تأصيل التعاون الإنساني ، الشراكة في العمل الإنساني من منظور الشريعة الإسلامية
– دراسة شرعية تأصيلية –
بقلم
أ.د. علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المســلمين
ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
من الدستور القرآني :
قال الله تعالى : ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
ويفهم من الآية :
(1) أن الآية أمرت المخاطبين بالتعاون على الخير بصيغة الجمع مما يدل على أن الشراكة مأمور بها .
(2) لم تذكر الآية المتعاون معه ، مما يدل على شمولها لجميع مَن يريد التعاون على البرّ والتقوى مع قطع النظر عن دينه وفكره وأيدلوجيته .
(3) لم تذكر الآية مَن يوجه إليه البرّ والإحسان مما يدل على ضرورة شمول الإحسان لجميع الخلق ممن يستحق التعاون من الإنسان والحيوان والبيئة .
ومن السنة النبوية المطهرة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة)
وقال صلى الله عليه وسلم : (على كل مسلم صدقة قال : أرأيت إن لم يجد قال: يعتمل بيديه فينفع نفسه و يتصدق قال : أرأيت إن لم يستطع قال : يعين ذا الحاجة الملهوف قال : قيل له : أرأيت إن لم يستطع قال : يأمر بالمعروف أو الخير قال : أرأيت إن لم يفعل قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة).
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيّبين وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان الي يوم الدين.
وبعد
فإن الإسلام أنزله الله تعالى ليكون شفاءً وخيراً للناس أجمعين (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا) ، وأرسل رسوله ليكون رحمة للعالمين فقال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).
لذلك نرى أن معظم آيات القرآن الكريم تدور حول الخير والخيرات ، والبر والحسنات والإحسان ، والصدقات ، والرحمة والرحمات ، وأراد الله تعالى أن يشمل هذا الخير جميع البشر ، وأن تعم الرحمة جميع العالمين من الإنسن والجن ، والحيوان ، والجماد ، والسموات والأرضين .
ومن هنا فرسالة المسلمين هي توصيل الرحمة بمعناها الشامل إلى العالم أجمع ، وتعميم هذا الخير بكل الوسائل ليعيش الإنسان في خير وبركات وأمن وأمان، وهذا إنما يتحقق على الوجه الأكمل عن طريق التعاون والشراكة .
وأبلى الرعيل الأول من الصحابة والتابعين بلاءً حسناً في العطاء والإحسان والبر والخيرات ، حتى تحول ذلك إلى مؤسسات الوقف التي شملت أدق حاجيات الإنسان .
ثم جاءت فترة من الزمن غفل المسلمون عن هذا الدور العظيم ، فاستثمر أصحاب الدعوات الباطلة هذا الفراغ فبدؤا بنشر ضلالاتهم عن طريق الأموال ، وحاولوا تغيير العقائد والأديان عن طريق الفقر ، والجهل والمرض ، فأعطوا المال للفقراء حتى يضلوا الطريق ، أو يخرجوا من الإسلام الصحيح ، وعلموا الأطفال في المدارس لخيرجوا عن فطرتهم، وليكونوا دعاة إلى الباطل في بلاد الإسلام ، وعالجوا المرضى واستغلوا ضعفهم وحاجتهم .
ثم تنبه إلى ذلك المسلمون بإنشاء مؤسسات وجمعيات خيرية لحماية المسلمين ، وإغاثة الملهوفين .
غير ان هذه المؤسسات والجمعيات الخيرية تحتاج إلى مزيد من التنظير ، والتأصيل والتوجيه ، والتخطيط ، والريادة ، والقيادة ، والقدوة ، ومزيد من التعاون البناء، والشراكة النافعة لتنطلق من مرحلة الإغاثة إلى مرحلة التنمية الشاملة والبناء ، وليكون لها دورها في النهضة المنشودة ، وليعود لها دورها في تحقيق الحضارة ، كما كان للوقف دوره العظيم في حضارتنا الإسلامية حتى نستطيع القول بأن الحضارة الإسلامية هي هبة الوقف ـ بعد الله تعالى ـ فكل ما سجله تأريخنا الإسلامي من كتاتيب ومحاضر ، ومدارس ، وجامعات ، ومستشفيات ، وجسور وقناطر ، وخانات ونحوها ، كان للوقف دور عظيم فيها .
ونحن في هذا البحث نبذل جهدنا لتأصيل الشراكة والتعاون البنّاء بين جميع المؤسسات الخيرية والإنسانية في العالم أجمع ، وبناء جسور التواصل بين جميع مَن يريد التعاون على الخير من أصحاب الأديان والثقافات ، والشعوب ، وذلك لأن المعاناة أصبحت عالمية ، وبالتالي تحتاج إلى تعاون عالمي ، ولأن حجم المآسي كبير جداً ، يتطلب جهود الجميع ، ولأن حجم المصائب ضخم جداً يتطلب التعاون على توزيع الأدوار حتى يصل الخير إلى جميع من يستحقه .
