ظهرت في عصرنا الحاضر وسائل جديدة في كل مجالات الحياة، ونحن فعلاً أمام ثورات علمية وتقنية في عالم الاتصالات والمواصلات تجاوزت كل الثورات السابقة في عالم الصناعة، ونحوها.

ويبدو أن ثورة التقنيات المتطورة في عالم الاتصالات الإنترنت، وفيس بوك، وتويتر، والموبايل ساعدت كثيراً في تفجير ثورات في عالم السياسة، وساهمت في التجميع والتنظيم، والتحريك والتوجيه كما رأينا في ثورة تونس المبدعة، وبشكل أكبر في ثورة مصر العظيمة التي كانت مدرسة فعلاً في الحفاظ على الأموال العامة، والخاصة، والأخلاق والقيم السامية في التعامل مع الآخرين، والسلوكيات، حيث لم تشهد ساحة التحرير المليئة بمئات الآلاف طوال عدة أسابيع، بل بالملايين في بعض الأيام مشكلة أخلاقية من التحرش الجنسي، أو مشكلة مالية من السرقات، والنهب، ونحوهما، كما تبين أن بعض ما حدث في بداية الثورة كان من صنع فلول بعض الأجهزة الأمنية والشرطة للإساءة إلى الثورة.

والخلاصة أن الثورة كانت ثورة سلمية نظيفة طاهرة أعطت صورة حضارية طيبة للشعب المصري إلى العالم أجمع.

أدلة المانعين:

استدل معظم هؤلاء الفُضَلاء بمجموعة من الأدلة يمكن تلخيصها فيما يأتي:

الدليل الأول: أن هذه المظاهرات بدعة مستحدثة لم تكن معروفة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام.

وبما أن المظاهرات تدخل في وسائل الدعوة فيجب أن تكون مما ورد فيه دليل معتبر، وذلك لأن وسائل الدعوة توقيفية فلا يجوز إحداث وسائل جديدة فيها بغير دليل، وهذا هو مسلك يميل إليه الشيخ الألباني رحمه الله. في كثير من المسائل، ومنها مسألة المظاهرات، ويوافقه كثير من تلامذته.

ويمكن أن يناقش هذا الدليل بما يأتي:

أولاً: لا نسلم أن وسائل الدعوة تعبدية توقيفية، لأن كون الشيء توقيفياً محصور في الشعائر التعبدية مثل الصلاة، ومقادير الزكاة، ومناسك الحج، والصيام، وأما المعاملات والعادات فالأصل فيها الإباحة، وأنها معللة بعلل وحكم واضحات، ولذلك فإن وسائل الدعوة هي وسائل للتعبير عن التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي غير توقيفية، بل مرتبطة بمقاصدها، وهي التبليغ، كما هو الحال في كثير من الوسائل والأدوات المستعملة اليوم في الدعوة والتبليغ.

ثانياً: ولو سلم ذلك لما سلّمنا بعدم وجود دليل وأصل على عمومية وسائل الدعوة لكل وسيلة قديمة وجديدة مشروعة، حيث توجد أدلة معتبرة من الكتاب والسنة على وجوب البيان والتبليغ مطلقاً فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» وقال تعالى: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ»، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية».

الدليل الثاني: هو أن هذه المظاهرات أخذت من الكفار ولم تكن معروفة في العصور الإسلامية الأولى، وبالتالي فإنها تَشَبُّه بالكفار، وهو منهيّ عنه محرم.

ويمكن أن يُجاب عن هذا الدليل بأن التشبه بالكفار إنما يكون محرماً إذا كان التشبه خاصاً بالجانب الديني، أو مقصوداً به الكفر، ولذلك جاءت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، مبينة ما يدخل في المحرمات في هذا المجال: ثانياً: ما كان من ذلك مقصوداً به التنسك والتقرب، أو التعظيم كسباً للأجر، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية، أو نحوهم من طوائف الكفار فهو بدعة محدثة….، ثم صرحت الفتوى بوضوع بأن: (ما كان المقصود تعظيم الأعمال مثلاً لمصلحة الأمة، وضبط أمورها كأسبوع المرور، وتنظيم مواعيد الدراسة، والاجتماع بالموظفين للعميل ونحو ذلك مما لا يفضي إلى التقرب به، والعبادة، والتعظيم بالأصالة فهو من البدع العادية التي لا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ».

ولأجل ذلك لم نسمع من أحد علماء المملكة العربية السعودية أنه يقول بحرمة اليوم الوطني للمملكة، أو لغيرها، أو أسبوع المرور، ونحو ذلك.

