القبض الصحيح : هو أن يتحقق في القبض شروطه على ضوء ما في كل مذهب – كما سبق .

أما القبض الفاسد : فهو أن يتم القبض على عكس ما إشترطه كل مذهب , فمثلا ً لو تم قبض ما إشترط في قبضه الكيل بالوزن كان هذا القبض فاسداً , وهكذا في كل شرط , يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ” فلو اشترى قفيزاً من صبرة , أو رطلا ً من زبرة – أي الحديد – ونحو ذلك مما يشترط في إقباضه الكيل , أو الوزن فقبض الصبرة كلها أو الزبرة كلها , فإن هذا قبض فاسد لا يبيح له التصرف إلا بتميز ملكه عن ملك البائع , ومع هذا فلو تلفت تحت يده كانت مضمونة ً [1] .

 

قبض حلال وقبض حرام :

 

فالقبض قد يكون حلالا ً وهذا يتحقق في حالتين هما :

 

1- قبـض مأذون له من الشرع فقط دون إذن المستحق مثل قبض ولاة الأمور والحكام الأعيان المغصوبة من الغاصب , وقبضهم أموال الزكاة وحقوق بيت الأموال , وقبضهم أموال الغائبين والمحبوسين الذين لا يتمكنون من حفظ أموالهم , وقبضهم أموال المجانين , والمحجور عليهم بسفه ونحوهم , ومنها قبض المضطر من طعام الأجانب بغير إذنهم لما يدفع به ضرورته , ومنها قبض الإنسان حقه إذا ظفر به .

2- قبـض بعد إذن المستحق كقبض المبيع بإذن البائع , وقبض المستام , وقبض الرهــون والهبات والعواري , والودائع , وجميع الأمانات .

 

وأما القبض الحرام فهو قبض بغير إذن من الشرع ولا من المستحق , وهذا إنما يكون مع العلم بتحريمه كقبض المغصوب , فيأثم الغاصب , ولكنه مع ذلك يترتب على هذا القبض أثر وهو الضــمان , وكذلك القبض في العقــد الفاسـد والمخالف للشرع حتى ولو وجد فيه إذن من المستحق [2] .

 

 الحكمة من اشتراط القبض :

 

لمّا كانت المعاملات من النوع الذي يسميه معظم الأصوليون ” معقولة المعاني ” [3]  ,  ولذلك فالحكمة من القبض هي تمكين كل من العاقدين من الثمن والمثمن , وحيازته , إذ أن العقد دون الوصول إلى المعقود عليه عبث لافائدة منه , فالغرض من بيع شيء هو استيفاؤه وحيازته , ولذلك نص المحققون على أن المقصود بالعقود هو التقابض[4]  .

 

وفي عصرنا الحاضر تظهر حكمة إشتراط القبض أكثر ولا سيما في النقــود الورقية , حيث يمكن أن تحدث خسارة كبرى , أو ربح كبير خلال دقائق , فلو اشترى – مثلا ً– إنسان لديـه عملة يابانية من آخر لديــه دولارات , ولم يتم التقابض , ثم جاءت النكسة للدولار – حيث انخفض بنسبة 20% – أو ما يؤدي ذلك إلى خصومة ونزاع ولا سيما إذا كانت الصفقة كبيرة , فلو كانت مائة مليون تكون الخسارة عشرين مليوناً , فوضعت الشريعة حداً فاصلا ً عن طريق القبض , ولذلك نهت الشريعة عن كل عقد يؤدي إلى نزاع ومشاكل , ولهذا السبب نفسه نهـت عن بيع ما ليس لدى الإنسان , والغرر ونحو ذلك   .

 

 

ما يشترط فيه القبض الفوري :

 

إذا كان العقد في الصرف (والنقــود ) فلا بد من القبض داخل المجلس , حيث إنه جامع المتفرقات .