والله أسأل أن يكتب لنا التوفيق والسداد ، وأن يعصمنا من الخطإ والزلل في العقيدة والقول والعمل وأن يتقبّل منا بفضله ومنّه إنه حسبناً ومولانا فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه الفقير الى ربه
علي محيى الدين القره داغى
18 جمادى الأول 1437هـ / 27 فبراير 2016
التعريف بعنوان البحث :
1- التعريف بالتعاون الإنساني في الإسلام :
التعاون لغة : مصدر باب ” تعاون ” الذي يدل على المشاركة المتساوية بين طرفين مثل التراضي ، والتواصي، وهو من العون بمعنى المساعدة ، والظهير على الأمر ، فيقال : تعاون القوم إذا ساعد بعضهم بعضاً ، واستعان به أي طلب منه العون ، والمعونة هي العون، والإعانة هي منحة حكومية للأفراد أو الدول.
والتعاون في علم الاقتصاد: مذهب اقتصادي شعار الفرد للجماعة ، والجماعة للفرد ، ومظهرة تكوين جماعات للقيام بعمل مشترك لمصلحة الأعضاء ، والاستغناء عن الوسطاء ، ومنه ينبثق التأمين التعاوني.
والتعاون في علم الاجتماع: اجتماع مجموعات مختلفة (أو أفراد) بدافع المنافع المشتركة ، فهو حينئذ ضد التنافس الذي تكون فيه المنفعة الشخصية هي الدافع.
والتعاون الإنساني: هو ارتباط مجموعة من الأفراد على أساس الحقوق والالتزامات المتساوية لمواجهة ما قد يعترضهم من المشاكل والتحديات الاقتصادية ، او الاجتماعية ونحوها، والتغلب عليها، ومن أهم أنواعها التعاون لأجل مساعدة المحتاجين ، وإغاثة الفقراء وإنقاذ الملهوفين.
والتعاون في نظر الإسلام: يكون على البرّ والتقوى وهما يشملان جميع أنواع الخير ، كما أمر الله تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى)وقد فسّر البرّ بقوله تعالى : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، حيث يشمل التعاون على غرس العقيدة والقيم والأخلاق الفاضلة ، ودفع الأموال – زكاة وصدقة عامة – مع حاجة صاحبها إليها وحبه لها إلى الأقارب لترسيخ أواصر المحبة ، وإلى جميع المحتاجين من بني البشر.
وأما نوعية ما يقدمه التعاون فهي أيضا شاملة لكل ما يوجد لديه من الإمكانيات المتاحة لديه، وأن كل واحد يختلف عنده هذا التعاون حسب طاقاته وقدراته ، فالحكام والملوك والأمراء يختلف تعاونهم عن الآخرين، حيث إن دائرته أوسع، وأن الأغنياء يكون تعاونهم بالمال ونحوه، والعلماء بالفكر والعلم ونحوهما، وهكذا تشمل نوعية التعاون جميع ما يمكن أن يتعاون به، ويكون مفيداً ولو بفائدة قليلة.
2- التعريف بالشراكة :
الشَراكة لغة : – بفتح الشين – لم أعثر عليها في اللغة العربية ولكنها تستوعبها مثل العَلاقة ، فتكون اسم مصدر للدلالة على التعاون بين شخصين (طبيعيين، أو اعتباريين) في بعض المجالات أو في جميعها حسب النظام الذي ينظم هذه العلاقة .
وفي الاصطلاح الاقتصادي : ظهر هذا المصطلح في القواميس في سنة 1987 تقريباً ، وعرفت بأنها : (نظام يجمع المتعاملين الاقتصاديين والاجتماعيين للتعاون فيما بينهما) ثم استعملت في الشراكات الاقتصادية في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (CNUCED) في نهاية الثمانينات ثم استعملت في مختلف المجالات .
ومن المعلوم أن مصطلح الشراكة ظهر في أحضان الاقتصاد ولكنه يستعمل اليوم في غيره.
ويمكن أن نُعرّف الشراكة بأنها تعاون بين مؤسستين أو أكثر من أجل تقويتهما ، وتحقيق الأهداف المشتركة بينهما .
وبذلك اختلفت الشراكة عن التحالف والاندماج والاستحواذ والمشاركة ، وذلك لأن الشراكة لا تعني مشاركة إحدى المؤسستين في أموال الأخرى ، أو إدارتها ، كما أنها لا يراد منها الاندماج ، والافناء والاستحواذ ، وإنما تبقى المؤسستان بحالتهما في ظل الشراكة.
وهذا التعريف جامع للشراكات الاقتصادية ، والسياسية ، والاجتماعية والخيرية ، ونحوها .
ونقصد بها هنا : التعاون بين المؤسسات الخيرية بعضها مع بعض ، أو مع القطاع العام ، أو الخاص ، لأجل تقوية تأثيرها ودورها ، وتحقيق الأهداف المشتركة .
دلالات آية التعاون العظيمة :
إن الشراكة بين المؤسسات الخيرية بعضها مع بعض ، أو مع القطاع العام ، أو الخاص تقوم على أساس التعاون على البر والإحسان وخدمة الناس أجمعين ، وتوصيل الخير إليهم بأحسن الطرق ، وأفضل الوسائل ، وأشملها – كما سبق – وهذا ما أمر الله تعالى به بصريح القول حيث قال تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وقد جائت هذه الآية الكريمة مباشرة بعد قوله تعالى في بداية سورة المائدة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) مما يشعر بأهمية إلزامية العقود في الحياة، حيث إنها تحقق التبادل بين الناس في الأعيان والمنافع والحقوق .
