اعتبر فضيلة الشيخ د. علي محيي الدين القره داغي اهتمامنا جميعاً بالثورات العربية ليست إلا لأجل الأمل الحقيقي بأن هذه الثورات تحقق الخير لأمتنا الإسلامية، لأن الأمة المكبوتة، والأمة التي يتحكم في رقابها الظلمة والمستبدون لا يمكن أن تبدع ولا يمكن أن تنتج، وقال فضيلته إن القرآن الكريم قال في سورة النحل: «وَهُوَ كَلٌّ عَلَى» مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ»، لأن العبد للآخر والمقيد بالأغلال والاستبداد والدكتاتورية لا يفكر إلا بأن يحمي نفسه، ولا يفكر إلا بما يرضي هذا الظالم الطاغي حتى لا يعتدى عليه، ولا يفكر في الغالب إلا بالوسيلة للحصول على المال من هؤلاء المستبدين والظلمة.. مضيفا: أملنا بالله أن تعود هذه الأمة إلى عهدها، وهذه الثورات هي بداية الطريق، والثورات تعطيك الحرية ولكن الأمة بعد ذلك يجب أن تعمل ويجب أن تخطط ويجب أن تأخذ بسنن الله تعالى في النصر. واكد فضيلته في خطبة الجمعة امس بجامع السيدة عائشة رضي الله عنها بفرق كليب على الجانب الآخر الذي يوجب العناية به وهو الجانب الإسلامي الأخوي وقد شبهنا الرسول بالجسد الواحد، فعندما نحس بما يمر به إخواننا في مصر وندعو لهم ونتضرع من الله أن يوفقهم فأنت مأجور على ذلك، لأنك تحقق أوامر الله سبحانه وتعالى وتنفذ أوامره الذي أمرك بأن تكون أخا لأخيك، وتحس بآلامه وآماله، فدعائنا الدائم والمستمر أن يوفق الله الدول التي انتصرت فيه هذه الثورات مثل مصر وتونس واليمن وكما ندعو الله سبحانه وتعالى لإخواننا في ليبيا أن يوفقهم الله لانتخاب مجموعة مخلصة متخصصة قادرة على وضع دستور يعبر عن هوية هذه الأمة وهي الإسلام.
وأضاف: لا يجوز لأمة إسلامية مهما كانت أن تقبل بأي هوية إلا الإسلامية «ورضيت لكم الإسلام دينا»، فالله رضي لنا ولا يمكن لمسلم أن يرضى إلا بهذه الهوية، وهذه الهوية خير وبركة ورحمة ليس للمسلمين فقط وإنما أيضا لغير المسلمين، ولكن وسائل الإعلام المعادي في الداخل والخارج جعل الإسلام كأنه شبح وخوفوهم من الإسلام ليس للغربيين وإنما للداخل أكثر، فما تفعله وسائل الإعلام العلمانية البغيضة الموالية التي من بقايا الفلول ما لا تستطيع أن تفعله وسائل الإعلام الصهيونية أو الأميركية لأنه من داخلنا، ويجب أن نبقى حذرين وداعين أن يوفق إخواننا في هذه المسيرة.
محرقة حقيقية
وقال: وما زلنا نرى جريمة العصر وما حدث ويحدث في سوريا لا يمكن أن يوصف إلا بجريمة العصر كله إذا كان لليهود هولوكوست واحد في ألمانيا، فإن كل يوم في سوريا محرقة حقيقية.. وكان للاتحاد العلمي لعلماء المسلمين مؤتمر في إسطنبول وحضره عدد كبير من العلماء والسياسيين وأبطال الجيش الحر وبقية الفصائل وحضره عدد كبير من العلماء وقادة الحركات الإسلامية والذي سمعناه في هذا المؤتمر منهم، يندى له جبين الإنسانية ويشيب لها الرأس وتهتز لها القلوب وتلين لها الجلود، فلا يمكن للإنسان أن يصبر أمام ما يحدث من خلال ما عرضوه لنا من صور التي لا يمكن أن يتصور أن يفعلها لا وحش ولا أسد وأي حيوان من الحيوانات، أما هؤلاء الشبيحة فيعملونا من باب الشهوة والانتقام. وقد نتج من المؤتمر تشكيل هيئة من العلماء ليكونوا بمثابة المرجعية للمجلس الوطني السوري لدعمهم وهذا هو الطريق الصحيح، لأن صلاح الدين الأيوبي نجح وحوله علماء وكان يقول: «لم ينصر الله صلاح الدين بما فعله في حطين وإنما نصره بهؤلاء العلماء» وكان يسند النصر إلى العلماء لا إلى نفسه.. والأمر الآخر تم تشكيل هيئة لمقابلة مسؤولين على مستوى العالم حتى نخبرهم بما يحدث ونطلب منهم أن يفعلوا بما تقتضيه المصلحة بالإضافة إلى حملة فضائية لإغاثة المحتاجين واللاجئين.
العلماء في المقام الأول
وقال القره داغي يجب على العلماء أن يكونوا في المقام الأول، وأن يقفوا كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف موقف القدوة والسبق، قدوة معنوية وفعلية، كما قال سيدنا علي رضي الله عنه: بأننا كنا نحتمي بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا حمي الوطيس. فلا يمكن للعالِم أن يكون عالماً وهو قاعد في برج عاجي وهو يصدر الفتاوى، فلابد أن يكون العالِم مع شعبه، يعيش مع شعبه، ويستشهد مع شعبه، وقد سيمنا هذه الجمعة بجمعة النصرة وطلبنا من جميع العلماء المسلمين اليوم أن يتضرعوا إلى الله وأن يقرؤوا القنوت والدعاء في السجود لنصرة إخواننا المظلومين المضطهدين في سوريا ونحن نشاركهم في هذا، ولعل الله أن ينصرهم قبل رمضان أو في رمضان حتى يكون عيدنا أعيادا بإذن الله سبحانه وتعالى.
