محمد الهمزاني
أكد
أحد كبار علماء الشريعة الإسلامية والمتخصصين في فقه المعاملات أن كثيرا
من البنوك الإسلامية لا تلتزم بقرارات المجامع الفقهية في ما يتعلق بتحريم
بعض المنتجات كالتورق والمرابحة في السلع الدولية.
وقال الدكتور علي محيي الدين القرة داغي أستاذ الشريعة الإسلامية ورئيس
الكثير من الهيئات الشرعية في دول الخليج، إن المجامع الفقهية أقرت
بالإجماع تحريم بعض المنتجات، منها «التورق المنظم» الذي تطبقه معظم
البنوك الإسلامية المحلية والدولية، مستغربا إصرار الهيئات الشرعية في هذه
البنوك على تجاهل قرارات المجمع الفقهي الإسلامي.
وأكد القرة داغي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» في الرياض أنه وقف شخصيا على
الأسواق الدولية التي تدعي البنوك الإسلامية أنها تجري معاملتها عن
طريقها، ووجد أخطاء كبيرة وبضائع واقفة في مكانها منذ سنوات طويلة، موضحا
أن هذه البضائع موجودة في مستودعات في أوروبا ويجرى عليها عمليات البيع
بأوراق صورية منذ سنوات.
وبيّن أستاذ الشريعة الإسلامية أنه زار هذه المستودعات كثيرا وبطريقة
مفاجئة، وتأكد لديه أنها لا تمارس البيع الحقيقي، وتتعامل مع البنوك
الإسلامية في بلدانها عن طريق أوراق لعمليات بيع صورية فقط، الأمر الذي
منع معه البنوك التي يعمل فيها بالتعامل بالسلع الدولية، ما لم يتم البيع
الحقيقي.
كما حذر الدكتور القرة داغي من استخدام منتج «السلم المنظم» وأنه سيكون
شبيها بالتورق المنظم، وكلاهما محرم ولا يوافق قرارات المجامع الفقهية.
وإلى مزيد من التفاصيل في الحوار التالي:
* ناقشت الكثير من الندوات موضوع التأمين التكافلي أو التعاوني على الديون. ما حقيقة ذلك؟
– التأمين على الديون ليس من باب الكفالة، حتى لا يجوز أن يؤخذ عليها أجر،
وإنما هو من باب «الالتزام بالتبرع»، وبالتالي فإن حساب التأمين أو صندوق
التأمين لا يأخذ أي مبلغ من المال كتأمين على الضمان أو الديون، وبالتالي
ما يؤخذ من مبالغ هذا المبلغ هو اشتراك وليس أجرا على الضمان، وبالتالي لا
يثار على هذه المسألة أي إشكالية.
وخلال ندوة البركة الأخيرة التي عقدت في رمضان الماضي، تكلمنا عن الدَّين
في حالتين (التأمين على الدَّين في حال موت المدين، والتأمين في حال عجز
المدين)، والثاني في غاية الأهمية. فقد كان في السابق قبل التأمين
التكافلي والإسلامي حينما يكون الشخص مدينا لمؤسسة مالية ما، ويموت هذا
الشخص، فماذا تفعل هذه المؤسسة؟
فإن كان للميت أموال تأخذها المؤسسة، وغالبا ليس لديه أموال، أو أن يكون
لدى الميت منزل مرهون لهذه المؤسسة، أو الشخص عجز لأي سبب. وبالتالي تكون
عائلة المدين لديها مصيبتان، الأولى موت عائلها والأخرى إمكانية خسارة
منزلها أو أي مبالغ أخرى. فلما جاء التأمين التكافلي حل هذه المشكلة من
خلال تعويض الدائن المؤسسة وتجنيب ذوي المتوفى (المدين) الديون، أو كان
المدين عاجزا لإعاقة فيه. وبالتالي تحققت مقاصد الشريعة من التكافل
والتعاون والمشاركة. والشركات التي أشرف عليها في الهيئة الشرعية في مختلف
دول العالم تقوم بهذه الطريقة حاليا.
* إذن ما حقيقة الإشكالات التي تصاحب مسألة التأمين على الديون؟
– هناك فعلا إشكالات، منها: هل يمكن أن يؤخذ هذا المال ما دام أنه كفالة،
فإن قرار مجمع الفقه الإسلامي أنه ما دام أنه كفالة فإنه لا يجوز أخذ
المال على أصل الكفالة والضمان، فكيف نأخذ الأجر أو القسط في التأمين على
الديون، أو كيف نأخذ الأجر على الضمان؟ فالأجر على الضمان غير جائز. وقد
قدمت بحثا في ندوة البركة الأخيرة، وقلت إن التأمين على الديون أو التأمين
على الضمانات ليس من باب الكفالات أو من باب الضمانات الفقهية التي يقصد
بها ضم الذمة إلى ذمة شخص آخر، وهذا القصد أن المدين في الأصل يبقى مدينا
وأنا أساعده في حالة عجزه ولكن أعود إليه، فشركة التأمين الإسلامي لن تعود
إلى الورثة حينما تدفع الأموال ولن تعود إلى العاجز حينما تدفع الأموال،
ولذلك فقدنا أهم عنصر من عناصر الكفالة الفقهية، فهذه الإشكالية كبيرة جدا.