ويفهم من هذه الآية بوضوح :
أ- أن الله تعالى أمر بالتعاون، والأمر حقيقة في الوجوب أو الطلب الشامل للايجاب والندب كما هو رأي الأصوليين .
ب- أن الأمر جاء بصيغة الجمع (وتعاونوا) مما يدل على أن الجماعة مطالبة بتحقيق هذا التعاون .
ج- أن صيغة (تعاونوا) هي صيغة المشاركة لباب (التفاعل) الذي يدل على أن على كل واحد أن يشارك في هذا التعاون على وجه المساواة ، لأن مشاركة باب (التفاعل) للتساوي في الشراكة .
د- أن الله تعالى حدد محل التعاون وهو البرّ ، أي الإحسان والتقوى في كل ما يحقق الوقاية من غضب الله والنار ، من فعل الطاعات : أي المصالح ، والمنافع ، والخيرات ، فقال تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) ، ومن فعل المعاصي والآثام أو بعبارة أخرى من فعل المفاسد ، والمضار ، والخبائث ، لأن الله تعالى حرّم هذه الأشياء فقط (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) .
هـ- ولخطورة محل التعاون أكد ذلك بالنهي فقال تعالى : (وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) أي على الشرور والعدوان على الإنسان ، أو الحيوان أو البيئة .
و- لم يحدد الله تعالى المتعاون معه ، فلم يقل : وتعاونوا مع المؤمينين مثلاً ، حتى يفهم منه بأن المطلوب هو تحقيق التعاون على البر والتوقى مع أي شخص كان ومسلماً كان أو غير مسلم ، كما أكد النهي بأن لا نتعاون على الاثم والعدوان سواء كان مع مسلم أم غيره .
وبالتالي فإن هذه الآية تفسح لنا المجال في التعاون مع جميع المؤسسات الدولية والمحلية – مع قطع النظر عن توجهاتها – بشرط واحد وهو أن يكون التعاون على البر والتقوى ، وأن لا يكون التعاون على الاثم والعدوان، يقو القرطبي: ( هو أمر جامع لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى، أي فَلْيُعن بعضكم بعضا) .
ز- لم تحدد الآية الوسائل والآليات والأدوات التي يتحقق بها التعاون ، حتى يبقى كل ذلك مفتوحاً وعلى أصل الاباحة إلاّ إذا كانت إحداها تتم بطريقة غير مشروعة فتكون محظورة .
ح- لم تحدد الآية مَن يوجه إليه البر والإحسان حتى يبقى حكم التعاون شاملاً لجميع مَن يستحق الإحسان من الإنسان والحيوان ، والبيئة .
ط- هذه الآية جامعة لجميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم وبين ربهم، وهي التقوى التي تتقوى بالجماعة والتعاون، وفيما بينهم وبين بعضهم لبعض وهو البر والإحسان الذي يتحقق بالتعاون ، قال ابن القيم : ( وقد اشتملت هده الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم فان كل عبد لا ينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق فأما ما بينه وبين الخلق: من المعاشرة والمعاونة والصحبة فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولا سعادة له إلا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله) .
بين التعاون والشراكة:
إن العلاقة بين (التعاون) و (الشراكة) هي علاقة العموم والخصوص ، حيث إن الشراكة داخلة في التعاون ، بل هي أقوى أنواعه، وأفضل أقسامه، فالتعاون يبدأ بأي تعاون على البرّ والتقوى ، ثم يقوّى ليصل إلى الشركة، لذلك استعملتُ المصطلحين، وذلك لأن الواجب الأدنى هو أن لا يغفل عن التعاون في جميع الأحوال، ثم علينا أن نطوّره للوصول إلى الشراكة الحقيقية التي تحقق الأهداف المنشودة.
التعاون مقصد شريف ومبدأ عظيم في الإسلام، وحاجة فطرية تقوم عليها الحياة كلها :
إذا تدبرنا الآيات القرآنية المباركة، والأحاديث النبوية الشرفة والسيرة العطرة لتوصلنا بسهولة إلى أن التعاون مقصد شريف من مقاصد الشريعة ، ومبدأ عظيم من المبادئ التي أرساها الإسلام، فهذا الكون كله بسمائه وأرضه ، وما فيهما من مخلوقات قائم كله على مبدأ الشراكة والزوجية والشفعية التي هي قمة التعاون، ومرحلة متقدمة منه، فقال تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) وقال تعالى : (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ثم أكد القرآن الكريم قاعدة الزوجية التي هي الشراكة في الأصل والخلقة لتتحقق الشراكة والتعاون في التعامل والتعمير فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء)، ولذلك جاءت آخر الآية آمرة بالوفاء بحقوق هذه الأرحام والقرابة الانسانية التي تشمل جميع بني آدم فقال تعالى : (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) فهذه الأرحام هي أرحام الإنسانية التي يجب رعايتها من حيث التعاون والتراحم والتكافل والعدل ، وعدم المظالم.
ولأهمية هذه الشراكة بين الذكر والأنثى والتعاون الإنساني في هذا الكون أولى الإسلام عنايته القصوى بها لينطلق منها إلى سائر أنواع التعاون المطلوب بين بني الإنسان ، حيث كلما ازداد التعاون ازداد العطاء وقلّت المشاكل والتحديات ، لذلك أمر الله تعالى به أمراً مطلقاً شاملاً فقال تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).