وبناءً على ذلك فإن المظاهرات هي تعبير عن الاستنكار عن شيء محرم، أو عن الرضا عن شيء نافع فلا يراد بها التعبد، ولا التقرب، ولا التعظيم، وإنما يراد بها توصيل رسالة جماعية، أو شعبية إلى الحكومة، أو الجهة المعنية، فلا يمكن وصفها بأنها بدعة محرمة، أو أنها تَشَبُّه بالكفار، بل هي وسيلة للتعبير عما يريده الإنسان، وبالتالي تكون معتبرة بنتائجها وغاياتها ومقاصدها.

الدليل الثالث: أن المظاهرات فتنة من الفتن التي تؤدي إلى الفرقة بين المسلمين، وتمزيق كلمتهم، ومن المعلوم أن إثارة الفتنة محرمة بالإجماع، وبالأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ».

ويمكن أن يناقش هذا الدليل من عدة وجوه:

الوجه الأول: أن لفظ «الفتنة» قد تكرر في القرآن الكريم، ولها معان كثيرة، يقول الأصفهاني: «أصل الفتن إدخال الذهب النار، لتظهر جودته من رداءته» ثم ذكر بأنه استعمل في القرآن الكريم بمعنى العذاب، وسبب دخول النار، والاختبار، الامتحان بالخير والشر، ثم قال: «والفتنة من الأفعال التي تكون من الله، ومن العبد، كالبليّة والمصيبة، والقتل، والعذاب…، ومتى كان من الله يكون على وجه الحكمة، ومتى كان من الإنسان… يكون بضدّ ذلك، ولهذا يذم الله تعالى الإنسان بأنواع الفتنة في كل مكان، أي إذا كانت منه، نحو قوله تعالى: «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ»، وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ».

الوجه الثاني: أن المراد بالفتنة هي الفتنة في الدين وأن الآية الكريمة التي استشهد بها المانعون هو في ما كان المشركون يقومون به من وسائل الإيذاء والتعذيب للمؤمنين المستضعفين لإرجاعهم عن دينهم أي فتنتهم في الدين، أو ما كان يقوم به المنافقون من الوسائل المؤدية إلى الفتنة في الدين.

فقد ذكر الطبري في تفسير قوله تعالى: «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» أي: «والشرك بالله أشد من القتل، وقد بينت فيما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار، فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه أشدّ عليه وأضرّ» ثم نقل روايات كثيرة تؤيد هذا المعنى.

وقد فسّر قوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» أي: حتى لا يكون شرك بالله، فالفتنة هي ما يؤدي إلى الشرك بالله تعالى خوفاً، بأن يطغى المشركون على المؤمنين فيفتنونهم عن دينهم كما فعلوا مع عمار بن ياسر، وكما فعلوا مع المستضعفين بمكة المكرمة.

وفسر علماء التفسير من السلف الفتنة في قوله تعالى: «يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» بالشرك بالله تعالى، وقالوا في قوله تعالى: «فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» أي لا تسلط الظالمين علينا فيزدادوا فتنة فيظلمونا ويفتنونا في ديننا.

وجاء في تفسير القرطبي في تفسير قوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ»: قال ابن عباس، وقتادة، والربيع، والسّدي، وغيرهم: الفتنة هنا: الشرك، وما تبعه من أذى المؤمنين بل إن القرطبي ذكر أقوالاً في مجال الفتنة يظهر منها بوضوح: أن الفتنة تقع عندما يسكت المسلمون عن ظلم الظالم المفسد الذي «سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ» حيث قال: وهذا لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة، ووقع القتال، وفيه هلاك الخلق… وهذا عبارة عن إيقاع الفتنة والتضريب بين الناس.

وبناءً على ذلك فليست المظاهرات السلمية بضوابطها من الفتنة المحرمة، ولا داخلة في الآية التي استشهد بها هؤلاء المانعون، والله أعلم.

الدليل الرابع: أن المظاهرات لا تخلو من المفاسد والمحظورات الآتية:

1- السب والشتم واستعمال الكلمات البذيئة، والهمز واللمز، وهذه ليست من صفات المؤمنين المتقين.

2- حمل شعارات مخالفة للإسلام.

3- إتلاف بعض المال العام، أو الخاص.

4- الاختلاط بين الرجال والنساء.

5- خروج النساء من البيت الذي خالف القرار في البيت، وارتفاع صوت النساء.

6- تضييع الصلوات مطلقاً، أو في جماعة.

7- اندساس بعض المخربين الذي يتعمدون التخريب.

8- القتل والسجن، والتعذيب الذي يترتب على هذه المظاهرات من قبل قوات الأمن والشرطة، وبالتالي فإنها مؤدية إلى الفساد.

9- أنها غير مضمونة العواقب، حيث قد تنجح، وقد تفشل تاركة وراءها عدداً من القتلى والجرحى، بالإضافة إلى التنكيل والآثار السلبية على الشعب من قبل النظام وأجهزته الأمنية.