الوطن – الدوحة
يخص فضيلة الشيخ الأســــتاذ د.علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث والحـائـز على جائـــزة الدولة، والخبير بالمجامع الفقهية، الوطن بعدد من الكتب والدراسات والأبحاث العلمية التي عكف عليها خلال الفترة الماضية ليكون قارئ الوطن أول من يطالعها ويستفيد منها.. وأول هذه الكتب هو هذا الكتاب:(قضايا المرأة والديمقراطية: دراسة في الفقه والفكر السياسي الإسلامي).. وفيه يتناول فضيلته عددا من القضايا الكبرى التي تخص المرأة مثل: المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.. ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق السياسية الشاملة وتولى المرأة الوظائف السياسية العامة رئاسة الدولة، أو البرلمان، ورئاسة مجلس الوزراء، والوزارة والقضاء ونحوها.. وحق المرأة في الانتخاب والترشيح للبرلمان.. وسوف يصل في نهاية دراسته هذه إلى نتائج مهمة توصل إليها فضيلته.. وفي ما يلي الحلقة الثانية:
إشكاليات كبيرة أدت إلى ردّ فعل غير متوازن في بعض الفكر الإسلامي المعاصر.
في قضية المرأة حدثت إشكاليات كبيرة كان لها تأثير في الفكر الإسلامي القديم والمعاصر:
أولاً: خلط التقاليد والأعراف بالدين في مجال المرأة بشكل كبير، وكان لهيمنة الرجال دور كبير.
ثانياً: مسألة سدّ الذرائع التي حجزت عن المرأة تسعة أعشار حقوقها.
ثالثاً: أن الدفاع عن حقوق المرأة جاء في البداية على أيدي العلمانيين ومن يسمونهم بالمتنورين بالحضارة الغربية.
رابعاً: أن المستعمرين حاولوا ولا يزالون يحاولون استغلال موضوع المرأة لتحقيق مآربهم في الإفساد وخلخلة النظام السياسي والاجتماعي للهيمنة والاستكبار.
خامساً: أن الدعوات الغربية والعلمانية كانت معاكسة تماماً للتوجه الإسلامي حيث أرادت الإباحية وثقافة الجنس والقضاء على الأسرة كما ظهر ذلك جلياً في المؤتمرات الدولية للنساء في القاهرة، وفي بكين، كما ظهر في كتابات كثيرة ووسائل الإعلام حيث نستطيع القول بأنه لا توجد قضية أثير حولها من المسائل مثل قضية المرأة.
سادساً: إفراط الحركات النسوية في حقوق المرأة حتى فضلت المرأة على الرجال، ورفع شعارات معادية للرجل مثل الحرب من أجل عالم بلا رجال.
سابعاً: ارتباط بعض دوائر اتحادات النساء في القرنين 19 و20، والمدافعين عن حقوقها بالدوائر الاستعمارية.
ثامناً: الهجوم على الإسلام بصورة عامة، وبعض الأحاديث الخاصة بالمرأة مثل الحديث الذي يتحدث عن نقص عقل المرأة، وأنها خلقت من ضلع أعوج.
ردّ الفعل الإسلامي
أما النقاط السابقة كان لبعض الإسلاميين رد فعل عنيف حتى وصل بهم الأمر إلى التقليل من شأن المرأة، ومنهم قائم على الدفاع عن كل ما هو موجود في التراث، والتبرير لما حدث، والتعليل لذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وساعد على ذلك وجود مناهج متشددة حول المرأة، ومدارس مدعومة أيضاً من دول، ومستقوية بالتقاليد معها، ولكن المفروض بل المطلوب هو أن لا ندافع إلاّ عن الحق، وأن تكون نظرتنا إلى تراثنا العظيم نظرة غربلة فإفادة واستفادة، ونظرة اختبار واختيار وانتقاء دون تقديس ولا استقصاء، وبالتالي العودة إلى الينابيع الأصيلة لهذا الدين المتمثلة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المطهرة، ثم الاستفادة من كل قديم صالح، ومن كل جديد نافع، وأن الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها، وذلك من خلال منهجية جامعة بين النصوص الشرعية كلها، والنظرة إليها نظرة شمولية قائمة على مقاصد الشريعة ومبادئها العامة التي أصلت المساواة بين جميع البشر من الأصل كلهم من آدم وآدم من تراب وكلهم خلقهم الله تعالى من ذكر وأنثى، وكلهم مخلوقون لتحقيق العبودية والاستخلاف كل بقدره، كما يتضح ذلك فيما بعد.. وأن الطريقة الصحيحة لهذا المنهج هو عدم التأثر بما يقال ويثار في الخارج، وعدم التأثر بالموروث ما دام ليس نصاً ثابتاً، ولا بالشروح والتفسيرات للنصوص ما دامت هذه التفسيرات غير منصوص عليها، وما دامت النصوص تحتمل غيرها.