إن رسالة الإنسان الذي كلفه الله تعالى بتحقيقها (التعمير والاستخلاف) لا يمكن أن تؤدى على الوجه الأكمل إلاّ عن طريق التعاون والشراكة ، فلا يمكن للفرد الواحد مهما بلغت رتبته أن يحقق هذه الرسالة ، أو جزءاً منها إلاّ من خلال التعاون ، فهذا ذو القرنين العظيم الذي ملك المشرق والمغرب قال عند بنائه السدّ : (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً)، وقد أشارت سورة العصر إلى أن الخروج من الخسارة في الدنيا والآخرة لن يتحقق إلاّ بالإيمان والعمل الصالح والتعاون المشترك على حماية الحقوق وحفظها وتنميتها ، وعلى الصبر ، بل إن سيدنا موسى عليه السلام يؤكد على أن أداء الذكر والتسبيح ، ومهمة رسالة النبوة على الوجه الأكمل لن يتحقق دون التعاون بين أكثر من واحد فقال : (اجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا) فالأزر هو القوة والمنعة والظهر والعون والمساعدة ، ومنه قوله تعالى : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ ) من (وَزَر) بفتح الزاي وهو الحبل المنيع كما قال تعالى : (كَلَّا لَا وَزَرَ) أي لا عاصم ، أو من (أزر) بمعنى المعين القوي والظهر المساند المساعد.
وأكثر من ذلك فقد علّمنا الله تعالى في السورة التي نقرأها في صلواتنا أن نناجي ربنا بصيغة الجمع ونطلب بها منه العون فقال تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (حياة بني آدم وعيشهم في الدنيا لا تتم إلاّ بمعاونة بعضهم لبعض في الأقوال – أخبارها وغير أخبارها – وفي الأعمال أيضاً).
وكذر من ذلك فإن الله تعالى بيّن بأن نصر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كان بسب تأييد الله له، وتأييد المؤمنين الصادقين فقال تعالى : (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن بأن ذلك سنة الله تعالى مع جميع أنبيائه ورسله.
وقد سئل فضيلة الشيخ ابن باز رحمه الله : هل يعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية لاحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟
فأجاب رحمه الله : ( وجود هذه الجماعات الإسلامية فيه خير للمسلمين ولكن عليها أن تجتهد في إيضاح الحق مع دليله، وأن لا تتنافر مع بعضها وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها ، وأن تحب إحداها الأخرى، وتنصح لها وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينها وبين غيرها، ولا مانع من أن تكون هناك جماعات إذا كانت تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم).
إن الله تعالى خلق الإنسان مدني الطبع لا يستطيع أن يعيش دون عون أخيه في حياته كلها، بل التعاون فطري حتى بين الحيوانات ، ولكنه كلما ازداد التعاون بينها كلما ازدادوا بها رقيّاً، فالنحل ، والنمل اللتان إنما خصص الله تعالى لكل واحدة منهما سورة لأنهما في قمة الصبر والتعاون والتنظيم ، ولأن فيهما قدوة وعبرة وفوائد للإنسان ليستفيد من تنظيمهما وتعاونهما البنّاء.
فالنمل تعمل بروح الفريق المتكامل فتحقق احتياجتها الغذائية ، حيث يعي كل فرد من أفرادها ما عليه من أعباء ينفذها على أكمل وجه دون كلل ولا ملل، ولا اعتراف بالفشل مع الإيثار والتضحية من أجل حياة الآخرين، حيث يعملون جسوراً حية بأجسادهم التي قد تموت لأجل نقل ما غنموه من الغذاء عليها، يقول العلماء الذين أجروا بحوثاً على سلوكيات النمل التعاونية : (إن النمل يضحي بعدد قليل من النملات لبناء الجسر ولكنه يجني فوائد عظيمة في تأمين المرور اللازم لآلاف النملات، وهذا النظام الاجتماعي تقوم به النملة بكل طواعية وسرور).
فالنمل تنطبق عليهم صفة البنيان المرصوص من أجسادهم لخدمة الآخرين ، الذي وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به المؤمنين فقال : (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً) كما أن النمل له نظام دقيق قائم على التخطيط والأهداف والتعاون العظيم في توزيع الأدوار.
وكذلك النحل، حيث تقوم على النظام والانضباط ، والتناغم والاتساق من خلال تعاون بنّاء وشراكة حقيقية ، حيث يعمل الكل حسب سنّه ودوره ، فالمهندسات والبناءات يشيدن قرص العسل ، والعاملات يقمن برحلات للكشف عن أماكن الرحيق ، والكيميائيات يتأكدن من نضوج العسل وحفظه، والخادمات يحافظن على النظافة ، والحارسات على باب الخلية يراقبن الداخل والخارج، ويطردن الدخلاء ، والملكة تقوم بإنتاج البويضات ، والهرمونات التي تحدد مختلف نواحي سلوك النحل.
والخلاصة أن النحل التي أكرمها الله تعالى بالوحي إليها (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) لا تعيش إلاّ في مجتمع متعاون متكامل عامل عملاً دؤوباً منتجاً .. على أعلى المستويات.