 

ثم إن الجمهور  –   أي الحنفية والشافعية والحنابلة  –   لم يشترطوا الفورية في الصرف ما دام المجلس باقياً [5]  , ولذلك كان بإمكان أحد العاقدين فيها أن يسلم الثمن أو المثمن في آخر المجلس حتى ولو عقده في أول المجلس , حتى قال ابن قدامة وغيره : ” ولو تماشيـا مصطحبين إلى منزل أحدهما , أو إلى الصراف فتقابضا عنده جاز ….. ” لأنهما لم يفترقا قبل التقابض , فأشبه ما لو كان في سفينة تسير بها …. وقد دل ذلك حديث أبي برزة الأسلمي للذين مشيا في جانب المعسكر  ” وما أراكما افترقتما ” [6].

 

غير أن المالكية إشترطوا القبض الفوري في الربويات قال ابن رشد : ” إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف وإن لم يفترقا ……” وسبب الخلاف ترددهم في مفهوم قوله (صلى الله عليه وسلم ) : ” إلا هاء و هاء ” [7] ,  وذلك أن هذا يختلف بالأقل و الأكثر , فمن رأى أن هذا اللفظ صالح لمن لم يفترق من المجلس  أعني أنه يطلق عليه أنه باع ” هاء و هاء ” –  قال : يجوز التأخير في المجلس , ومن رأى أن اللفظ لا يصح إلا إذا وقع القبض من المتصارفين على الفور قال :  ” إن تأخر القبض عن العقد في المجلس بطل الصرف … ” [8] .

 

و الراجح هو رأي الجمهور , و ذلك لما روى البخاري و مسلم مسندهما عن مالك بن أوس أنه التمس صرفاً بمائة دينار , فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا , حتى اصطرف مني , فأخذ الذهب يقلبها في يده , ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة , وعمر يسمع ذلك , فقال : والله لا تفارقه حتى تأخذ منه , قال رسول الله ” الذهب بالورق رباً  إلا هاء و هاء ….” [9]  ,  وجه الاستدلال أن عمر فسر حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ” إلا هـاء وهاء ” بأن لا يفترقا في المجلس , قال ابن الأثير : ” هاء وهاء ” هو أن يقول كل واحد من المتبايعين : هاء فيعطيه ما في يده كالحديث الآخر : ” يداً بيد ” يعني مقابضة في المجلس [10] ,  و ذكر المزني أن حديث عمر هذا وإن كان يحتمل القبض الفوري , و القبض في المجلـس لكن تفســيره من خــلال قولـــه لمالك بن أوس : لا تقابض حتى تعطيه ورقة , أو ترد إليه ذهبه , يدل على أن المــراد به التقابض في المجلس  [11]  .

 

وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ” يـداً بيـد ” [12]  , فلا يدل على إشتراط القبض الفوري بعد العقد مباشرة حتى وإن ظل المجلس قائماً , وكذلك لا يدل على إشتراط القبض باليد , وإنما المقصود به أن يتم القبض الفعلي في المجلس , قال الخطابي في شرح هذه الأحاديث ” فيه بيان أن التقابض شرط في صحة البيع في كل ما يجري فيه الربا من ذهب وفضة وغيرهما من المطعوم وإن اختلف الجنسان ” وقال شراح الحديث : ” يداً بيد ” أي حالا ً مقبوضاً في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر[13] .

 

بل إن جماعة من شراح الحديث فسروا ” يـداً بيـد ” أي عيناً بعين , بدليــل روايــة لمسلم بلفــــظ ” عيناً بعين ” [14]  بدل ذلك , أي لا يكون عيناً بدين أو ديناً بدين , لأن ذلك ربا .

 

وقد حصر الحنفية إشتراط القبض في المجلس على الصرف فقط ( والنقود )  أما غيره من الربويات فلا يشترط فيه إلا التعيين في المجلس , جاء في الدرالمختار : ” و المعتبر تعيين الربوي في غير الصرف  –  ومنه مصوغ ذهب وفضة –  بلا شرط تقابض ,  حتى لو باع برّاً ببرّ بعينهما وتفرقــا قبل القبض جــاز ” [15] ,  قال ابن عابدين : ” لأن غير الصرف يتعين بالتعــيين  ويتمكن من التصرف فيه فلا يشترط قبضه , قياساً على الثياب ونحــوها …, والتقابض قبل الافتراق بالأبدان ليس بشرط لجوازه إلا في الذهب , والفضة ” [16] .  