حقــوق المرأة السياسية في الدساتير العربية:
1 – دول ليست لها دساتير أو قوانين تنظم وتفسر الحقوق السياسية للمواطنين وهو ما يشمل الرجل والمرأة.
2 – دول أصدرت دساتير لكن لم تنص أحكامه على منح المرأة حق المشاركة السياسية مثل الكويت والإمارات وقد تم تعديل دستور الكويت أخيراً فأعطى هذا الحق للمرأة بضوابط الشريعة الغراء.
3 – دول عربية لها دساتير وقوانين تنص بوضوح على حق المرأة المشاركة السياسية (تونس، مصر، سوريا، العراق، الأردن، المغرب، لبنان، اليمن، البحرين، قطر) وغيرها فمن الملاحظ هنا أن التعامل مع الحقوق السياسية للمرأة في المجتمعات العربية ظل مرتهناً في بعض المجتمعات بعوامل متشابكة منها ما هو متصل بالموروث الثقافي والتقاليد، وتأويل النصوص الدينية.
وإن أهم المعوقات أمام تفعيل دور المرأة في الحياة العامة:
1 – الموروثات التاريخية المأخوذة من التقاليد وليست من الدين الحنيف والتي حصرت دور المرأة في أدوار محددة.
2 – مشكلة الأمية التي تلعب دوراً خطيراً وعائقاً لحركة المرأة في نشاطها الوطني والديمقراطي، من حيث إن الأمية هي النقيض لما يريده الإسلام منذ نزول أول سورة من دستوره القرآن الكريم التي تقول: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..)، والأمية لا يمكن حصرها فقط في معرفة الكتابة والقراءة ومعرفة المرأة حقوقها التشريعية والقانونية والسياسية فإن كل هذا يصبح هباء إذا كانت الأمية هي الأساس الذي يتحكم ويقنن نشاط المرأة في المجتمع.
3- الفجوة الكبيرة بين نصوص الدستور والقوانين المنظمة للعمل بالمساواة الممكنة بين الرجل والمرأة وبين تطبيقها على الأمر الواقع وبالتالي فقد أدى واقع المرأة إلى ابتعاد عن مجالات صنع القرار وإلى ضعف مشاركتها السياسية.
قضية المرأة والسياسة الاستعمارية والمحلية
حاولت الدول المستعمرة والطامعة في خيرات البلاد الإسلامية استغلال قضية المرأة بشكل خطير، فأنشأت بعض الاتحادات والمنتديات الخاصة بالنساء، وحاولت اختراق البعض الآخر، ويكفي للإشارة إلى ذلك أنه عند غليان الشعب المصري ضد الاحتلال الإنجليزي كانت هدى شعرواي التي أسست جمعية الاتحاد النسائي عام 1923 تنادي بأن التحرير من الاستعمار لا بدّ أن يسبقه تحرير المرأة، وكما أن صفية زغلول قادت مظاهرة نسائية أمام ثكنات الجيش الإنجليزي سنة 1919م بميدان التحرير يهتفن ضده وأثناء ذلك خلعت حجابها أمام المتظاهرات ضد الإنجليز وداسته برجليها، وتبعتها الأخريات، ونسين القضية الأساسية، وكانت درية شفيق التي انتحرت عام 1975 وأنشأت اتحاد بنت النيل في عام 1939م لها علاقة قوية بسفارة بريطانيا وأميركا في مصر، وكانت تدعو إلى الاقتداء بالمرأة الإنجليزية المتحررة.
ولذلك وقف المصلحون، والأحزاب الوطنية، مثل الحزب الوطني المصري برئاسة مصطفى كامل ضد هذه الدعوات وذلك أن وراءها أصابع استعمارية تهدف إلى إلهاء الأمة عن مصيرها.
ومن الجانب الداخلي استغلت قادة الانقلابات العسكرية العربية في فترة الخمسينيات هذه المسألة، من خلال تبني أيدولجية الشيوعية، أو الاشتراكية التي لا تعترف أساساً بمثل هذه القضايا الدينية، وتدعو إلى الإباحية المطلقة، وذلك لإبعاد الدين عن الحياة، حتى كانت المظاهرات الشيوعية في العراق بعد انقلاب عبدالكريم قاسم تدعو جهاراً نهاراً إلى إبعاد الدين عن الحياة، وعدم الاعتراف بالنكاح والمهور والقيود والعقود.