فالتعاون هو أصل التعايش بين جميع المخلوقات الحية التي سماها الله تعالى (أُمَمٌ أَمْثَالُكُم)ولذلك يؤصل العلماء أن جميعها يعيش على التعاون وأن بعضها يفوق تعاونها على تعاون بعض البشر، يقول الأستاذ مايكل بروكس : (عندما تحتشد الحيوانات تبدي ذكاءّ جماعياً معقداً قد يساعدنا في تصميم الروبوتات… إن قدرة السرب المجمعة من الطيور على معالجة المعلومات تفوق حاصل قدرات أفراده) ويرجع ذلك إلى ما قاله فيتشك من وجود علاقات القيادة والتابعية الحساسة التي تتحول إلى نقطة قوة لاتخاذ قرار جماعي.
وإذا عدنا إلى جسد الإنسان الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم نرى كيفية التعاون والتكامل بين جميع أجهزة الجسم (من الجهاز الهضمي، والجهاز العصبي..) وأعضائه والخلايا بحيث يعمل كلها في تناسق تام وفي أطار منظومة متكاملة كأنها دولة منتظمة لها رئيس، وجنود وكل ما تحتاج إليه، فالجهاز العصبي هو بمثابة هيئة القيادة ، والدماغ هو الرئيس الأعلى ، فإذا وصل إليه الخبر بدخول فيروس (مكروب) وجّه كل طاقاته الممكنة للقضاء عليه، وكذلك إذا اجتاج جهاز أو عضو أي شيء يسعى لتوفيره، ولذلك فهو يصدّر الأوامر الآتية :
1- أمر لزيادة وتيرة الانقباض لعضلة القلب لزيادة جريان الدم نحو خلايا العضلات ليزودها بسرعة أكبر بالأوكسجين، والغذاء، وإخلاء الفضلات وثاني أوكسيد الكربون، ونقل الحرارة الفائضة منها.
2- أمر إلى عضلات التنفس لتزيد من وتيرة انقباضها حتى تزداد وتيرة التنفس وذلك لأجل استيعاب الأوكسجين للدم والتخلص من ثاني أوكسيد الكربون من الدم.
وهكذا فالجسد عالم متكامل متعاون لن يعيش إلاّ بالتعاون، ليكون قدوة لصاحبه ليكون جزءاً متعاوناً ومتكاملاً في جسد أمته.
التعاون ضرورة حياتية ، وفريضة شرعية:
كل ما ذكرناه (وغيره أكثر) يدل بوضوح على أن التعاون ليس ضرورة إنسانية ، بل ضرورة حياتية وكونيّة ، فالكون كله بمكوناته البيئية والحيوانية والانسانية تقوم على التعاون البديع الذي خلقه الله تعالى خلقاً بديعاً ، وهداه هدياً عميقاً (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).
وقد أكد الشرع ما أقرّه الطبع والعقل فجعل التعاون فريضة شرعية فقال تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) فهذه الآية الكريمة تدل على مجمل الحكم الشرعي للتعاون ، وهو أن التعاون بصورة عامة فريضة شرعية إما فرضاً عينياً حينما يكون التعاون سبباً متعيناً وحيداً لتحقيق واجب أو ترك محرم ومفسدة ومضرة محققة، وإما فرضاً كفائياً إذا لم يكن متعيناً، ولكن إذا لم يكن سبباً لذلك فيكون مستحباً، والاستحباب هو الحكم العام للتعاون على البرّ والتقوى، وتدل الآية أيضاً على أن التعاون على الاثم والعدوان محرّم، وإذا كان على شيء أقل من الحرام فيكون مكروهاً.
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة – لا يمكن أن تحصى في هذه العجالة – حول مجموعة من القيم العظيمة التي ترسخ روح التعاون والشراكة ، والجماعة والمؤسسية، والتضامن والتكامل ، بل إن جميع التشريعات حتى الخاصة بالشعائر فيها ما يؤدي إلى ذلك، ويحقق ، أو يشارك في تثبيت هذه المعاني، فالصلاة التي هي عبادة وصلة بين العبد وربّه ، يناجي فيها البعد بين يدي خالقه بصيغة الجمع ، ويطلب المعونة كذلك قائلاً : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)بالاضافة إلى فرضية صلاة الجمعة ووجوب صلاة العيدين والجماعة على الراجح من أقوال أهل العلم.
ولا يخلو الصيام أيضاً من التعاون الانساني حيث يجوع الصائم ويعطش لتنتعش لديه روح الاحساس بجوع الآخرين وعطشهم وفقرهم وعوزهم، بالاضافة إلى ما يترتب عليه من فدية وكفارة مالية عند عدم القدرة، أو خلل، ثم ما ينتهي به الصيام من صدقة الفطر التي هي طعمة للمساكين وإدخال السرور في قلوبهم ، وتعاون لجعل عيد الفطر عيد الفرحة للجميع.
وأما الزكاة فهي ركن مالي تعاوني تكافلي في الإسلام لا يكتمل إيمان العبد ، ولا ادعاؤه للاخوة إلاّ بها فقال تعالى : (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ).
وكذلك الحجّ فهو – بالاضافة إلى جانبه التعبدي- رحلة جماعية ومؤتمر عالمي لتحقيق التضامن والتعاون، وما يصحبه من الهدي والفدية المالية التي تجسد التكافل والتعاون الانساني.
