الدوحة – جريدة الرشق
الحلقة : السادسة
شغلت قضية العلاقة بين الراعي والرعية في ظل الحكم الرشيد ، الفكر الإسلامي طويلا، ماذا يريد الإسلام أن تكون عليه هذه العلاقة؟ وما هي كيفيتها، وما الذي يحدد أطرها؟ الإسلام يريد أن تكون هذه العلاقة قائمة على أساس المحبة المتبادلة، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهذه المحبة تنبثق من الإيمان والاخوة الإيمانية، وتترتب عليها حقوق وواجبات، وأما أساس العلاقة فهو العقد الذي بموجبه يعطي الشعب أو ممثلوه البيعة للحاكم، حيث قد يكون هذا العقد مشافهة ـ كما كان في السابق ـ أو مكتوباً من خلال الدستور الذي اختاره الشعب أو ممثلوه الحقيقيون، والذي يُحدد الحقوق والواجبات، أو من خلال عقد مكتوب ..
حول هذه القضايا ومشكلات تلك العلاقة بين الراعي والرعية وما يجب أن تكون عليه وعن الأسس والمبادئ التي تنظم هذه العلاقة في ظل الحكم الرشيد في ضوء الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة وفقه الميزان، والمآلات، وتحقيق المناط ورعاية الواحب والواقع، والمتوقع، يدور أحدث أبحاث فضيلة الشيخ في رمضان المبارك التي خص بها دوحة الصائم، وفيما يلي الحلقة السادسة:
أولاً ـ الحرية الفكرية
إن الحرية الفكرية في الإسلام ليست مجرد حق للإنسان، وإنما هي حق الله تعالى على الإنسان أيضاً ، وهذه الحرية تقتضي عدة أمور من أهمها : احترام العقل والعناية به ، وتشغيله ، وتحريكه ، وعدم تجميده من خلال التقليد ، والتعصب ، وهذه الأمور وغيرها بارزة جداً في الإسلام فقد أعلى من شأن العقل ، ورفع شأنه ، فجعله مناط التكليف ، فلا تكليف إلاّ بالعقل ، وجعله دليلاً على وجوده ، وحجة على وحدانيته ، بل أمر الله تعالى بالرجوع إليه عند الاختلاف العقلي فقال تعالى : “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” .
وقد استعمل القرآن الكريم مشتقات “عقل” في تسع وأربعين آية ، بصيغة الفعل الماضي “عقلوه” مرة واحدة ، والبقية بفعل المضارع، سواء بلفظ الغائب (يعقلها) مرة واحدة ، أم بلفظ المتكلم مع الغير (نعقل) مرة واحدة ، أم بلفظ الجمع الغائب (يعقلون) اثنتين وعشرين مرة أم بصيغة الجمع المخاطب (تعقلون) أربع وعشرين مرة.
ولم يرد لفظ (العقل) بالاسم معرفاً أو نكرة في القرآن الكريم ولكن ورد مرادفه مثل (الألباب) وهو جمع اللب وهو العقل ست عشرة مرة ، و(الحُلُم) بضم الحاء واللام بمعنى العقل مرتين ، و (حِجْر) بكسر الحاء وسكون الجيم بمعنى العقل مرة واحدة ، و (النُهَى) بضم النون وفتح الهاء بمعنى العقل مرتين و (القلب) وجمعه ، في عدة آيات ، و (الفؤاد) وجمعه في عدة آيات أخرى، إضافة إلى آيات كثيرة في النظر والتدبر ، والتبصر ، ونحوها.
فهذه الآيات الكريمة الكثيرة حول العقل ومصطلحاته الأخرى يفهم منها بوضوح ما يلي :
1 ـ احترام العقل ، والثناء عليه وأنه له مكانة عظيمة في الإسلام ، وأنه الشاهد الثاني بعد شاهد الوحي لصدق الرسالات السماوية التي خاتمها الإسلام ، وبالتالي فلا يمكن أن يتعارض النقل الصحيح الخالي عن العواض مع العقل السليم ، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً في أحد عشر مجلداً حول (درء تعارض العقل والنقل) حيث أثبت أن هذا التعارض غير وارد فضلاً عن البحث عن الجمع بينهما ، وهو بذلك رد على عدد من العلماء الذين حاولوا التوفيق بينهما عند التعارض .
وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه ، وذلك لأن العقل مخلوق لله تعالى والوحي منزل من عنده ، فكيف يتعارض كتابه المنزل المسطور مع كتابه المفتوح؟
2ـ الأمر بإعمال العقل وتشغيله ، حيث قال الله تعالى : “قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ” وقال تعالى : “قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ” . ومع الأمر الرباني أرشدنا القرآن الكريم إلى النظر الشمولي في خلق السماوات والأرض ، والنظر الجزئي التفصيلي في كل شيء من هذا الكون ، وفي الأنفس والآفاق .
وفي الحث على النظر الشمولي العام يقول الله تعالى : “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” . وفي الحث على النظر الجزئي يقول الله تعالى : “وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” .
وهاتان الآيتان ختمتا بقوله تعالى “لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” مما يدل على أهمية العقل ، والحث على تشغيله وتفعليه ، ووردت كذلل آيات كثيرة في هذا المعنى ، وتختم كذلك إما بنفس الخاتمة ، أو بما هو قريب منه .
وفي النظر إلى الأنفس يقول الله تعالى : “وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ” بل يقول القرآن الكريم بكل ثقة وثبات : إن الآيات الكثيرة في الأنفس والآفاق التي يكتشفها العلم على مرّ الزمن ستؤدي لا محالة إلى هداية العقل هداية كاملة إلى الإيمان بأن هذا القرآن هو الحق حيث يقول تعالى : “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”. وقد أثنى الله تعالى على العقل وصاحبه في عدة آيات ، فأسند إليهما فضل القدرة على التذكر والتفقه والاتعاظ والاعتبار ، فقال تعالى : “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” وقال تعالى بعد ذكر عدة آيات كونية : “……. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ” بل إن الله تعالى حصر التذكر النافع في أصحاب العقول فقال تعالى : “وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ”.