الدوحة – العرب
بعد أن عالج الشيخ علي محيي الدين القره داغي مواضيع الأمن الشامل في الإسلام، وتأصيل العمل الإنساني، ينتقل إلى موضوع مهم، هو: الإجارة في الإسلام.
يستكمل الشيخ علي محيي الدين القرة داغي حديثه عن الإجارة بالتطرق لعقد الإجارة، مشيراً إلى أن عقد الإجارة من عقود المعاوضات المسماة، وهو عقد لازم عند جمهور الفقهاء، حيث لا يكون لأحد الطرفين فسخها دون رضا الآخر، إلا لحق خيار الشرط، أو العيب، أو نحوهما. وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.
ونقل عن شريح: أنها غير لازمة، وتفسخ بلا عذر، لأنها إباحة المنفعة فأشبهت الإعارة. ورُدَّ بأنه القياس مع الفارق، لأن الإعارة بدون عوض، فهي تطوع وإحسان، في حين أن الإجارة معاوضة من الطرفين.
أما الحنفية فذهبوا إلى أنها عقد لازم، لكن تفسخ بعذر طارئ، قال الكاساني: “وأما صفة الإجارة فالإجارة عقد لازم، إذا وقعت صحيحة عَرِيّة عن خيار الشرط، والعيب، والرؤية، عند عامة العلماء، فلا تفسخ من غير عذر”. وقال أيضاً: “وأما شرط اللزوم فنوعان: نوع هو شرط انعقاد العقد اللازم، ونوع هو شرط بقائه على اللزوم.
أما الأول: فأنواع منها: أن يكون العقد صحيحاً، لأن العقد الفاسد غير لازم، بل هو مستحق النقض والفسخ رفعاً للفساد حقاً للشرع، فضلاً عن الجواز.
ومنها: ألا يكون بالمستأجر عيب في وقت العقد، أو وقت القبض يخل بالانتفاع، فإن كان لم يلزم العقد، حتى قالوا في العبد المستأجر للخدمة إذا ظهر أنه سارق له أن يفسخ الإجارة، لأن السلامة مشروطة فتكون كالمشروط نصاً كما في بيع العين.
ومنها: أن يكون المستأجر مرئياً للمستأجر، حتى لو استأجر داراً لم يرها ثم رآها فلم يرضَ بها أنه يردها، لأن الإجارة بيع المنفعة، فيثبت فيها خيار الرؤية كما في بيع العين.
وأما الثاني فنوعان:
أحدهما: سلامة المستأجر عن حدوث عيب به يخل بالانتفاع به (مثل استئجار دابة ثم تعرج، أو بيت فينهدم بعضه، أو شخص فيمرض)، فالمستأجر بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ، بخلاف البيع إذا حدث بالمبيع عيب بعد القبض فليس للمشتري أن يرده. فإن لم يفسخ، فعليه كمال الأجرة، لأنه رضي بالمعقود عليه مع العيب، فيلزمه جميع البدل. وإن زال العيب قبل أن يفسخ، بطل خيار المستأجر، لأن الموجب للخيار قد زال، والعقد قائم فيزول الخيار.
هذا إذا كان العيب مما يضر بالانتفاع بالمستأجر، فإن كان لا يضر به بقي العقد لازماً ولا خيار للمستأجر كالعبد (الشخص) المستأجَر إذا ذهبت إحدى عينيه، وذلك لا يضر بالخدمة، أو سقط شعره، أو سقط من الدار المستأجرة حائط لا ينتفع به في سكناها، لأن العقد ورد على المنفعة لا على العين.
والثاني: عدم حدوث عذر بأحد العاقدين، أو بالمستأجر، فإن حدث بأحدهما، أو بالمستأجر عذر لا يبقى العقد لازماً، وله أن يفسخ، وهذا عند أصحابنا، وعند الشافعي: هذا ليس بشرط بقاء العقد لازماً، ولقب المسألة أن الإجارة تُفسخ بالأعذار عندنا خلافاً له… لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر، لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد… فكان الفسخ في الحقيقة امتناعاً من حصول الضرر، وله ولاية ذلك.
