صحيفة العرب القطرية
المراد بالعرف هو ما تعارف عليه الناس، واعتادوه، وألفوه حتى استقر في نفوسهم سواء كان عرفاً عملياً في تصرفاتهم، كتعارف الناس في تقسيم المهر إلى مقدم ومؤخر، أم عرفاً لفظياً كتعارف الناس على إطلاق «الولد» على الذكر دون الأنثى مع أنه في اللغة يشملهما.
والعرف قد يكون عاماً، وهو ما تعارفه الناس في كل البلاد قديماً كان أو حديثاً كدخولهم الحمامات للاستحمام نظير أجر معين، وقد يكون خاصاً بأهل إقليم، أو بلد معين، أو طائفة معينة كالتجار، والصناع، وأرباب الحرف.
ومن الثابت أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حينما بعث بالرسالة لم يهدم كل ما كان لدى العرب من أعراف ومعاملات، بل أقر منها الصالح، وأبطل الفاسد، وعدل ما احتاج إلى تعديل، فأقر من بيوعاتهم ما كانت قائمة على التراضي خالية عن الغرر والربا، وبقية المنهيات، وحتى في الأنكحة أقر أحد أنواعها وهو الذي يتم برضا الزوجين أمام الشهود يقدم فيه الخاطب المهر، كما أقر نظام القصاص والديات مع التعديل، فقد هاجر إلى المدينة فوجد أن أهل المدينة يسلفون (السلم) دون قيود، فضبط لهم السلم وقال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم).
كيفية الاستفادة من العرف
أولاً – يمكن للمجتهد أو المفتي أن يستفيد من هذه السنة المباركة، والقدوة الطيبة السابقة، حيث يمكنه النظر في العادات والأعراف الموجودة في عالم المعاملات والتجارة والاقتصاد، وغيرها، فما كان صحيحاً يحكم عليه بالصحة، وما كان فاسداً يحكم عليه بالبطلان، وما يحتاج إلى تعديل فيذكر له التعديلات المطلوبة شرعاً حتى يصبح صحيحاً وجائزاًَ، وهذا ما فعله الصحابة الكرام وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون حينما فتحوا البلاد وجدوا أمامهم كماً ضخماً من هذه العادات والأعراف، فأقروا صالحها، وألغوا فاسدها، وعدلوا ما احتاج إلى تعديل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لم يكتفوا ببيان الحكم الشرعي، بل أدخلوا صالحها وجيدها ضمن المنظومة الحضارية الإسلامية.
فقد أقرّ عمر نظام الدواوين -وهو نظام فارسي- فجعل للجيش ديواناً، وللخراج والجبايات والصرف ديواناً، بل أبقاها بلغات شعوبها، فقد أبقى ديوان العراق باللغة الفارسية، وديوان الشام بالرومية، وأكثر من ذلك أبقى كتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين، ولم يتغير ذلك إلاّ في عهد الأمويين.
كما أن تطبيقات الفقهاء المجتهدين الكبار كانت تسير على هذا المنوال، حيث تعاملوا مع الأعراف الموجودة على المنهج السابق، فهذا الإمام أبو حنيفة وأصحابه (رحمهم الله) أقروا عادة كانت سائدة منذ عصر الأكاسرة الفرس في العراق، وقالوا: إن الخراج يسقط عن صاحبه إذا أصابت زرعه جائفة فأتلفته، فقد جاء في الفتاوى الهندية بعد أن ذكر هذا الحكم: (المحمود من صنع الأكاسرة أن المزارع إذا اصطلم زرعه آفة في عهدهم كانوا يضمنون له البذر، والنفقة من الخزانة، ويقولون: المزارع شريكنا في الربح فكيف لا نشاركه في الخسران) ثم عقب عليه صاحب الفتاوى بقوله: (والسلطان المسلم بهذا الخلق أولى، كذا في الوجيز للكردري).
وصحح الحنفية الشروط التي تعارف عليها الناس ما دامت لا تتعارض مع نص من الكتاب والسنة والإجماع.
بل خالف محمد بن الحسن الشيباني إمامه أبا حنيفة بناء على العرف، حيث أجاز بيع النحل، ودودة القز بناء على أعراف الناس، كما أنه كان يذهب إلى الصباغين ويسأل عن معاملتهم وما يتواضعون عليه ليلاحظ ذلك في فتاويه فيما يقع بينهم.
ولا يقتصر دور العناية بالعرف على الحنفية فقط، فإن غيرهم كذلك قد أعطوا دوراً للعرف العملي، فالإمام مالك خصص بالعرف بعض النصوص مثل قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) حيث استثنى منهنّ المرأة الشريفة التي عُرْفُها ألا ترضع، جاء في أحكام القرآن لابن العربي: (ولمالك في الشريفة رأي خصص به الآية، فقال: أنها لا ترضع إذا كانت شريفة، وهذا من باب المصلحة).
وقد غيّر الإمام الشافعي معظم آرائه القديمة عندما جاء إلى مصر واطلع على أعرافها وعاداتها، كما اعتمد الإمام أحمد على العرف في تطبيق الأحكام وتفسير النصوص.
ومن هنا نستطيع القول بأن العرف معتبر عند الجميع وإنما الخلاف في اعتباره دليلاً وحجة من حيث هو، وفي التوسع فيه، ولذلك يقول القرافي: (نقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العادات والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، وليس كذلك، أما العرف فيشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها).
يقول السيوطي: (اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه الفقه في مسائل لا تعد كثرة) بل صاغ منها القاعدة القاضية بأن «العادة محكمة» وهي مسنودة بقول ابن مسعود: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) رواه عنه أحمد موقوفاً عليه.
ثانياً – ما أرجعه القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة إلى العرف، مثل مسائل الرضاعة، والنفقة، والقبض، ونحو ذلك كثير، فمثلاً قوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) قال الطبري: (أي بما يجب لمثلها على مثله، إذا كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر، وأن منهم الموسع والمقتر، وبين ذلك، فأمر كلاً أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته) وكذلك الحال في حالة الطلاق حيث يكون على الزوج أن يعطي متاعاً بالمعروف فقال تعالى: (مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) قال الطبري: (متاعاً بالمعروف الواجب على المحسنين). قال ابن قدامة: (والصحيح ردّ الحقوق المطلقة في الشرع إلى العرف فيما بين الناس في نفقاتهم، في حق الموسر، والمعسر، والمتوسط، كما رددناهم في الكسوة إلى ذلك). ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أن: هند بنت عتبة قالت: (يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلاّ ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) قال الحافظ ابن حجر: (فيه اعتماد على العرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قبل الشارع).