وتتجلى تجليات التعاون والتضامن بأجمل صورها في العيدين المشروعين في الإسلام من خلال صدقة الفطر لإدخال السرور في نفوس المحتاجين قبل عيد الفطر، وكذلك الأضاحي التي تدخل البهجة والسرور أيضاً.
وهكذا فالعبادات الشعائرية في الاسلام كلها تعاون، أو تربية ، وترويض وتعويد على التعاون وثقافته والتعايش معه وله.
وقد بنى الإسلام حضارته على التعاون البنّاء والشراكة الحقيقية ، والإيثار ، حتى وصف الله تعالى الجيل الأول بقوله : (…وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، حيث تآخى الأنصار مع المهاجرين وتنازلوا عن نصف ما لديهم من ثمار لأجل إخوانهم المهاجرين في صفقة مؤاخاة لم يشهد التأريخ مثلها جلالاً وروعة وصفاء وحباً وإيثاراً.
وقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي الأول على أساس الحب لله ، ولأوليائه، والخير، المتجسد في العقيدة والأخلاق التي يتصدّر التعاون منها موقع الصدارة ، حيث تمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على أساس العقيدة ، ثم كتب صحيفة بينه وبين اليهود والمشركين الموجودين في المدينة المنورة على أساس المواطنة، والدفاع عن المدينة تعدّ قمّة في التعاون الإنساني ، كما أنها أول دستور يجمع جميع الساكنين في في الدولة على أساس التعاون على البرّ والتقوى، وجعلهم أمة واحدة في التعاون على الدفاع ونحوه.
ثم إن مظاهر التعاون البنّاء المصحوب بالأخوة الصادقة والحب المفعم كانت تتجلى في كل تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ، حي ثكان يبدأ بنفسه، فلما بنى مسجد المدينة شارك في مستلزمات البناء، فقال قائل من المسلمين :
لئن قعدنا والنبيّ يعمل ***لذاك منا العمل المضلل
ثم ارتجز الأنصار :
لا عيش إلاّ عيش الآخرة *** اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة
وردّ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو يحمل ويعمل معهم : (لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللهم ارحم المهاجرين والأنصار) .
ويوم الخندق كان صلى الله عليه وسلم ينقل التراب حتى أغبّر بطنه وهو يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا ***ولا تصدقنا ولا صليّنا
فأنزلن سكينـة علينا *** وثبّت الأقدام إنْ لاقينا
إنْ الأُولى قد بغوا علينا***إذا أرادوا فــتنة أبَيْنـا
وقد عقد البخاري له باباً سماه : باب التعاون في بناء المسجد وباباً آخر سماه : باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً ، ثم روى بسنده عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المؤمن للمؤمن كالنبيان يشدّ بعضه بعضاً) ، ثم شبّك بين أصابعه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً إذ جاء رجل يسأل أو طالب حاجة ، أقبلّ علينا بوجهه فقال : (اشفعوا فلتؤجروا ، وليقض الله على لسان نبيه ما شاء)، قال ابن بطال : ( والمعاونة في أمور الآخرة ، وكذلك في الأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها، وقد ثبت حديث أبي هريرة : (والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه).
التعاون في الإسلام منظومة شاملة وكاملة:
وقد أفاضت السنة النبوية المشرفة في تفاصيل التعاون وأنواعه، وأجره وثوابه ، فلو ضمت إلى ما ذكره القرآن الكريم لانبثقت منهما منظومة متكاملة في التعاون نحاول أن نذكر معالمها ، بادئين ببعض النصوص والتعليق عليها:
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً) قال ابن الجوزي : (ظاهره الإخبار ومعناه الأمر، وهو تحريض على التعاون).
فالحديث يدل على الأهمية القصوى للتعاون ، فكما أن البنيان لا يكتمل ولا يقوى ولا يقدر البقاء والاستمرار أمام التحديات إلاّ إذا كان متماسكاً، فكذلك المؤمنون لا يمكن أن تتحقق قوتهم ويستمر عطاؤهم إلاّ بالتعاون.
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كُربة فرّج الله عنه كُربة من كُربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة).
فالحديث يدل على ربط النجاة في الآخرة بالقيام بحاجة المحتاجين في الدنيا ، وعلى ضرورة التعاون على قضاء حوائج الناس.
3- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (….ومن يسِّر على معسر يسِّر الله عليه في الدنيا والآخرة). فالحديث يدل على الأجر العظيم على أيّ تعاون للتيسير على المعسرين، قال ابن دقيق العبد : (هذا الحديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب ، وفيه فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما يتيسر من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، أو غير ذلك).
4- قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) حيث يدل الحديث على الثواب العظيم عندما يكون الانسان يعاون أخاه على تحقيق أيّ شيء مباح محتاج إليه.
5- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر)، فالحديث واضح في فضيلة التعاون وضرورته.
6- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا : لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ مَنْ فوقنا، فإنْ تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإنْ أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
فهذا الحديث الشريف حديث عظيم يشبّه حياة المجمتع ، أو الأمة ، أو الانسانية بالسفينة التي فيها عدد كبير من الناس من مختلف المشارب والعقول والمدارك، وذوي المصالح المتنوعة ، فالدنيا بأسرها كالسفينة الواحدة فيها المسلم والكافر، والظالم والفاجر، والبرّ والعاصي، فيجب أن يتفقوا – على الأقل – على ما يمنع الفساد ويدرأ المضار ، وعلى ما يحقق المصالح والمنافع، فإن تعاونوا على حفظها وتسييرها بالشكل الصحيح بلغوا شاطئ البَرّ والسلامة، وإلاّ سيصيبهم الهلاك والخسران بمقدار الخطأ الذي وقعوا فيه .