وفي عهد الاحتلال والهيمنة الجديدة ظهر الاهتمام الكبير بقضية المرأة من قبل الإدارة الأميركية برئاسة بوش التي وضعت الإصلاح السياسي والديمقراطي والتعليمي في طليعة أولوياتها حسب الخطابات الرسمية للرئيس الأميركي جورج بوش، وبدأت الضغوط السياسية تأخذ مجراها في هذا المجال.
وفي مصر فجرّ كتاب تحرير المرأة في عام 1908م لقاسم أمين قضايا المرأة ففتح أبوابها على مصراعيها، فطالبت منيرة ثابت عام 1919م بالحق السياسي للمرأة وشاركتها هدى شعراوي، ودرية شفيق، فطالبن بحق الترشيح والانتخاب وعضوية البرلمان للمرأة، ثم أيد ذلك الاتحاد النسائي المصري حيث جاء في نظامه الأساس (تعديل قانون الانتخاب بإشراك النساء مع الرجال في حق الانتخاب).
بل سعت المرأة المصرية لإنشاء أحزاب سياسية، فطالبت فاطمة نعمت راشد ودرية شفيق بإنشاء حزب سياسي ونجحت درية في إنشاء حزب بنت النيل.
وأدت محاولات النساء إلى إقناع بعض الكتاب والبرلمانيين إلى المطالبة بهذا الحق لهنّ حيث قدم في عام 1946 اقتراح إلى مجلس الشيوخ المصري يطالب بمنح المرأة حق الانتخاب بل قدم مشروع قانون بذلك إليه في عام 1947م و1948م، وأثناء ذلك صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها المنعقدة بباريس في 10- 12- 1948 وفي المؤتمر النسائي الذي عقد بالقاهرة في 19- 4- 1951 وقفت المرأة موقفاً عدائياً فارتفع صوت الشاعرة روحية القلليني بتحذير الرجال فقالت:
أمامكم ترون هدوء وجه
ولكن القلوب تكنّ ناراً
فما يثني عزائمنا وعيدٌ
فنار قلوبنا ازدادت أواراً
حيث خرجت النساء متظاهرات يطالبن بتقرير الحرية والمساواة في كل الحقوق والأجور، وتكررت هذه المظاهرة في 12- 3- 1954 فنتج عن ذلك دستور 1956 الذي أعطى الانتخاب حقاً للمصريين جميعاً ذكوراً وإناثاً.
وكان في مقابل الدعوات (التي خلطت بين الحق والباطل وركزت على السفور والتغريب) دعوات معتدلة من النساء الملتزمات إضافة إلى المفكرين المصلحين أمثال محمد عبده، ورفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وكان محمد علي باشا نفسه يرى أهمية تعليم البنات، فأنشأ مدارس لتعليم البنات عام 1832م مع منتهى الالتزام بآداب الإسلام وضوابطه، فمثلاً حينما افتتحت أول مدرسة ثانوية للبنات في القاهرة (مدرسة السنية) كانت هيئة التدريس نسوية خالصة فيما عدا مدرس اللغة العربية لتعذر وجود مدرسات للغة العربية، ومع ذلك كان يختار من الرجال المتزوجين الكبار المشهود لهم بالصلاح، وكانت الفتيات يحضرن إلى المدرسة في سيارات مغطاة بالستائر، ويعدن إلى البيوت بالوسيلة نفسها، أو يأتي وليّ الأمر مع موليته.
الفتاوى المتعارضة ودور الزمن فيها
كان علماؤنا في العصور الخيرة القرون الثلاثة الأُول لا يكتفون ببيان الأحكام الشرعية لمستجدات عصرهم فحسب، بل كانوا يستشرفون المستقبل من خلال وضع الحلول الشرعية لما كانت تجول في أفكارهم من مسائل مستقبلية احتمالية اشتهر بها علماء العراق الأحناف حتى سموا «أريتيّة» أي أرأيت إن كان كذا، وبعبارة أخرى استحضار الاحتمالات المستقبلية من خلال الحصر العقلي لها، ثم بيان الحكم الشرعي لكل حالة محتملة حيث قالوا: أرأيت لو أن امرأة من المغرب تزوجها رجل من المشرق عند الغروب، ثم مات عند الشروق، ثم تبين أنها حامل فولدت بعد ستة أشهر من هذا العقد؟ قالوا: إن الحمل يثبت منه بالفراش لاحتمال أنه طار بالليل إليها، ثم عاد فمات، وهكذا.