الوقت نعمة
وكان فضيلته قد بدا خطبته متحدثا عن نعم الله سبحانه وتعالى للإنسان التي لا تعد ولا تحصى، ومن أعظم هذه النعم وأكثرها أهمية، نعمة لا يقدر معظم الناس قيمتها، إلا حينما تضيع أو تذهب، وهذه النعمة العظمى هي نعمة الوقت، هذا الوقت الذي نعيشه، وهو عمرك في حقيقته، فما الإنسان إلا ذلك الوقت، وما الحياة إلا تلك الأوقات، من يوم ولادتك إلى يوم مماتك، كما قال بعض السلف ما أنت إلا كتلة من الوقت فإذا ذهب بعضها انتقصت بعضها وأصبحت في انتظار أن تنتهي البقية.. فالوقت ليس أغلى من الذهب فقط وإنما هو الحياة بكل ما تعني هذه الكلمة، والحياة لا تقدر بثمن، ولا تقدر بذهب ولا بما هو أكثر منه قيمة.
وأشار فضيلته إلى أن الله الله سبحانه وتعالى بين أهمية الوقت، ولهذه الأهمية أقسم الله سبحانه وتعالى بالوقت كله، وبأنواع الوقت كلها، فأقسم بالعصر وأقسم بالضحى والفجر والليل، وفي حالات كثيرة جداً، ولِتحوّل الليل والضحى وبغير ذلك من أنواع الوقت، حتى يشعرنا ذلك بأهمية الوقت وأهمية الزمان، وأن الله سبحانه وتعالى يسألنا عن ذلك كما ورد ذلك في الآيات القرآنية الكريمة حيث يقول الله سبحانه وتعالى: «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح ثابت: «لا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُن وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ»، سؤال عام حينما تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، يسألك عن تقرير مجمل شبه تفصيلي عن حياتك، من يوم ما بلغت إلى يوم أن مت، ما الذي فعلت؟ ثم بعد ذلك يعاد السؤال مرة أخرى لأهمية فترة من الزمن «وعن شبابه فيما أبلاه» هذا الوقت العظيم وهو وقت الشباب الذي هو من أعظم الأوقات، وقت القوة ووقت النشاط وقت الحماس والحركة وقت الإبداع والتمكين والتعلم والاستثمار.. ولذلك ورد في حديث صحيح آخر يقول فيه الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم «اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك» لا تضيع دقيقة واحدة، ولا ثانية واحدة من حياتك، لأنك حينما تموت وعندما يأتيك ملك الموت ما من عبد إلا وهو يطلب العودة إلى الدنيا، إن كان صالحا يقول يا ربي أمهلني حتى أزداد من الأعمال الصالحات، وإن كان سيئاً يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعيده إلى الحياة حتى يعمل عملا صالحا ليغفر الله سبحانه وتعالى له. وهذا الذي يجري في نفس الإنسان عند الموت وكذلك تحدث هذه الحالة عندما يوضع الإنسان في قبره أو في أي مكان آخر بعد موته فيحيا حياة برزخية، فأول ما يحيا ويحس والملك يسأله فيطلب من ربه قبل أن تسأله الملائكة بأن يرده الله سبحانه وتعالى إلى الحياة الدنيا، أما في المرة الثالثة وهذه المرة لأهل النار، حينها يطلبون من خازن النار أن يعيدهم إلى الدنيا حتى يعملوا الأعمال الصالحات، ولكن لا ينفع هذا الطلب لا عند الموت لأن الأجل محدد بالزمن والثانية وأقل من الثانية، ولا كذلك بعد الموت فليس هناك عودة إلى الدنيا مرة أخرى، وكذلك بالنسبة لأهل النار فلن يعودوا أبدا إلى الدنيا لأن هذه سنة الله سبحانه وتعالى، أعطى الله سبحانه وتعالى الفرصة الكاملة والزمن الكامل للإنسان في هذه الحياة الدنيا سواء كان هذا العمر طويلا أم قصيرا أم متوسطا.
استثمار الأوقات
وقال إن الله سبحانه وتعالى أولى في كتابه الكريم عناية قصوى باستثمار هذه الأوقات، وقد قرأت كثيرا عن استثمار الوقت، وهناك آلاف الكتب عن هذا الموضوع، ولكنني لم أجد كتابا يوضح لنا حقيقة الوقت والخطة الاستراتيجية لاستثمار الوقت مثل القرآن الكريم، غير أن الله سبحانه وتعالى أراد لهذه الأمة أن تبتلى بهذا الوقت، بينما بقية الأمم ولاسيما الأمة الغربية قد استفادت بعد ضياع طويل من الحروب والمشاكل والانشغال، فاهتدت إلى أنها لا بد أن تعود إلى الوسائل التي تحقق السعادة لهم في دنياهم، فقاموا بتربية الأجيال تربية قوية صامدة وحازمة وحاسمة حول مسائل احترام الوقت وحول احترام العمل وحول احترام الإبداع، فبذلك استطاعت هذه الأمم الأوروبية خلال أقل من مائة سنة أن تنهض هذه النهضة الكبرى، ولحقت بهم بعض الدول الآسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين، فاستفادوا من الوقت للإبداع والاستثمار فوصلوا إلى ما وصلوا إليه، وكل هذه الدول ولا سيما الدول الآسيوية المتقدمة ليس لديهم لا البترول ولا المعادن سوى استثمار العقل والوقت.