جريدة الوطن – الدوحة

ظهرت في عصرنا الحاضر وسائل جديدة في كل مجالات الحياة، ونحن فعلاً أمام ثورات علمية وتقنية في عالم الاتصالات والمواصلات تجاوزت كل الثورات السابقة في عالم الصناعة، ونحوها.

ويبدو أن ثورة التقنيات المتطورة في عالم الاتصالات الإنترنت، وفيس بوك، وتويتر، والموبايل ساعدت كثيراً في تفجير ثورات في عالم السياسة، وساهمت في التجميع والتنظيم، والتحريك والتوجيه كما رأينا في ثورة تونس المبدعة، وبشكل أكبر في ثورة مصر العظيمة التي كانت مدرسة فعلاً في الحفاظ على الأموال العامة، والخاصة، والأخلاق والقيم السامية في التعامل مع الآخرين، والسلوكيات، حيث لم تشهد ساحة التحرير ـ المليئة بمئات الآلاف طوال عدة أسابيع، بل بالملايين في بعض الأيام ـ مشكلة أخلاقية من التحرش الجنسي، أو مشكلة مالية من السرقات، والنهب، ونحوهما، كما تبين أن بعض ما حدث في بداية الثورة كان من صنع فلول بعض الأجهزة الأمنية والشرطة للإساءة إلى الثورة.

والخلاصة أن الثورة كانت ثورة سلمية نظيفة طاهرة أعطت صورة حضارية طيبة للشعب المصري إلى العالم أجمع.

الرأي الثاني: المجيزون

وهم جمهور العلماء المعاصرين من معظم العالم الإسلامي، ومن أشهرهم فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله، حيث دافع عن هذا الرأي نظرياً، وشارك في مناصرة المتظاهرين بتونس، ومصر، وليبيا، واليمن وسوريا مناصرة كبيرة.

وقد استدل على جوازها بأدلة معتبرة في فتواه المنشورة في موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بتأريخ 6/4/2011م، وردّ على مَنْ قال: إنها بدعة بأن البدعة الممنوعة لا تكون في العادات والمعاملات، وإنما هي خاصة بالشعائر التعبدية، وأما العادات والمعاملات فالأصل فيها الإباحة، حيث أطال في ذلك النفس.

واستدل كذلك بأن تغيير المنكر والفحشاء والظلم والاستبداد واجب، وأن الفرد وحده غير قادر على ذلك، كما أن صوته لا يسمع في الغالب، بل لا يصل إلى هؤلاء المستبدين، ولكن صوت الجماعة من خلال المظاهرات مسموع، وحينئذ يدخل في القاعدة الفــــقهية القاضية بأن ما لا يتــــــم الواجـــــب إلاّ به فهو واجب، بالإضـافة إلى الآيات والأحاديث الدالة على وجوب التعاون على البر والتقوى وإزالة المظالم، وردّ الحقوق.

تحرير محل النزاع مع الترجيح

وقبل أن أذكر الرأي الراجح أقوم بتحرير محل النزاع حتى يكون الخلاف محددًا، والرؤية واضحة، ولا يقع خلط أو تلبيس، من خلال ما يأتي:

أولاً ـ أننا نقصد بالمظاهرات المشروعة التي نُرجحها: أن تتوافر فيها الشروط والضوابط الآتية:

1 – المظاهرات السلمية التي يتجرد أصحابها عن الأسلحة، وإن واجهتها الحكومة بالأسلحة ظلمًا وعدوانًا، فهذا لا يخرجها عن السلمية، أما الخروج المسلح على الحكومة فهذا أمر آخر ليس محل بحثنا هذا.