وهناك إشكالية أخرى، ربما كانت الديون لها حساسية في الفقه الإسلامي،
ولذلك لا يجوز بيع الديون إلا بضوابط خاصة. فهل التأمين على الديون فيه
إشكالية؟ وقد أثيرت هذه المشكلة في التأمين التجاري، فمعظم العلماء الذين
أجازوا التأمين التجاري عندما وصلوا إلى الديون لم يجيزوا التأمين على
الديون، لأن التأمين التجاري معاوضة، أي معاوضة الدَّين بدَين، وهنا توجد
إشكالية.
أما في التأمين التعاوني أو الإسلامي فهو تبرع أو التزام بالتبرع، ومنذ
عشرين سنة قدمت فكرة جديدة للتأمين الإسلامي للندوة الثالثة لبيت التمويل
الكويتي، وكان هذا «التكييف» هو موضوع لأول مرة يطرح ولم يسبق أن طرحت مثل
هذه الفكرة. فقلت في حينه إن التأمين التعاوني جائز استنادا على قصص
لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خلال التأمين التعاوني ننشئ
حسابا يشترك فيه حملة الوثائق وندفع من هذا الحساب التعويضات، ثم توزع
بقية مبلغ الحساب على الجميع بالتساوي، أو توزع لجهات خيرية، وهذا يسمى
«التناهد» أو النهد.
* كيف ترون لواقع البنوك الإسلامية واتهامها بالبيع الصوري وليس الحقيقي؟
– منذ عدة سنوات قبل الأزمة المالية العالمية ناديت بعدة أشياء، قلت نحن
نجيز التورق المنضبط بضوابط الشرع التي تسلم البضاعة إلى الشخص ويتصرف
فيها، ولم نجِز التورق المنظم، وقلت أيضا في وقتها إن المرابحة في السلع
الدولية وبخاصة المرابحة العكسية لا ينبغي أن يجاز.
والمرابحة في السلع الدولية في معظمها غير جائزة في نظري، لأنه حينما أسست
البنوك الإسلامية وضعت أمامها مجموعة من المقاصد الشرعية والغايات، من
أهمها أن تأخذ الأموال من المسلمين وتنفقها على تنمية المسلمين، ومن أهمها
أيضا أن تسير وفق منهج الاقتصاد الإسلامي القائم على اقتصاد الأعيان وليس
اقتصاد الائتمان أو الديون، وليس اقتصاد الأوراق أو العقود الصورية، وهذا
ما قلناه قبل نحو عشر سنوات. ثم جاءت الأزمة المالية فأكدت صحة ما حذرنا
منه، فنرى الآن أزمة الديون وأزمة العقود الصورية في العالم، وقبل نشوء
الأزمة كانت تتداول مبالغ ضخمة جدا تصل إلى أكثر من 600 مليار دولار
يوميا، و5 في المائة منها فقط هي العقود الصحيحة، أما الـ95% الباقية فهي
عقود صورية في مشتقات وديون، فهذه أدت إلى انهيار الأزمة.
فلذلك أمام هذه المقاصد الشرعية جاءتنا مسألة «المرابحة بالسلع الدولية»،
وقبلها جاءتنا مسألة «المرابحة للآمر بالشراء»، والتي أجزناها على أساس
تكون بديلة عن الربا وأنها تحقق منافع جيدة لا بأس بها. وقد أكدنا للبنوك
الإسلامية في البداية أن لا يقتصر عملها على مثل هذه المنتجات، بل عليها
أن تقدم «المشاركة» و«المضاربة». ومن هنا تطورت «المرابحة للآمر بالشراء»
إلى «المرابحة بالسلع الدولية»، وتتم إما عن طريق شركة للواسطة وإما عن
طريق بنك تقليدي يعمل هذه الأوراق، وبعضها يتم عن طريق شركات أخرى. وقد
اطلعت بنفسي على هذه الشركات فوجدت عملها كله أو في غالبه فقط بالأوراق،
وذهبت بنفسي إلى أحد المخازن، وعندما ذهبت وقابلت مدير المخزن قال لي إن
السلع الموجودة وهي (ألمنيوم) لها قرابة عشر سنوات ولم يشترِها أحد،
«معيبة لا أحد يشتريها»، ولكن نحن نجري عليها العقود والناس يشترونها، ثم
رجعت إلى البنك الذي أشرف على هيئته الشرعية، فقلت إنني أمنع منعا باتا
التعامل في السلع الدولية، إلا إذا كان هذا التعامل مع شركة تملك الحديد
أو الرصاص أو الألمنيوم، أما إذا كان الوضع فقط بالمخازن فإن هذا بيع صوري
على الأوراق. وتكررت مني زيارات مفاجئة، ووجدت نفس المشكلة في البيع
الصوري، وهذه حقيقة خطيرة جدا.
