إن المتوقع في ظل المبادئ والقيم ، والأعراف أن تكون القاعدة في التعامل مع الناس : (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) [الرحمن : 60] ، وأن يذكر المعروف فيشكر صاحبه ، مهما كان الأمر مختلفاً مع آرائه وتوجهاته وتصوراته ، بل إن الله تعالى أمرنا بالعدل في القول والموقف والعمل والحكم حتى مع الأعداء فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة : 8] فذلك مبدأ أساس من مبادئ الوفاء للقيم والمكارم التي ربانا عليها الإسلام ، ولذلك ربط أيضاً صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم بين شكر الناس وشكر الله تعالى فقال في حديث ثابت : (لا يشكر الله من لم يشكر الناس).
وحتى في علم النفس إن ذكر المحسن بإحسانه جزء أساس من تكوين الشخصية السوية البعيدة عن الاضطراب والشعور بالنقص وعدم التوازن ، ولذلك نجد في الغرب والدول المتقدمة الاعتراف بفضل الآخر ، وبتقصير النفس ، وتحمل المسؤولية أكثر مما هو عليه في الشرق ، بل أكثر من العالم الإسلامي اليوم الذي ابتعد بعض أبنائه عن تلك القيم الإسلامية العظيمة ، والمبادئ السامية والأخلاق الفاضلة في الخضوع للحق ، والرضوخ للعدل ، والنزول إلى الحقائق.
إن عالمنا الإسلامي – بخاصة العالم العربي – فشت في بعضه أفعال النكران والكذب والافتراء ، والجحود للحق ، وحب الشرور ، وإشاعة الفاحشة ، والاتهامات الباطلة ، وشهادات الزور ، وكل ذلك من الكبائر الموبقات.
إن البعض لا يكتفي بنكران الجميل ، ورد الحق بل يقوم بالافتراءات الباطلة لتشويه سمعة الآخرين ، بل إن أصحاب الأموال الفاسدة ينفقون أموالاً طائلة في سبيل الباطل ، والوقوف ضد الحق ولا يعلمون بأن الله تعالى قال في مثلهم : ( فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) [الأنفال : 36] .
إن وسائل الاعلام المعاصر والتقنيات الإعلامية المتطورة هي من نعم الله تعالى التي يجب أن تصرف في شكر الله تعالى ، وشكر كل نعمه من جنسها ، وهذا يعني أن تصرف جهودها في بيان الحق وأن تقف مع أهله ، وتدافع عن المظلومين وتفضح الظلمة والقتلة والطغاة والمجرمين.
ولكن حينما تصرف جهدها في الباطل ، وتستثمر في الشرور ، وتوجه لنشر الرذائل ، وكل طاقاتها لشهادات الزور والافتراءات وتشويه الحقائق ، وأصحابها ، فذلك الكفران المبين بنعمة الله فقال تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) [إبراهيم : 7].
وقد فكرت ملياً وتساءلت داخل نفسي : ما الذي فعلته دولة قطر شعباً وحكومة وأميراً حتى تنال هذا السيل من الهجمات والشتائم ، وتوجه إليها كل هذه الافتراءات ، وتبذل كل هذه الجهود لتشويه سمعتها ، بل تصرف كل هذه الأموال في سبيل النيل من مصداقيتها ومبادئها ، وتجيش كل هذه الجيوش الاعلامية والحشود الدعائية لسحب الحق عنها في تنظيم أولمبياد 2022 الذي هو فخر لكل عربي وخليجي ؟!! .
لماذا قطر؟ هل لأنها احتلت أو أخذت شبراً واحداً من أراضي الآخرين ؟ هل اغتصبت أموال الآخرين ؟ هل ؟ وهل ؟
قطر تكرم شعبها ، والشعب القطري لهم حقوقهم السياسية والفكرية والاجتماعية والصحية حتى أصبح دخل الفرد القطري أعلى دخل في العالم بفضل الله تعالى ثم بفضل القيادة الرشيدةولا يوجد مسجون سياسي واحد ، والإعلام له حريته ، ودوره ، وتكفى فخراً قناة الجزيرة قلعة الحرية ، والعلماء مكرمون ويكفي شرفاً وجود الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يضم عشرات اآلاف من علماء الأمة ، بل أصبح الآن بمثابة مرجعية للأمة .
والكل يشهد من المقيمين أن شعب قطر شعب متواضع طيب كريم يحترم من يعيش على أرضها ما دام هو يحترم قيم هذا الشعب وتقاليده ، فهذه الشهادة – والحمد لله – نسمعها من القاصي والداني .