2 – المظاهرات التي تُقام، أو تنشأ بسبب وجود مظالم على العباد والبلاد، أو على فئة معينة، أو بسبب قيام الدولة بسنّ تشريعات وقوانين متعارضة مع أحكام الشريعة، كإباحة الربا، والخمور، والفسق والفجور، أو بسبب تقصير الدولة في تحقيق المعروف أو في تشجيع الفحشاء والمنكر، والبغي، أو بسبب تقصيرها في تحقيق التنمية الشاملة، ومكافحة الفقر والبطالة، أو بسبب تسببها في التضخم ورفع الأسعار، والاحتكار وغير ذلك من المفاسد والمضار التي تتعلق بالأمة، أو الشعب، أو الإقليم، أو أهل صنعة أو نحو ذلك.

 ومن التقصير، بل من المنكر أيضاً تقاعس الدولة عن القيام بواجبها نحو قضايا أمتها مثل قضية فلسطين، ونحوها، ناهيك عن الإضرار بها، وأما ولاء النصرة للمحتلين وأعداء الأمة والدين من دون المؤمنين، بحيث تساعد الدولة أعداء الدين المعتدين بأي دعم أو مساعدة ضد المسلمين المظلومين فهو من الكبائر قطعاً، بل قد تصل في بعض صوره إلى الكفر البواح.

ومن هنا فإن أي مظاهرة ضد الحكومة أو الشركة، أو نحوهما إذا لم يكن لها سبب مشروع، فليست مشروعة لما يترتب عليها من مفاسد دون مبرر مشروع.

3 – المظاهرات التي لها مقاصد مشروعة مثل رفع الظلم والعدوان، ومنع الفواحش والمنكرات، وتحقيق الخير والتنمية الشاملة، والإنصاف، ومكافحة الأمية، والفقر، والتضخم، والبطالة، وبعبارة موجزة لا بدّ أن تكون للمظاهرة مقاصد مشروعة، وغايات مرجوة، وأهداف منشودة.

أما المظاهرة دون هدف مشروع بل لأجل المظاهرة، أو لأجل مآرب شخصية أو حزبية فليست من هذه المظاهرة التي نتحدث عن حكمها في هذا البحث.

4 – أننا نقصد بالمظاهرات المشروعة: المظاهرات التي لا يقصد من خلالها ارتكاب المحظورات الشرعية المتفق عليها، ولا يصاحبها أصالة فعل المحرمات الثابتة.

ثانياً ـ التأصيل الدقيق للمظاهرات السلمية:

 إن المظاهرات السلمية ليست خروجاً على الحاكم، أو السلطة، وإنما لها ثلاث حالات، أو مراحل، وهي:

الحالة الأولى: أن تكون المطالبة بإصلاح النظام فقط سواء كان إصلاحاً شاملاً، أو لبعض الجوانب، فهذا أمر مشروع، بل مطلوب داخل في باب المناصحة لأولياء الأمور، ومن باب التواصي بالحق، ولا يدخل في باب الخروج على الحاكم قطعاً.

الحالة الثانية: أن تبدأ المظاهرات الشعبية العارمة مطالبة بالإصلاحات، ثم لا يستجيب لها الحاكم، وإنما يواجهها بالعنف والقتل والضرب والتعذيب، كما رأينا ذلك في تونس، ومصر، واليمن، وسوريا، وليبيا، ففي هذه الحالات تتغير المطالبة إلى التغيير وإسقاط نظام الحكم، وهذا أيضاً أمر مشروع، لسبيين:

السبب الأول: أن الشعب هم في نظر الإسلام أهل الحل والعقد على سبيل الحقيقة، فإذا طالب جميعهم، أو جماهيرهم العظمى بالحل وفسخ العقد، فهذا حق لهم كما أن لهم الحق في العقد والبيعة.

السبب الثاني: أن مقاصد الشريعة في نصب الحكام هي الحفاظ على مصالح البلاد والعباد، والحفاظ على الضروريات الست، والوطن، فإذا عكس الحاكم ذلك المقصد فبدأ بالفساد والإفساد، والقتل والتعذيب فقد فَقَدَ شرعيته، وأصبح بلا غطاء شرعي ولا شعبي.

 ثم إن هذه المطالبة ليست خروجاً على الحكم، وإنما استعمال الشعب حقه الذي منحه إياه تعالى.