ثم بيّن الكاساني تفاصيل الأعذار التي يفسخ بها العقد فقال: إن العذر قد يكون من جانب المستأجِر، وقد يكون في جانب المؤجر، وقد يكون في جانب المستأجَر.
أما الذي في جانب المستأجِر: “فنحو أن يفلس فيقوم من السوق، أو يريد سفراً، أو ينتقل من الحرفة إلى الزراعة، أو من الزراعة إلى التجارة، أو ينتقل من حرفة إلى حرفة، لأن المفلس لا ينتفع بالحانوت، فكان في إبقاء العقد من غير استبقاء المنفعة إضرار به ضرراً لم يلتزمه العقد، فلا يجبر على عمله”.
وأما الذي هو في جانب المؤجر فنحو أن يلحقه دين فادح لا يجد قضاءه إلا من ثمن العين المؤجرة.
وأما الذي هو في جانب المستأجَر، فمنه بلوغ الصبي الذي أجره أبوه أو جده أو وصيهما، ومنها أن لا يأخذ الصبي من ثدي الظئر.
لكن الحنفية لم يجعلوا الرخص أو التوسع من الأعذار، لأنه زيادة منفعة فلا يؤثر في العقد، فلا يجوز له أن يفسخ العقد لأجل أن أجرة الحانوت الذي أجره أغلى من غيره أو أضيق، غير أنهم قالوا: إذا كانت الأجرة لأموال اليتيم، أو الوقف أقل من أجرة المثل، تكون الإجارة فاسدة، وتلزم أجرة المثل.
ويظهر أن الحنفية مع الجمهور في لزوم عقد الإجارة، غير أن الأعذار الطارئة عندهم بمثابة العيوب التي تعطي حق الفسخ، وسيأتي لذلك مزيد من التفصيل عند الحديث على فسخ الإجارة.
وقد استدل الجمهور على كون عقد الإجارة ملزماً للطرفين بالأدلة من الكتاب والسنة التي تدل على وجوب الوفاء بالعقود، فمن الكتاب قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)، وقوله تعالى: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)، وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، ومن المعلوم أن الوفاء بالعقود والعهود لا يتحقق إلا بالتزام من التزم بالتزاماته، وهذا لا يتحقق إلاّ بالقول بالوجوب واللزوم.
وأما السنة فهناك أحاديث كثيرة في المؤدى السابق، حيث أكدت على وجوب الوفاء بالعقود والعهود والوعود، حتى جعل مخالفة الوعد من علامات النفاق، ويدل على ذلك القياس، حيث إن عقد الإجارة من عقود المعاوضات كالبيع، فيجب أن يكون ملزماً، بل إن الإجارة –كما قالوا– هي بيع المنافع، بالإضافة إلى العقل والمصالح.
ما يترتب على التكييف السابق:
أولاً- يترتب على كون عقد الإجارة من عقود المعاوضات المالية ما يأتي:
1 – أنه لا يجوز أن يكون في عقد الإجارة غرر كبير في الوجود، أو الحصول، أو الزمن، أو مقدار الأجرة، أو كيفية الحصول على المنفعة.
وبناء على ذلك فإن عقد الإجارة يتأثر بالغرر، وليس هو مثل التبرعات التي لا تتأثر به.
2 – أنه لا يجوز الجمع بين الإجارة والسلف (أي القرض، والسلم) وذلك لنهْي النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين البيع والسلف في أحاديث كثيرة.
ثانياً- يترتب على كون عقد الإجارة لازماً عدم جواز فسخه إلاّ برضا الطرفين، فلا يجوز لأحدهما أن يفسخه بإرادته المنفردة.
ثالثاً- إجراء خيار المجلس، حيث يكون للعاقدين حق الفسخ ما داما في مجلس واحد، خلافاً للحنفية والمالكية.;