 

وأما الشافعية والحنابلة [17] ,  فإشترطوا التقابض في المجلس في كل الربويات سواء بيعت بجنسها أم بغير جنسها , وأما المالكية فقد اشترطوا الفورية في جميع الربويات [18] .

 

ورأي الشافعية ومن معهم هو الراجح لورود أحاديث صحيحة ثابتة متفق عليها تدل بوضوح على إشتراط كون البيع في الربويات ” يداً بيد ” سواء كان في مختلفي الجنس , أومتفقيه [19]  .  

 

وأما غير الربويات  (من المنقولات والعقارات ونحوهــا )  فلا يشترط فيه القبض الفوري , ولا القبض  في المجلس [20]  .

 

ويمكن تلخيص ما قلناه بأن العقود بالنسبة إلى التقابض على أربعة أقسام :

 

منها : ما يجب فيه التقابض قبل التفرق بالإجماع , وهو الصرف .

 

ومنها : مالا يجب بالإجماع كبيع المطعومات وغيرها من العروض بالنقدين الذهب والفضة .

 

ومنها : ما يشترط فيه التقابض عند الشافعي ومالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة وهو بيع الطعام بالطعام  حيث يكتفى فيه بالتعيين في المجلس .

 

ومنها : ما يشترط فيه التقابض الفوري عند مالك وهو الصرف خلافاً لأبي حنيفة والشافعي , وأحمد [21]  .


 


([1]) مجموع الفتاوى , ط. السعودية (29/400- 401) .

([2]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/71) بتصرف تغيير في أقسام القبض حيث قسمه إلى ثلاثة أقسام  و يراجع ” القواعد ” لابن رجب الحنبلي , ط. الكليات الأزهرية ص (56) .

([3]) ذكر بعض العلماء أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه تعبدي لكن الراجح أنه معقول المعنى , لأن الشارع له غرض وحكمة من ذلك . تراجع المصادر الفقهية والحديثية السابقة .

([4]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (29/402- 403 ) .

([5]) حاشية ابن عابدين (4/82) و الغاية القصوى (1/465) والروضة (3/278) والمغني لابن قدامة (4/59)

([6]) المغني (4/59 – 60) , ويراجع الحديث في الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي (4/451) حيث قال وهكذا يروى عن أبي برزة الأسلمي أن رجلين اختصما إليه في فرس بعدما تبايعا وكانوا في سفينة فقال : ” لا أراكما افترقتما ” .

([7]) جزء من الحديث الصحيح الذي رواه البخاري , وصححه – مع الفتح – (4/379- 383) ومسلم (3/1208)

([8]) بداية المجتهد (2/197) وبلغة السالك (2/369) والموطأ ص ( 393 ) .

([9]) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع (4/377) ومسلم , المساقاة (3/1209) .

([10]) فتح الباري (4/380) .

([11]) مختصر المزني بهامش الأم (2/138) .

([12]) روى مسلم في صحيحه (3/1211) وغيره بلفظ ” الذهب بالذهب , والفضة بالفضة والبر بالبر , والشعير بالشعير , والملح بالملح مثلا ً بمثل , يداً بيد ….” .

([13]) عون المعبود شرح سنن أبي داود (9/199) وتكملة المجموع لابن السبكي (10/96) .                  

([14]) صحيح مسلم , المساقاة (3/1210) .

([15])  الدر المختار حاشية ابن عابدين (4/182- 183) .

([16]) المصدر السابق نفسه .

([17]) الروضة (3/378) والغاية القصوى (1/465) والمغني (4/11) .

([18]) الموطأ ص ( 410) .

([19]) انظر صحيح البخاري – مع الفتح – (4/379- 383) ومسلم (3/1208- 1212) والموطــأ (ص 410) ومسند الشـــافعي ص (48) وأحمد (3/4 , 5/49) والمستدرك (2/43) والسنن الأربع وغيرها .

([20]) المصادر الفقهية السابقة .

([21]) تكملة المجموع لابن السبكي (10/93) .