فالحديث يدل على ما يأتي:
أ- المصالح العامة داخل الأمة ، أو الجماعة ، أو الانسانية مشتركة ، وكذلك المفاسد والمضار مشتركة، وبالتالي فالمسؤولية مشتركة كما أن العواقب مشتركة فقال تعالى : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً).
ب- وجوب التعاون والشراكة على البر والتقوى ، وحرمة التعاون والشراكة على الاثم والعدوان.
ج- ضرورة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ووجوب منع كل ما يضر عامة الناس، كلٌّ بمقداره ، قال بعض العماء : (إن الدنيا بأسرها كالسفينة الواحدة) .
د- إن النيّة الحسنة لا تنفع مع فعْل ضار وحرام، وإنما تنفع مع فعْل مشروع فالغاية الشريفة لا تبرر العمل غير الشريف ، وأن الشريعة هي التي ضبطت ما هو مشروع ، وليس الانسان وحده.
ه- القيادة يجب أن تكون واعية لا تستسلم لتلبيس ابليس، وتزيين أصحاب الأهواء أضرارهم، ومعاصيهم .
و- ضرورة وجود المؤسسات المجتمعية التي تتعاون لمنع المفاسد والمضار والخبائث بجميع السبل المشروعة المتاحة.
ز- التمثيل بالسفينة يشعر بأن المجتمع يتعرض للمشاكل والتحديات والنزاعات والأهواء، والصراعات الخطيرة مثلما تتعرض السفينة للأعاصير الهوجاء والأمواج المتلاطمة المتدافعة ، وأن أي تفريط من أهلها بل إن عدم وجود ربّان خبراء حكماء ماهرين لها سيترتب عليه هلاك السفينة ، وغرق أهلها كلهم أو بعضهم.
ح- ضرورة غرس الحرص الجماعي ، وثقافة التعاون للحفاظ على سفينة المجتمع.
ط- ضرورة وجود قيادة ماهرة حكيمة خبيرة حازمة حاسمة، ولها القدرة على التنفيذ من خلال تعاون المجتمع معها، ووجود من يعينها من الجنود والأمن ونحوهم .
ي- تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة ، وأن درء المفسدة مقدم على تحقيق المصلحة.
ك-ضرورة تعاون الجميع، لأن الخير العام للجميع، والشر أيضاً يصيب الجميع.
ل- أن الاستبداد بالرأي والدكتاتورية ، وعدم التشاور سيؤدي إلى هلاك الجميع، كما أراد هؤلاء خرق السفينة دون مشورة.
م- الحرية مصونة للفرد بشرط أن لا تتعارض مع المصالح العامة ، ومصالح الآخرين، فالحرية الشخصية مقيدة بما لا يضر بالآخرين.
كما يدل هذا الحديث الشريف على مجموعة من دوائر التعاون:
أولها وأهمها: دائرة التعاون داخل الأسرة الواحدة، ثم دائرة الأقارب جميعاً.
ثانيها: دائرة التعاون داخل الجماعة الواحدة، والقبيلة الواحدة، والقرية الواحدة، والمدينة الواحدة، وهكذا.
ثالثها: دائرة التعاون بين جميع المسلمين.
رابعها: دائرة التعاون الانساني بين جميع البشر على ما يحقق مصالحهم، ويدرأ عنهم الشرور والمفاسد والمضار والجوع والفقر ، والعوز، فالله تعالى خلق الكون لنا جميعاً (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) وبالتالي فعلى الجميع حفظه وحمايته. [الرحمن : 10]
فالتعاون على البرّ والتقوى في جميع هذه الدوائر الأربع مطلوب شرعاً – كما سبق – بل إن بعض الأحاديث النبوية الشريفة تدل بوضوح على أن ضروريات الناس واحدة وهي مقدمة على الحوائج الفردية ، كما أن الحوائج العامة واحدة وهي مقدمة على الرفاهيات والمحسنات الفردية، وهذا ما يدل على الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره بسندهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : (بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل على راحلة فجعل يضرب يميناً وشمالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن له كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له) قال أبو سعيد : فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل) وأصناف المال التي ذكرت كالثوب، والنعال، والقربة، والماء، والخيمة، والنقود ونحوها.
والحديث حملّه جمهور الفقهاء على الإيثار المسنون، ولكن الذي أفهمه هو أن على الدولة ومؤسسات المجتمع توفير الضروريات والحاجيات العامة بجميع الوسائل المتاحة المشروعة، فإذا لم يتحقق الحد الأدنى، فهنا تقع المسؤولية على الأفراد بأن يقوم كلّ واحد بدفع ما فضُل على ضرورياته وحاجياته الأساسية إلى هؤلاء الذين فقدوا الضروريات والحاجيات الأساسية.
