جريدة الراية القطرية
قال فضيلة د. علي محي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: إن السيرة النبوية العطرة، تركز على صناعة الإنسان المتزن المتوازن في تصرفاته وأخلاقه، وفي كل ما يصدر منه، بل في كل ما يمكن أن يُفهم من إشاراته وحَركاته وعِباراته وعبراته، مشيرًا إلى أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أولى عناية قصوى بهذه التربية المتوازنة المتزنة، لأنها تصنع الرجال، وتصنع الأبطال، الذين يستطيعون أن يصمدوا أمام الأهواء والإغراءات والشهوات على مر الزمان.
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها أمس: إن التربية الشريفة كانت تركز على هذا الجانب، وهي ليست بالأمر السهل، لأن صناعة المؤمن المتوازن المتزن الذي يعيش ومن حوله بحار من الأهواء والشهوات والنفسيات المختلفة، وليست بالأمر السهل لأنها تحتاج إلى أن يُصبح هذا المؤمن المتزن بعيدًا وغير متأثر بأهوائه الأنانية والقبلية والقومية وغيرها التي تتعلق بالمال والسلطان والجاه. فإذا وُجدت هذه الأهواء في داخل الإنسان فلن يكون الإنسان قادرًا على التوازن الحقيقي مهما حاول، لأن هذه الأهواء تدفعه أول ما تدفعه إلى الأنانية وإلى الكبرياء وإلى مصالحه الشخصية، التي تقدّم على جميع المصالح، ثم بعد ذلك تنتقل هذه الأهواء إلى جوانب أخرى وهي الجوانب القبلية والقومية وغير ذلك من هذه الجوانب، التي تدفع بالإنسان إلى أن لا تكون أقواله حقًا ولا تصرفاته عدل، إنما تدفع مثل الرياح التي تدفع بأغصان الأشجار يمينًا وشمالاً فلا يكون حينئذ متزنًا ولا متوازنًا.
وأشار إلى أنه نظرًا لخطورة التوازن أنزل الله سبحانه وتعالى سورتين تبدآن بالويل، وكلتاهما في مجال عدم التوازن والازدواجية في الأقوال والأفعال والتصرفات، وعدم كون الإنسان متوازنًا ومتزنًا مع ما يؤمن به ومع ما يفعله لنفسه وما يفعله لغيره.. السورة الأولى تتحدّث عن هؤلاء الذين ليسوا متوازنين في كسب الحقوق والواجبات وإنما لهم معياران ولهم مكيالان، معيار ومكيال لنفسه فيريد له كل ما يريد من مال وجاه وسلطان، والمعيار الثاني يريد أن يكون لغيره النقص والتطفيف والخسارة في كل شيء في اعتباره وحقوقه الشخصية والمعنوية وفي حقوقه المادية والسياسية والاجتماعية.. فيقول الله سبحانه وتعالى لهؤلاء المطففين، لهؤلاء الذين لهم مكيالان، لهم معياران، لهم ازدواجية في أحكامهم وتصرّفاتهم يقول الله (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ) وهذه السورة ليست في مجال المكاييل المادية فقط، وإنما تشمل جميع أنواع المكاييل والموازين، لأنها كلها موازين. فمن هم المتطففون؟، شرحه الله سبحانه وتعالى ذلك بذاته العلية فقال: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ)، إذا كان لهم حق على الآخرين، أي حق سواء كان حقًا ماديًا أو معنويًا في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو المال، دائمًا يُطالبون بحقوقهم، ويأخذونها وزيادة، ولكن إذا كانت عليهم الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمادية والمعنوية (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)، يُنقصون بشتى أنواع التهم والادعاءات التي ما أنزل الله بها من سلطان. فلذلك بدأت السورة بالويل والويل له معنيان الأول: هو شدة العذاب والثاني: أن الله خصّص لهؤلاء واديًا من جهنم تستعيذ منها جهنم من شدة نارها وبطشها لأنهم يستحقون ذلك.
كلمة خطيرة
وأشار إلى أن السورة تبدأ بهذه الكلمة الصعبة ثم تنهي الآية بكلمة خطيرة جدًا تشكك في إيمان هؤلاء (أَلا يَظُنُّ أُوْلَـئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ)، ولم يقل رب العالمين ألا يتيقنون، فلو كان عند هؤلاء حتى الظن الغالب بأن هناك يومًا آخر وأن هناك القيامة وأن الإنسان يُبعث في قبره ثم بعد ذلك يُساق يوم الحشر إما إلى النار أو إلى الجنة لما فعلوا ذلك، لأن الإنسان العاقل إذا ظن أو إذا علم بأن هذه التجارة فيها خسارة فلن يقدم عليها، هذا توبيخ شديد وتأنيب شديد لهؤلاء المتطففين، لأنه تتعارض هذه العملية مع التربية النبوية وما يريده القرآن الكريم للإنسان المؤمن، فنحن شهداء على الناس (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، والشاهد يجب أن يكون عادلاً والعادل يقول الحق ولو على نفسه ولو على الأقربين .