* هناك من يعترض على رأيك ويؤكد أنه تتم عمليات بيع حقيقية، ما رأيك؟
– هذا غير صحيح إطلاقا، وقد رأيت بنفسي كيف تتم عمليات البيع في السلع
الدولية، ومن اعترض على التحريم دعه يعترض. وأنا بنفسي تشرفت بأن كلفني
الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي السعودية السابق (رحمه الله) قبل نحو عشرين
سنة بإجراء بحث متكامل عن التورق، وبعد تقديم البحث وإقراره صدر من خلاله
قرار مجمع الفقه الإسلامي بتحريم «التورق المنظم». والتورق المنظم كله
تحايل من أجل تقديم التمويل للعميل من قبل البنك، ولذلك كل ما نراه من
أوراق هو تحايل لا أكثر، لأن الاقتصاد الإسلامي لم يستفد من عملية التورق.
* إذن ما الحل برأيك؟
معظم البنوك للأسف تقوم بعملية التورق المنظم، ونحن بحاجة إلى اتحاد عالمي
للهيئات الشرعية، وذلك لتوحيد الفتوى على الأقل في القرارات التي تصدر من
مجمع الفقه الإسلامي وغيره من المجامع، والالتزام بالمعايير الشرعية.
ولذلك الهيئات الشرعية تجتهد، وكثير منها أجاز التورق المنضبط وليس التورق
المنظم.
* وهل هذه التجاوزات والاختلافات في البنوك الإسلامية تغيب إنجازاتها؟
أبدا، ليس كذلك، فالبنوك الإسلامية لها إنجازات كبيرة وهي في طور التكوين
وعمرها قصير مقارنة بالتقليدية التي تمتد لقرون من الزمن، لكن أملنا في أن
نستفيد من أخطاء الغير وأن تحقق البنوك الإسلامية التنمية الشاملة للأمة
الإسلامية والمجتمعات الإسلامية وتعمير الأرض كما أمر الله عز وجل.
* البعض يتساءل عن السلم. ما هو؟ وما حقيقة السلم المنظم؟
– السلم عقْد مشروع كان قديما وموجودا قبل الإسلام في عصور الجاهلية، وهذا
دليل على أن هذا العقد كان يغطي حاجات المجتمع بشكل جيد. فلما جاء الإسلام
نظم هذا العقد وجعله عقدا منضبطا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من أسلم وأسلف فليجرِ في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم».
والسلم في السابق لم يكن منضبطا بضوابط الكيل والوزن وكذلك بالأجل، وضبطه
الإسلام بعدم الاستغلال وعدم استغلال حاجة الآخرين، وأن هذه القيود
العملية والأخلاقية أدخلها الإسلام على هذا العقد القديم. أما حقيقة السلم
فهو عبارة عن بيع شيء غير موجود في الوقت الحاضر لكنه سيوجد في المستقبل،
ويوصف بمواصفات دقيقة نافية للجهالة والغرر، بمعنى أنه «بيع أو عقد واعد
على شيء موصوف بالذمة وصفا دقيقا يزيل الجهالة والإساءة».
والسلم نوعان، الأول السلم الموازي، والآخر السلم المنظم الشبيه بالتورق
المنظم. والسلم الموازي هو أن يأتي العميل سواء كان مزارعا أو صاحب مصنع
ويطلب بيع منتجه أو بعضه للبنك، ويحدد تاريخا معينا للدفع، على أن يقوم
البنك بالتعاقد مع جهة أخرى لبيعه الإنتاج المحدد بتاريخه، ويكون ذلك من
خلال عقد بين الطرفين. وفي عرف السلم فإن البنك هو مسلم والعميل المسلم
إليه أي البائع، والمنتج هو المسلم فيه، والمبلغ هو مسلم به. والمطلوب في
عقد السلم أن العميل يسلم البضاعة والبنك يسلم البضاعة في الوقت المعلوم
لتاجر آخر، بمعنى أن يكون العميل استفاد من سيولة والبنك من استفاد
التمويل والتاجر الآخر استفاد من البضاعة.
أما المشكلة الحقيقية فهي «السلم المنظم» الذي تتم كل إجراءاته عن طريق
العميل وبين البنك فقط، بحيث يكون البنك وكيلا عن العميل في كل هذه
الإجراءات من خلال توكيل العميل للبنك لكل الإجراءات. وهو شبيه بالتورق
المنظم المحرم، خصوصا أن السلم المنظم لا يتم إلا عن طريق السلع الدولية
ولا يتم فيه قبض الثمن حقيقة، وإنما يتم فقط عن طريق مجرد الأوراق
والتوقيع، وهذا هو المصيبة بعينها.