جريدة الشرق – الدوحة
تعتبر قضية الديون السلبية قضية اقتصادية بالدرجة الأولى لما لها من آثار على اقتصاد الفرد والأسرة ومن ثم على اقتصاد الدولة التي هي عبارة عن مجموع هؤلاء الأفراد وهذه الأسر؛ وفي إطار الرعاية الإعلامية لحملة “الدين.. شين” التي أطلقتها مؤسسة الشيخ ثاني بن عبدالله آل ثاني لمكافحة الديون السلبية التقت الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ليلقي الضوء على جوانب من هذه القضية التي باتت تؤرق المجتمع وتهدد تماسك الأسر لما لها من آثار سلبية كبيرة.
موقف الإسلام من الدَّيْن
يقول الأستاذ الدكتور علي القره داغي: إن الإسلام في موقفه من الديون يفرق بين المدين (المقترض) والدائن (المقرض)، فبالنسبة للمقترض يحذره الإسلام كثيرا من الآثار السلبية للديون عليه وعلى أسرته سواء كانت هذه الآثار مادية أو اجتماعية أو اقتصادية وينفره منها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ مع الكفر من الدين، فهل هناك تنفير من الديون أكبر من أن يقرن الرسول بينه وبين الكفر؟! وأيضا من أدعيته المأثورة عليه السلام قوله: “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال” ومن العجيب أن الأصناف التي استعاذ منها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء كلها لها علاقة بالدين سواء كانت علاقة سبب أو نتيجة؛ فالإنسان إذا كان مدينا بالتأكيد يكون مهموما وحزينا، وملاحقة الدائنين له تجعله يتهرب منهم وهذا نوع من الجبن، والعجز والكسل من أسباب الدين حيث إن الإنسان العاجز والكسول لا يعمل وبالتالي يضطر للاستدانة.. فإذا اضطر للاستدانة فإن الإسلام يأمره بأداء الدين وأن يحسن الأداء فعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء”. ونهاه عن المماطلة في سداد الدين إن تيسر له ذلك. وأضاف أن الإنسان لا ينبغي أن يستدين إلا إذا كان قادرا على الأداء ولا يكون همه الحصول على السلعة إلا إذا كانت لديه وسائل واضحة للسداد كراتب منتظم يستطيع أن يدخر منه لسداد الدين أو لدفع الأقساط وبما لا يخل بالتزاماته المالية تجاه بيته وأسرته، أو لديه ما يبيعه لسداد الدين وما إلى ذلك من الأمور.
أما بالنسبة لموقف الإسلام من الدائن فإنه يحثه على تقديم العون لمن يطلبه وألا يمنعه، ورغب الإسلام في ذلك بأدلة وأحاديث تجل عن الحصر منها قوله عليه السلام: “اليد العليا خير من اليد السفلى” وقوله: (إن السلف يجري مجرى شطر الصدقة) أي إذا أقرضت شخصا ألف ريال مثلا فكأنك تصدقت عليه ب 500 ريال.
اعتقاد غير صحيح ◄
وحول مدى وعي المزكين والمحسنين بأهمية مصرف الغارمين ودوره الاجتماعي في تحقيق التكافل في المجتمع قال د. علي محيي الدين إنه ليس هناك الوعي الكافي لدى المزكين حول مصرف الغارمين، فبعض الناس يظن أن الزكاة للفقراء والمساكين والمجاهدين فقط، وهذا اعتقاد غير صحيح لأن الزكاة لها ثمانية مصارف كل منها له الأولوية والأهمية حسب ظروف كل مجتمع، ففي مجتمع يسود فيه الفقر ويهلك الناس من الجوع والحاجة تكون الأولوية للفقراء والمساكين وفي بلد يحارب أعداء الإسلام ويجاهدهم يكون تفعيل مصرف “وفي سبيل الله” له الأولوية وهكذا.. فالأمر يحتاج إلى محاضرات وتوعية وبرامج مقروءة ومرئية للتوعية بهذه الأمور، وقد أعجبني في حملة مؤسسة الشيخ ثاني بن عبدالله هذا التوجه الكريم بتخصيص جانب من الحملة للتوعية بأخطار الديون السلبية، والدعوة إلى ترشيد الإنفاق، والتعريف بمصرف الغارمين وبيان أهميته، لذلك أؤيد هذا التوجه وأشكر مؤسسة “راف” على هذه الحملة المتميزة وأدعو الجميع إلى مساندتها ودعمها أفرادا وجماعات ومؤسسات حكومية خاصة.
أسباب الديون ◄
وحول الأسباب التي تدفع الناس للاستدانة يرى د. القره داغي أن الأسباب يمكن تقسيمها إلى قسمين: الأولى أسبابمقبولة والثانية أسباب غير مقبولة، أما الأسباب المقبولة فهي أن يقع في حاجة شديدة لظرف ما وبالتالي يحتاج إلى أن يقترض أو يستدين، كمن خسر ماله في تجارة أو أصابه مرض وليس لديه مال للعلاج أو لا يجد ما يسد به جوعته أو يطعم أطفاله ويكسوهم.. فهو هنا يدخل في باب الاضطرار ويكون سبب الاستدانة قويا ومشروعا. أما الأسباب غير المقبولة فهي كثيرة وكلها يدخل في باب الكماليات والرفاهيات والمباهاة والمفاخرة، كما هو الحال لدى بعض الشباب الذين يريدون أحسن سيارة وأحسن بيت وأحسن جوال، في الوقت الذي لا يملكون من المال ما يوفر لهم هذه الأشياء فيلجأون إلى الاستدانة والاقتراض مندفعين وراء هذه الرغبة الجامحة و”طيش الشباب”.. وهؤلاء نقول لهم إن التدرج سنة الله في الكون، فقد خلق الله سبحانه وتعالى السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان قادرا على أن يقول لها كن فتكون، ولكنه سبحانه يعطينا أنموذجا لأن نتعلم التدرج في الأمور كلها، فليس العيب أن تركب سيارة صغيرة أو قديمة بعض الشيء أو أن تسكن بيتا صغيرا وأنت في مقتبل حياتك ومع التدرج في الوظيفة وزيادة الدخل تستطيع تحقيق آمالك وشراء كل ما ترغب ما دامت إمكاناتك المادية تسمح لك بذلك ولكن العيب أن تركب سيارة احدث موديل أو أن تسكن قصرا منيفا وكل ذلك بالديون وأنت لا تملك ريالا والدائنون يطاردونك في كل مكان.
