتفرقــا وبينهما شيء   ,  والحديث هذا – كما قال السبكي – إن لم يكن صحيحاً فلا أقل من أن يكون حسناً فينهض حجة , وقال أيضاً : ” كلام ابن عمر محتمل لأن يكون يعتاض عن الدنانير دراهم معينة  ويحتمل أن يعتاض عنها دراهم غير معينة , ….. ولا فرق في جواز الاستبدال بين أن يكون بعد تسليم المبيع أو قبله   , ويقول الشوكاني : دل الحديث على أن ما في الذمة كالحاضر   .

 

ب – ما في الذمة بما في الذمة , فيتم التقابض الحكمي , وذلك بأن تكون ذمة كل واحد من المتعاقدين مشغولة بمبلغ من النقود , وهذا يحتمل حالتين هما  :

 

1- المقاصة : وذلك بأن يكون ما في ذمة أحدهما مثل ما في ذمة الآخر في الجنس والصفة والقدر ووقت الأداء , ثم أبرأ كل واحد منهما الآخر برءت ذمتهما من غير حاجة إلى تقابض فعلي بينهما وسقط الدينان , وإذا كان الخلاف في المقدار فقط بأن كان دين أحدهما عشرين ديناراً  ودين الآخر عشرة ثم أبرأ كل واحد منهما الآخر بقدر الدين وقعت المقاصة في العذر المشترك , ويبقى على الآخر عشرة دنانير – مثلا ً–   .

 

2- تطارح الدينين –  كما سماه السبكي –    ,  وذلك بأن يكون الخلاف بين الدينين في الجنس كأن يكون على أحدهما دراهم , وعلى الآخر دنانير ,  ثم اصطرفا في الذمة , سقط الدينان , وبرأت ذمتهما , لوجود هذا التقابض الحكمي في الذمة . وهذه المسألة خلافية حيث  :  ذهب إلى عدم جوازها الشافعي وأحمد , والليث   , وذهب مالك إلى أن ذلك إنما يجوز إذا كان الدينان قد حلا معاً   , وذهب الحنفية إلى جوازه في الدين الحال وغير الحال   . 

 

ومنشأ الخلاف في هذه المسألة يعود إلى أنها هل تدخل في بيع الدين بالدين أو لا ؟ .

 

فالذين قالوا بعدم جوازها اعتبروها من باب بيع الدين بالدين ,  و الإجمـاع  قائم على ذلك قال ابن المنذر  :  ” وأجمعوا على أن بيع الدين بالدين لا يجوز   ,  بالإضافة إلى الاعتماد على ما روي أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) ” نهى عن بيع الكالىء بالكالىء   , لكن هذا الحديث ضعيف لا ينهض حجة , وقال ابن المنذر : ” إن إسناده لا يثبت , ونقل عن أحمد أنه سئل : أيصح في هذا حديث ؟ قال : لا   .

 

وأما الإجماع فلا يمكن التمسك في مسألتنا هذه لوجود الخلاف فيها , فيكون في غيرها أي يحمل على أن يكون للرجل على الرجل دين فيجعله عليه في دين آخر مخالف له في الصفة , أو القدر فهذا هو الذي وقع الإجماع على امتناعه , وهو في الحقيقة بيع دين بما يصير ديناً   .

 

وأما الذين أجازوها فلم يعتبروها من باب الدين , وإنما اعتبروا ما في الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة   ,  وحينئذ فقد تم التقــابض الحكمي الذي هو بمثابة التقابض الحسي , وهذا هو الراجح الذي يدعمه الدليل , وذلك لأن أدلة الفريق الأول لم تنهض حجة –  كما رأينا –  في حين أن أدلة الرأي الثاني واضحة , يقول ابن قدامة : ” ….. لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة و لذلك جاز أن يشتري الدراهم  بدنانير من غير تعيين ”    .

 

وأما الإمــام مالك في اشتراطه الحلول فقــد نظر – كما يقول ابن رشد – إلى أن حلول الأجلين في ذلك يقوم مقام الناجز بالناجز , وبذلك تفــادى في نظره كــون هذه المسألة من مسائل بيع الدين بالدين   .

