الحلقة : السادسة
بيّن الله تعالى أن عدم تفعيل الولاء والنصرة بين المؤمنين يؤدي إلى فتنة كبيرة؛ لأن أهل الكفر والشرك والالحاد أمة واحدة، وهم ولاء بعضهم لبعض أمام المسلمين، فقال تعالى: (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ).
وهذا الولاء والحب والنصرة للمؤمنين على ميزانين:
أ ـ ميزان الحرب، فيجب على المؤمن نصرة المسلمين، ومقاطعة المعتدين، والغلظ عليهم، والبراءة منهم، وعدم إظهار المودة والمحبة لهم، وهذا ما بينه القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ).
ب ـ ميزان السلم، حيث يجب على المؤمن البر والاحسان، ويجوز له التعايش، والتعامل مع الآخر كما حدد هذه العلاقة قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، ومن المعلوم أن هاتين الآيتين من سورة الممتحنة التي تبدأ بالبراءة من أعداء الله تعالى، مما يفهم منها بوضوح أن البراءة والمقاطعة تخص الأعداء المعتدين فقط.
ولذلك فلا تعارض بين الولاء لله وللمؤمنين والبراء من الأعداء والمعتدين مع الاحسان والبر إلى غير المعتدين، ولا مع المودة الشخصية “الحب على أساس العلاقات الشخصية” وليس على أساس الكفر.
القاعدة الثانية: تحقيق قاعدة الأخوة الإيمانية وآثارها
دلت النصوص الشرعية على أن أسس العلاقات بين المسلمين تقوم على أخوة قائمة على الدين مقدمة على جميع الوشائج، دون أن تلغيها، ولكنها تتقدم عليها بحيث إذا تعارضت الاخوة الإيمانية مع وشائج القربى من الأبوة والبنوة والقرابة الأخرى ولم يمكن الجمع بينهما) فإن الاخوة الإيمانية هي التي يجب أن تتقدم، وعلى هذا تكاثرت الآيات والأحاديث الكثيرة، وإجماع المسلمين، وتربية رسول الله للجيل الأول، وعلى هذا سار الخلفاء الراشدون، والصحابة الكرام (رضوان الله عليهم أجمعين).
وهذه الإخوة الإيمانية التي تصهر المسلمين في بوتقة واحدة وليست مجرد شعار يرفع، أو خطبة تقال وإنما لا بدّ أن تكون واقعاً مجسداً تترتب عليه الآثار الآتية:
1. الجسد الواحد، واليد الواحدة
يريد الإسلام من المسلم أن يكون مع أخيه كالجسد الواحد وكالبنيان الواحد يشد بعضه بعضاً، بل كاليد الواحدة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ويقول أيضاً: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، (وشبك بين أصابعه).
2. غير متكبرين، بل أذلاء بعضهم أمام بعض:
من المعروف أن الذل منبوذ في الإسلام، وأن العز هو المنشود، ولكن الله تعالى أمر بالذل وأثنى عليه في موضعين فقط، وهما الذل للوالدين (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة…) والذل للمؤمنين فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين….) فقد رتب الله تعالى على حب هذا القوم المختارين من الله لله تعالى، وحب الله تعالى لهم: أن يكونوا أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين، وأن المراد بالذل هنا ذل اليسر واللين، فالمؤمن ذلول للمؤمن، غير عصي عليه، ولا صعب، فهو لين لأخيه المؤمن من غير مذلة ولا مهانة، إنما هو ذل كل واحد للآخر، وليس من طرف واحد، فهو كما يقول سلمان الفارسي: (إنما مثل المؤمن للمؤمن كاليدين توضئ إحداهما الأخرى) فهي الاخوة التي ترفع الحواجز، وتزيل التكلف، وتخلط النفس بالنفس، فلا يبقى فيها ما يستعصي، وما يحتجز دون الآخر، فقد أزيلت الحساسية بين المؤمنين، لأن المؤمن مهما كان كبيراً وغنياً وحاكماً فهو متواضع غاية التواضع مع أخيه الآخر مهما كان منصبه، وحالته الاجتماعية.
وكيف تبقى الحساسية بين المؤمنين وقد أصبحوا بنعمته إخواناً يحبون الله، وهو يحبهم، وأصبحوا كالجسد الواحد، واليد الواحدة، والبنيان الواحد، وهل في تواضع الأجزاء والأعضاء لبعضها ذل ومهانة؟!
ثم إن هذا الذل للمؤمنين أو العزة على غيرهم ليس من باب اتباع الهوى والشهوات، بل هو الطاعة والسمع لموجبات العقيدة، ومقتضيات الاخوة الايجابية.
3. صفاً واحد، وليسوا صفوفاً، راية واحدة وليست رايات مختلفة:
لم يرض رب العالمين بأن يصف المسلمين جميعاً بالصفوف، وإنما وصفهم بالصف الواحد فقال تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بينان مرصوص).
وقد أولى الإسلام عناية منقطعة النظير بالوحدة بين المسلمين فوردت مئات الآيات والأحاديث تؤكد ضرورة وحدة المسلمين وأنها فريضة شرعية، وضرورة واقعية، وأن الاختلاف والتفرق محرم، وأنه يؤدي إلى التمزق والضعف، والهوان فقال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وقال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لكم لعلكم تهتدون ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات أولئك لهم عذاب عظيم).