آثار سلبية ◄
وأكد الدكتور القره داغي أن الديون لها آثار سلبية كثيرة على الفرد والمجتمع، حيث يضعف المدين ويجبن أمام الدائن، وقد يتعرض للسجن والبعد عن أولاده وتتشتت أسرته، وربما أدى الأمر إلى طلاق الزوجة تحت وطأة الضغوط التي تواجهها في غياب الزوج ماديا ونفسيا واجتماعيا، ويصير أولاده كالأيتام وهو على قيد الحياة، وتسوء سمعته ويفصل من وظيفته وبعد أن كان شخصا له وضعه الاجتماعي والوظيفي وينظر إليه الجميع باحترام وتقدير أصبح نزيل سجون ومثار شفقة الجميع.
ومن الآثار السلبية للديون عدم الاستفادة من هذه الأموال؛ فالديون أموال مقتولة ليس عليها دخل ولا يمكن الاستفادة منها أو استثمارها، خاصة حين يعجز المدين عن السداد، كما أن لها أضرارا على مستوى الاقتصاد والإنتاج وتهدد عمل البنوك والمؤسسات المالية وترفع نسبة الديون المتعثرة والمشكوك في تحصيلها مما يؤثر بالسلب على أداء الجهاز المصرفي بالدولة، مشيراً إلى أن الديون تؤثر بالسلب على الدول، وأمامنا نموذج واضح في أمريكا وهي أكبر دولة في العالم نراها تعاني وتتألم وتم خفض تصنيفها الائتماني، كل ذلك بسبب الديون، فما بالكم بالأفراد؟!
علاجات ◄
وأوضح القره داغي أن الإسلام يتدخل بمجموعة من العلاجات للقضاء على هذه الآثار السلبية للديون أو الحد منها، على جميع المستويات؛ فعلى مستوى المقترضين حذر الإسلام من الدين ونفر منه كما أوضحنا سالفا، وعلى مستوى الدائنين أرشدهم القرآن إلى أنظار المعسر غير القادر على السداد وعدم الضغط عليه مادام غير مماطل فقال تعالى “وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة” فأمرهم أن تكون لديهم سماحة في اقتضاء الدين، عن عبدالله بن أبي قتادة: أن أبا قتادة طلب غريما له فتوارى عنه، ثم وجده، فقال: إني معسر. فقال: آللهِ؟ قال: آللهِ. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه) رواه مسلم.
ولا تقتصر المسؤولية تجاه علاج هذه المشكلة على الأفراد بل إن الدولة عليها مسؤولية أيضا للحد من هذه الظاهرة من خلال وضع الأنظمة والقوانين التي تحد من كثرة الديون بأن تمنع البنوك أن تكون يدها مطلقة في منح الديون، وتكون هناك آلية معينة تحد من هذا الأمر وتكون هناك رقابة على البنوك من البنك المركزي فيما يخص عملية الإقراض.
والأمة أيضا عليها مسؤولية إعانة المعسرين والغارمين من خلال ما شرعه الله على القادرين وهي الزكاة التي خصص ثمنها (% 12.5 ) للغارمين بنص قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل..).
رسائل ◄
وفي نهاية حديثه وجه د. القره داغي رسائل إلى كل من الشباب ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمؤسسات الخيرية، الرسالة الأولى للشباب وعامة الناس دعوة خالصة بألا يقدموا على الديون إلا في حالات ضيقة ويحسبون ألف حساب للقدرة على السداد وهذا منهج الإسلام في الاستدانة.
الرسالة الثانية لمؤسسات المجتمع المدني أن تولي العناية القصوى للتوعية بخطورة الدين وآثاره السلبية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأن تحذو حذو مؤسسة “راف” في هذا الأمر.
أما وسائل الإعلام فمطلوب منها المشاركة الفعالة الدائمة وليس كحملات وقتية في شهر رمضان أو غيره، بل تكون هناك حملات إعلامية بشكل منهجي ومبرمج للتوعية بهذه القضية المهمة من كل جوانبها.
وأما المؤسسات الخيرية كصندوق الزكاة وغيره فعليها أن تخصص جزءا مناسبا من الأموال لسداد ديون الغارمين والتفريج عنهم، وإنشاء إدارة مستقلة للدراسة الوافية للحالات والتواصل مع الجهات المعنية كوزارة الداخلية والمجلس الأعلى للقضاء لمعرفة ظروف هؤلاء المساجين الذين تورطوا وهم الآن في مشكلة يحتاجون لمن يمد لهم يد العون والمساعدة، مع استبعاد المحتالين الذين يجعلون الديون تجارة ويستغلون روح العطف والكرم التي يتسم بها المجتمع المسلم عموما والقطري خصوصا ليلعبوا على مشاعر الناس ويأخذوا أموالهم بغير حق، أما من تورط في الدين ولم يستطع السداد لظروف قاهرة واستدان لحاجة ماسة فهؤلاء ينبغي إنقاذهم بعد دراسة حالاتهم.