ثمار التعاون للجميع:
1- الامتثال لأوامر الله تعالى بالتعاون والشراكة على البرّ والتقوى، وبالتالي يترتب عليه الكثير من توفيق الله تعالى وبركاته .
2- تحقيق التكامل ، وتوزيع الأدوار بين الأفراد والجماعات والمؤسسات.
3- تبادل الخبرات والتخصصات وتكاملها، واستفادة كل جهة، او شخص من خبرات وتخصصات الآخرين، وملكاتهم وطاقاتهم.
4- استثمار الأوقات بشكل جيد وتنظيمها بشكل جيد مثمر.
5- التقليل من المصروفات المالية.
6- توفير الموارد البشرية والمالية، وتنظيم الجهود ، وتوجيهها.
7- تقوية المؤسسات المتعاونة بعضها ببعض وقدرتها على الصمود أمام التحديات والمخاطر.
8- تقوية أواصر العلاقات وتحقيق الأخوة الاسلامية، أو الإنسانية ، ونشر الودّ والإخاء بين المتعاونين.
9- سهولة إنجاز المطلوب في أي مكان ، من خلال الأذرع المتعاونة.
10- القضاء على الأنانية والفردية، والحقد والحسد ونحوها، أو التخفيف منها على الأقل.
11- تقوية الشخص (الطبيعي ، والاعتباري) من خلال وجوده داخل المؤسسات المتعاونة ، واندفاعه للتجديد وبذل المزيد من الابداع والابتكارات على أساس التنافس الشريف.
وهذه الثمار في جوهرها مقاصد شرعية تدل عليها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
صور التعاون:
إن محل التعاون المشروع في الإسلام هو (البرّ) على أساس التقوى، الذي يشمل كل ما فيه خير للعقيدة السليمة ، والقيم والأخلاق النبيلة، ومنفعة ، ومصلحة للإنسان ، ودرء للمفسدة والمضرة والخبث، ومقاومة للظلم والعدوان والطغيان، وبالتالي فهو يشمل ما يأتي:
1- التعاون لتفريج الكربات ، والتيسير على المعسرين وسد حاجات المعدومين والمنكوبين .
2- إغاثة الملهوفين وتوفير الاحتياجات لهؤلاءالذين تصيبهم الكوارث ، وللمحتاجين والملهوفين.
3- التعاون في الثبات على الحق والاستمساك به .
4- التعاون في الدعوة إلى الله، والتعريف بالاسلام، ونشر الفضائل، والنهي عن المضار والمفاسد من المنكرات والفواحش.
5- التعاون على إقامة الشعائر والعبادات وبناء المساجد والمدارس والمشاريع الخيرية.
6- التعاون مع الرؤساء والأمراء والمسؤولين لتحقيق العدل والاصلاح والتنمية الشاملة.
7- مساعدة الخدم والمستضعفين وتسهيل مهماتهم من خلال التعاون معهم.
8- التعاون في طلب العلم بصورة عامة، والتفقه في الدين بصورة خاصة.
9- تقديم المشورة والنصيحة لكل من يقبلها .
10- التعاون في جمع الزكوات والصدقات والتبرعات ، ونحوها ، وفي صرفها وتوزيعها بشكل أفضل.
11- التعاون في الاصلاح بين الناس وحلّ الخلافات والنزاعات داخل الأسرة ، وبين الجيران ، وداخل المجتمع ، ومؤسساته.
عقبات التعاون وتحدياته :
إن من أخطر العقبات التي تقف أمام التعاون البنّاء داخل البلاد الاسلامية ، وأشد التحديات التي تواجه المؤسسات والجمعيات العاملة فيها، هي ما يأتي :
1- التعصب بجميع صنوفه، من التعصب القومي، والقبلي، والحزبي.
2- اتباع الأهواء وحبّ التفرد والتكبر والتجبر والأنانية، والحقد والحسد وسوء الظن، وكراهة الآخرين، وحبّ الصدّارة ، والزعامة الموهومة ونحوها من أمراض حظوظ النفس.
3- وجود الثقافة الفردية من خلال نشر الأوهام والشكوك في أن التعاون مضيعة للوقت، وجعل بعض التجارب الفاشلة حجة قاطعة.
4- والكسل ؛ حيث إن العمل التعاوني يحتاج إلى العمل والتنافس وإثبات الوجود.
ولذلك فنحن نحتاج في مؤسساتنا إلى ربط التعاون بالقيم والأخلاق الإسلامية، وتربية أفرادها عليها، وتزكيتهم بها، وتطهير القلوب من حظوظ النفس، ونشر ثقافة المؤسسة الصحيحة ، وتنمية الروح الجماعية.
وأخيراً فإن فيما بلّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعاون ، وما طبقه على نفسه، وعلى صحبه الكرام ، ثم ما قام به الخلفاء الراشدون : قدوة كاملة لنا بأن نكون متعاونين ، بل متآخين متحدين لتحقيق الخير لأمتنا بل لجميع العالمين كما أراده الله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).
ولله درّ أمير الشعراء شوقي إذْ يقول :
إن التعاون قوة علوية *** تبني الرجال وتبدع الأشياء
وقال آخر
لولا التعاون بين الناس ما شرفت *** نفس ، ولا ازدهرت أرض بعمران
ولله درّ الشاعر حافظ إبراهيم إذ يقول:
لاتعجبن لملك عز جانبه *** لولا التعاون لم ت