وهناك خصلة عظيمة ، وشهامة عربية أصيلة ، وخلق إسلامي نبيل توجد في هذا الشعب وهو : الوقوف مع المظلومين حتى اشتهرت بين الناس أن قطر ( كعبة المضيوم ) ولم يأت هذا الوصف من فراغ بل ضحى الشعب القطري وقيادته بفلذات أكبادهم في الدفاع عن المظلومين الذين طالبتهم إحدى الدول حيث استشهد ابن القائد المؤسس وهو الشيخ علي الملقب بجوعان ابن الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني ، وعشرون رجلاً من أهل قطر عام 1305هـ رحمهم الله رحمة وساعة وقبلهم شهداء( يراجع : إمارة قطر العربية للشيباني ص128).
وأما حكومة قطر فمنذ تأسيسها وقفت مع قضايا الشعوب العربية والإسلامية ، فقد وقفت مع وحدة اليمن عندما حاول الاشتراكيون تمزيق اليمن ، وبذلت جهوداً مادية ومعنوية للحفاظ على الوحدة وتماسك الشعب اليمني الأصيل ، ولا أحد يستطيع أن ينكر الدور المؤثر لجمع اللبنانيين قبل عدة سنوات على حكومة الوحدة الوطنية ، بعدما وصلت إلى طريق مسدود .
وكذلك بذلت قطر جهوداً مضنية مخلصة ومتواصلة ومستمرة منذ عدة سنوات لتحقيق السلام في دارفور وقد وفقها الله تعالى لذلك وهي تبذل كل جهدها لتحقيق التنمية في هذه المنطقة المنكوبة.
وأما وقوف قطر مع القضية الفلسطينية وقفة المبادئ والشهامة فمحل فخر واعتزاز لكل قطري ، وعربي ، ومسلم ، فقد وقفت بكل إمكانياتها مع هذه القضية ، واحتضنت قادة حماس مرتين ، ودعمت المصالحة مادياً ومعنوياً وبذلت جهوداً مضنية لتحقيقها .
ومن هنا فوقوف قطر مع الشعوب العربية الثائرة في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن ضد الظلم والطغيان والاستبداد والدكتاتورية نابع من المبادئ التي تبناها قادة قطر منذ التأسيس ، ولو لاحظنا خُطب الأمير الوالد قبل هذه الثورات في القمم العربية والإسلامية وفي المناسبات المتعددة لوجدناه يركز فيها على ضرورة ان تمثل الحكومات نبض الشارع العربي ، والإسلامي وتحقق مطاليبه وآماله ، وتعيش وتحس بآلامه وقضاياه ، ولا تكون بعيدة عنه .
ومن هذا المنطلق القائم على المبادئ والقيم الإسلامية الأصيلة انطلقت القيادة في قطر في دعم الثورات الشعبية العارمة ، والوقوف معها ، حيث وقفت مع الثورة التونسية بالدعم المعنوي ، ثم بعد انتخاب المجلس والحكومة بالدعم المادي المبين بمنتهى الشفافيهة للعالم أجمع .
وأما دور قطر في ليبيا فكان دوراً رائداً منقذاً بعد الله تعالى – فحينما وجه القذافي كتائبه وأسلحته الفتاكة في جيش عرمرم نحو مدينة بنغازي ( معقل الثوار) لتدميرها تماماً وإذلال من فيها تسارع سمو الأمير الشيخ حمد حفظه الله فبذل كل جهده مع بعض الدول المساندة فصدر القرار من مجلس الأمن ، وأسرعت فرنسا بالبدء بضرب هذا الجيش فدمرته قبل أن يحقق أهدافه المدمرة .
وهكذا تعاملت قطر مع ثورة الشعب السوري بكل جد وإخلاص إلى أن سلمت الملفات الخاصة بسوريا إلى دولة أخرى ، ولا زالت تعمل بمقدار طاقتها.
وأما ثورة مصر فكانت ثورة شعبية عارمة اضطر لقوتها حسني مبارك فأعلن تنحيه عن المنصب ، ثم مضت الأمور إلى أن انتخب الرئيس محمد مرسي انتخاباً شرعياً نزيهاً شهد بنزاهته الداني والقاصي .
ومن هنا فإن تأييد قطر لمرسي وحكومته ما هو إلاّ تأييد لإرادة الشعب المصري الحرّ وليس تأييداً لحزب معين أو جماعة معينة .