 

وقد رجــح شيخ الإســلام ابن تيمية الرأي القـائل بجـواز هــذا التقابض والعقـد مطـلقاً , حـيث قال : ” وهذا أظهر , لأن قد برئت ذمة كل منهما من غير مفسدة , ولفظ النهي عن بيع الدين بالدين لم يروَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) لا بإسناد صحيح ولا ضعيف , وإنما في حديث منقطع أنه نها عن بيع الكالىء بالكالىء ” ….  وهذا مثل أن يسلف إليه شيئاً مؤجلا ًفي شيء مؤجل , فهذا الذي لا يجوز بالإجماع …. فهذه الصورة – أي التي نحن بصددها – وهي بيع ما هو ثابت في الذمة ليسقط بما هو ثابت في الذمة ليس في تحريمه نص ولا إجمـاع , ولا قياس  فإن كلا منهما اشترى ما في ذمته , وهو مقبوض له بما في ذمة الآخر , فهو كما لو كان لكل منهما وديعة عند الآخر , فاشتراها بوديعته عند الآخر , وهذا أولى بالجواز من شراء ما في ذمة الغير ” .

 

ثم أوضح الفرق بين مسألتنا هذه , ومسألة بيع الدين بالدين فقال : ” ولهذا كان الجواز في هذا خلاف مفسدة بيع الدين بالدين , فإن ذاك منع منه لئلا تبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت لا له ولا للآخر , والمقصود من العقود : القبض , فهم عقد لم يحصل به مقصود أصلا ً, بل هو التزام بلا فائدة , وهنا حصلت بالبيع براءة كل منهما , وهي ضد ما يحصل ببيع الدين بالدين ”   .

 

 

وأما ابن القيم فقد نفى أن يكون في بيع الدين بالدين نص عام أو إجماع , وإنما ورد النهي عن بيع الكالىء بالكالىء , والكالىء هو المؤخر الذي لم يقبض , كما لو أسلم شيئا في شيء في الذمة وكلاهما متأخر فهذا لا يجوز بالاتفاق , ثم رجح ما رجحه شيخه   .

 

ج – بيع الواجب بالساقط , وقد شرحه ابن القيم بقوله : ” وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كر –  مكيال –  حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دين , وسقط له عنه ديـن غيره ” ,  ثم قال : ” وقد حكى الإجماع على إمتناع هذا , ولا إجماع فيه , قاله شيخنا  –  أي ابن تيمية –  و إختار جــوازه , و هو الصواب إذ لا محذور فيه , و ليس بيع كالىء بكالىء ,  فيتناوله النهي بلفظه , ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى ,  فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة  ”  لكن مسألتنا هذه تبرأ منها ذمة الطرفين وتنتفع   .

 

فعلى ضوء ذلك إذا كان لشخص مبلغ من المال في ذمة آخر فجعله سلماً في طعام أو نحوه إلى أجل معلوم فإن هذا السلم صحيح عند ابن تيمية , وابن القيم مع عدم تحقق القبض الحقيـــقي للثمن الذي اتفق الفقهاء على اشتراط تسليمه في المجلس عند الجمهور , أو في حدود ثلاثة أيام عند المالكية   ,  ومع ذلك اعتبر ابن تيمية وابن القيـــم القبض الحكــمي فيه بمثابة القبــض الحقيقي , حيث اعتبر ما في ذمته حاضراً استلمته بعد عقد السلم مباشرة , وذلك لأن الغرض الأساسي من القبض قد تحقق , والشريعة لا تنظر في مثل هذه الأمور إلى الشكليات العقيمة .

 

د –  رهن الدين وقبضه : وذلك كما شرحه القاضي بن العربي حيث قال : ” كما يجوز رهن العين كذلك يجوز رهن الدين وذلك عندنا إذا تعامـل رجلان , لأحدهما على الآخر دين فرهنه دينه الذي له عليه وكان قبضه قبضاً , وقال غيرنا من العلماء ألا يكون قبضاً ”    .

 

هـ – قبض المهر المؤخر : وهذا ما أجازه القاضي ابن العربي حيث قال : ” وكذلك إذا وهبت المرأة طالقها – أي مهرها المؤجل – لزوجها جاز , ويكون قبوله قبضاً وخالفنا فيه أيضاً غيرنا من العلماء , وما قلناه أصح لأن الذي في الذمة أكد قبضاً من المعين , وهذا لا يخفى  ”   .