وما الضير لو كان التأييد لجماعة حاكمة نجحت في الانتخابات ست مرات خلال عام واحد ، فكسبت الأكثرية في انتخابات البرلمان ، ومجلس الشورى ، ثم في إعادة الانتخابات ، ثم في الرئاسة ، ثم في الدستور ؟
أليس ذلك دليلاً – بكل المعايير والموازيين- على أن تلك الجماعة – أياً كانت – جماعة مؤيدة من الشعب المصري ومتجذرة فيه .
ثم إنني أشهد لله ، وللحق ، والتأريخ ومن خلال قراءتي المجردة البعيدة عن كل تحزب : أن تأريخ الاخوان المسلمين نظيف قائم على منهج الوسط المعتدل ، وأنهم وقفوا ضد الاحتلال الانجليزي في مصر ، وضد عصابات الصهاينة في فلسطين ، وانهم كانوا وراء ثورة عبدالناصر على الفساد الذي ارتد عليهم فقتل بعضهم وسجن الكثيرين ، ومع ذلك لم تصدر منهم دعوة للعنف ، والارهاب والتفسيق ، والتكفير والتفجير ، بل طالبوا بالسلمية ، وحتى لما ظهرت جماعة التكفير والهجرة بسبب ما رأوه من الظلم والقسوة من قبل الشرطة والسجانين تصدى لهم مرشدهم الأستاذ حسن الهضيبي فرد عليهم في كتاب ( دعاة لا قضاة ) فبين لهم أنهم دعاة ، ومهمتهم الدعوة والرحمة كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأما الحكم بالكفر فهو يعود إلى القضاة .
وقصدي من كل ذلك أن قيادة قطر حينما تقف مع حكومة منتخبة فإنما تقف مع إرادة الشعب ، وحينما لا تقف مع حكومة انقلاب فهذا موقف يطالب به الشرع ، والمطلوب أن يطالب به أصحاب الدعوة إلى الديمقراطية وكل من يريدون استقرار الحكم ، ويقفون ضد الانقلاب العسكري ، فالمنطق الصائب يقتضي أنه إذا كان الانقلاب العسكري مشروعاً ضد حكومة شرعية منتخبة في مصر ، فلا بد أن يكون هذا الحكم عاماً لكل البلاد ، فالانقلاب على الشرعية هو هو ، فلماذا يجوز في مصر أو على الاخوان مثلاً ، ولا يجوز في غيرها ، أو على غيرهم ؟ فأصبح لدى هؤلاء ازدواجية خطيرة في المعايير ، ويجيزون لغيرهم ما يحرمونه قطعياً على أنفسهم !
والحق والصواب والفطرة السليمة ، والمصلحة الحقيقية ، والشريعة الحقة كلها ضد الخروج ، والانقلاب على الشرعية ، فقد أجمع السلف على حرمة الخروج على الإمام العادل ، وانه من الكبائر ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته ميتة جاهلية ) رواه مسلم ، وعلى حرمة من يعين الخارج عليها حتى ولو كان عادلاً ، بل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال الثاني الخارج حفاظاً على وحدة الأمة ، وعلى البيعة التي منحها الشعب أو الأمة ، وإنما الخلاف بين العلماء في الخروج على الإمام الفاسق خوفاً من الفتنة .
ومن هنا فالموقف الشرعي والمدني ، وكذلك الموقف الديموقراطي هو الوقوف مع الرئيس الشرعي ، وعدم الوقوف مع الخارجي الظالم الذي سفك الدماء ، وأحرق الآلاف ، واعتقل عشرات الآلاف ، وأصدر من خلال قضائه الحكم بإعدام أكثر من ألف شخص من خلال جلسات لا تكفي لسرد الأسماء ناهيك عن التحقيق في كل قضية .
إن مثل هذه المحالكم بالاعدام وأحكامها بالجملة هي – بحق – مهزلة القرن الواحد والعشرين أمام مرأى ومسمع العالم الحرّ ، ولكن – مع الأسف الشديد – بما أنها ضد الإسلاميين فالعالم ساكت أخرس إلاّ من رحم ربي.
هذا ما أردته بياناً للحق ، وإنصافاً لهذه الدولة التي تفعل الخير مع الجميع وبالتالي فالمطلوب شرعاً وفطرة شهامة هو ما قاله رب العالمين (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) [الرحمن : 60] .
ولكن مهما تطاول الجاهلون أو الحاقدون فلن يؤثر ذلك في مسيرة الحق ، ولن يستطيعوا حجب رؤية الحقيقية فالحق منتصر ، والظم مندحر ، والباطل منهار ، فتلك سنة الله تعالى على مرّ التأريخ ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [يوسف : 21] صدق الله العظيم .
بقلم أ.د. علي محي الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين
ونائب رئيس المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث