جريدة الوطن – الدوحة
حذر خبراء من مخاطر النزعة الاستهلاكية على المجتمعات معتبرين أن تلك النزعة هي من خصائص النظام الرأسمالي، ولفتوا إلى إشكالات تنامي الاستهلاك المفرط في المجتمعات المعاصرة من زوايا أخلاقية وبيئية.
ويشير مصطلح النزعة الاستهلاكية إلى نظام اجتماعي واقتصادي يحفز عملية شراء البضائع والاستفادة من الخدمات بكميات أكبر عن الحاجة من أي وقت سابق.
وعادة ما يرتبط المصطلح بانتقادات لمفهوم الاستهلاكية.
في بعض الأحيان، غالبا ما يستخدم مصطلح «النزعة الاستهلاكية» للإشارة إلى حركة مؤيدي الثقافة الاستهلاكية أو حماية المستهلك أو نشاط المستهلك، والتي تسعى إلى حماية وتوعية المستخدمين من خلال اشتراط القيام بمثل هذه الممارسات، كنظام تعبئة السلع الأمين والإعلانات الصادقة وتوفير ضمانات للمنتجات ودعم معايير السلامة المحسّنة. وانطلاقا من هذا المعنى، يتضح أن هذا المصطلح يشير إلى حركة أو مجموعة من السياسات التي تهدف إلى تنظيم حركة المنتجات والخدمات والأساليب والمعايير الخاصة بالشركات المصنّعة والباعة والجهات المعلِنة والتي تصب في مصلحة المشترين.
وفي علم الاقتصاد، يشير مصطلح النزعة الاستهلاكية إلى السياسات الاقتصادية التي تركز على مفهوم الاستهلاكية. وبالمعنى المجرد، يرمز المصطلح إلى الاعتقاد بأن الاختيار الحر للمستهلكين ينبغي أن يؤسس الهيكل الاقتصادي للمجتمع.
الوطن الاقتصادي تابع آخر اهتمامات مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، عضو كلية الدراسات الإسلامية بمؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع في هذا المجال، حيث نظم مؤخرا ندوة مفتوحة تحت عنوان: «النزعة الاستهلاكية من منظور بيئي وأخلاقي».
وعالجت الندوة إشكالات تنامي الاستهلاك المفرط في المجتمعات المعاصرة من زوايا أخلاقية وبيئية.
وشارك في الندوة كل من الشيخ الدكتور علي محيي الدين القره داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والدكتور سيف الحجري، مؤسس ورئيس مركز أصدقاء البيئة في قطر، والدكتور سيد نعمان الحق، أستاذ بمركز إدارة الأعمال بباكستان، والدكتور دك شوو، عالم بيئة ونائب مدير معهد «كابي» الدولي في بريطانيا.
في البداية قال الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين إنه في علم الاقتصاد يراد بالنزعة الاستهلاكية تحفيز عملية شراء البضائع والاستفادة من الخدمات بكميات أكبر عن الحاجة وهي تؤكد وتجسد الثقافة الاستهلاكية، والاستغلال والتسويق ووسائل الإعلام لمزيد من الاستهلاك ولا سيما السلع المترفة.
وأشار القره داغي إلى أن النزعة الاستهلاكية تدخل ضمن خصائص النظام الرأسمالي في منح الحرية لسوق العرض والطلب لأنها الجهة المسؤولة عن ضمان العدالة والنزاهة الاقتصادية في المجتمع، منوها إلى أن هذه الحرية فشلت كما أثبتت الأزمات الاقتصادية.
وأوضح الدكتور القرة داغي أن الشركات الاحتكارية تنفق المليارات من الدولارات للإعلانات المشجعة والعروض بما في ذلك التخفيضات والعروض والجوائز وهي التي تقود النزعة الاستهلاكية من خلال تشجيع النبلاء وصفوة المجتمع إلى الحصول على المزيد من السلع للتباهي لا للاستخدام.
وقال: لكن اليوم استغرقت مجتمعاتنا العربية في النزعة الاستهلاكية في ظل وجود أعداد مهولة من الفقراء وذلك بميلها للحصول على السلع التي تحقق لها الرفاهية في وقت نعيش فيه عصر الاستهلاك الكثير وعصر المفارقات والخلل الكبيرين.
ويذكر القرة داغي بأن النزعة الاستهلاكية كانت في الجاهلية للتفاخر، قال تعالى في وصف «يقول أهلكنا مالاً لبدا»، منوها بخطورة تبديد الثروة للتفاخر والسعي لتحقيق السعادة عن طريق التمايز الجشع.
وقال: يشكل سكان أميركا 6 بالمائة من سكان العالم ولكنهم يستهلكون 55 بالمائة من مجمل الموارد العالمية إذ أن حيوانات الدول المتقدمة بما في ذلك الكلاب والقطط تستهلك ما يعادل 25 بالمائة من الإنتاج العالمي، مشيرا إلى أن القطة الأميركية الواحدة تستهلك 150 رطلا من الأطعمة، أما الكلب الأميركي نحو 275 رطلا من الأطعمة، بينما الفقير في إفريقيا لا يرى لحما.
وشدد القرة داغي على أهمية ترشيد الاستهلاك من أجل نهضة الأمة وأشار إلى ضرورة الاعتدال والوسطية في كل شيء.
وقال إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يساعد فقراؤهم، مستشهدا بالقول: كان عمر يتخذ الخس من الطعام ويلبس المرقع.
واستشهد بأن الترف طريق الهلاك «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا».
وأكد بأن الاستهلاك الرشيد ولد في أهل العرب.
وأكد أن النزعة الاستهلاكية تصنعها سياسات الشركات الكبيرة القائمة على الأنانية وهي من آثار العولمة وتترتب عليها آثار سلبية منها إغراق السوق، اقتصاد الأفراد، كثرة الديون، وإلحاق الضرر بالمجتمع.
وأشار إلى أن علاقة النزعة الاستهلاكية بالإقراض وطالب بتنمية قيمة الإنتاج وتشجيع الادخار والوقوف بحزم أمام مظاهر الإنفاق وإحياء فريضة الزكاة وترشيد التمويل الإسلامي بما يحقق مقاصد الشريعة.
وحذر القرة داغي من مخاطر النزعة الاستهلاكية التي قد تؤدي إلى آثار كارثية من بينها فقدان الأخوة الإنسانية وتفشي الأمراض وانتشار التخلف والبطالة وحرمان الأطفال.
وأشاد بأهمية حماية المستهلك من الغش «من غش فليس منا».
وطالب القره داغي بمكافحة الغش بكل أنواعه ومكافحة الإسراف والتبذير، وتشجيع مؤسسات حماية المستهلك غير الربحية وتطبيق القوانين والأنظمة الرادعة. وأشاد بدور وسائل الإعلام وأشار إلى تقرير التنمية البشرية الذي أصدره البرنامج العالمي للأمم المتحدة عام 1998 الذي يقول إن التربية والتوعية علاج للعوامل النفسية والاجتماعية ولتطوير الصحة الإدارية وتحسين الأوضاع الاقتصادية
الحجري
وقال الدكتور سيف بن علي الحجري مؤسس ورئيس مركز أصدقاء البيئة في قطر إن مصطلح النزعة الاستهلاكية يشير إلى السياسات الاقتصادية التي تركز على مفهوم الاستهلاكية ويرمز إلى الاعتقاد بأن الاختيار الحر للمستهلكين ينبغي أن يؤسس الهيكل الاقتصادي للمجتمع.
وأوضح الحجري أن من الآثار السلبية للنزعة الاستهلاكية التأثير على البنية النفسية للفرد والمجتمع، فما توصلت إليه العلاقات الاستهلاكية المعاصرة، من تدمير للبنية الاقتصادية والاجتماعية تحت شعار المجتمع الاستهلاكي امتدت إلى النسيج النفسي للإنسان فمن أبرز سمات هذا النظام العمل على أن تذوب حرية الفرد فالإنسان هنا لم يعد المقياس الذي تقاس إليه كل الأشياء بل على العكس تماما لقد أصبح يقاس هو نفسه من خلال تبعيته للأشياء.
ونوه إلى أن من بين الآثار السلبية للنزعة الاستهلاكية أيضا التأثير على البيئة الطبيعية فطبيعة المجتمع الاستهلاكي انه يقوم على النمو الإنتاجي الكبير لإشباع حاجات اليوم ورفع سقف رفاهية إنسان الحاضر دون الأخذ بالاعتبار حقوق الأجيال القادمة في الاستمتاع بكوكب آخر زاخر بالخيرات هذا النمو المتعدد الأشكال والاتجاهات والملتهم لقسم كبير من موارد الطبيعة الحية وغير الحية.
وقال الدكتور الحجري «لما كان كل توسع الإنتاج يؤدي بالضرورة إلى زيادة في استهلاك الموارد الطبيعية فإن تلك الموارد تصبح معرضة أكثر للاستنزاف والنفاذ»، موضحا أن النزعة الاستهلاكية هي قوة ناشئة من السوق قد تتسبب في إفساد الأفراد وإلحاق الضرر بالمجتمع والمطلوب لفهم أسباب شيوع النزعة الاستهلاكية والحد من آثارها السلبية على حياة الإنسان من دراسة الأمر في محاور خمسة:
أولا: علاقة الإنسان بخالقه: علاقة تهدف إلى تربية العقائد السوية ومن ثم تربية ضمير حي قادر على الرقابة الذاتية الواعية فالضمير الحي هو ذلك الشعور الإنساني الباطني الذي يجعل المرء رقيبا على سلوكه ولديه الاستعداد النفسي ليميز الخبيث من الطيب في الأقوال والأعمال والأفكار.
ثانيا: علاقة الإنسان بأخيه الإنسان: علاقة تهدف إلى خلق علاقات اجتماعية متوازنة قائمة على التعاطف والتكافل والتواد وشعور الإنسان بحاجات أخيه الإنسان، دون أن ينال ذلك من تلبية حاجاته الأساسية، والإنسان الاستهلاكي لا ينطلق إلا من الرغبة في رفع مستوى رفاهية عيشه وتوسيع آفاقه الاقتصادية لذلك قليلا ما يهتدي إلى استثمار الطبيعة واستخدام خيراتها في الإنتاج المثمر والمستمر لصالح الإنسان فالنظرة الضيقة غالبا ما تقود الإنسان إلى أن يهمل قوانين الطبيعة ويحملها ما لا تطيق باحثا عن الاستغلال والاستنزاف والسيطرة ونتيجة لهذا الطمع المحكومة بفوضى الاستهلاك والأنانية، تنتشر كوارث من صنع الإنسان ويتسع نطاقها وتزيد قوتها.
ثالثا: علاقة الإنسان بالمكونات الحية لبيئته: هذه العلاقة التي تشمل مجمل مكونات التنوع الحيوي أي علاقته بالحيوانات والنباتات والطيور وغيرها تلك المكونات الحية شريكة الحياة مميزا بين أدوارها من مستهلكة ومنتجة بما يساعد على إحداث أكبر قدر من التوازن البيئي حيث يعيش الإنسان في المجتمعات المعاصرة علاقة متوترة جدا بسبب عدم تقديره لحاجات البيئة وحدود قدرتها على حمل أعباء الأنشطة البشرية الإنتاجية والاستهلاكية التي لا حدود لها.
ولفت إلى أن اقتصاد الرفاه الذي تلوح به المجتمعات الاستهلاكية ليس سوى ثمرة خسارات الأنظمة البيئية والاستغلال الجائر والهائل للموارد الطبيعية وأخطر ما يهدد الحضارة الإنسانية فيوقتنا الراهن عولمة الثقافة الاستهلاكية الأمر المسؤول عن اختلالات عميقة لا سابق لها في وظائف النظام البيئي العالمي والمحلي، مستشهدا بالآية الكريمة «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» سورة الروم- الآية 41.
وأوضح أن أحد أهم منجزات الإنسان الثقافية، بروز مفهوم التنمية المستدامة ذلك المفهوم المتمثل في العلاقة بين الحق في استغلال الموارد الطبيعية والمسؤولية عن حماية البيئة وقد صدر عن قمة الأرض في مؤتمر ستوكهولم بالسويد عام 1972 مبدأ يمثل إعلانا عن البيئة الإنسانية متضمنا أول وثيقة دولية بمبادئ العلاقات بين الدول في شأن البيئة وكيفية التعامل معها والمسؤولية عما يصيبها من أضرار.
وأشار إلى أن هذا المبدأ يعتبر من أهم مبادئ إعلان ستوكهولم حيث عمل على التوفيق بين حرية الدولة في ممارسة ما تشاء من أنشطة استثمارية لمواردها في حدود سيادتها الإقليمية من ناحية ومن ناحية أخرى ضمان ألا تتسبب هذه الحرية في الإضرار ببيئة الغير أو خارج الحدود السيادية للدولة مثل المواقع التي تشكل تراثا مشتركا للإنسانية جمعاء.
رابعا: علاقة الإنسان بالمكونات غير الحية: علاقة يحكمها منطق التوازن، بالتعامل مع مكونات البيئة دون إسراف أو تقتير بما يضمن تحقق مفاهيم التنمية المستدامة التي تجبر على التعامل مع مكونات الحياة بطريقة تحفظ للأجيال القادمة حقها في كوكب نظيف يزخر بالحياة والخيرات وجاء في محكم التنزيل.
واستشهد الحجري بالآيتين الكرمتين «والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون» سورة الحجر- الآية 19 «وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم» سورة الحجر- الآية 21.
وقال إن الميزان الإلهي في خلق المادة نجده في أوزان العناصر والذرات والمعادلات الكيميائية، بنفس ما نجده في حسابات الفلك والنجوم والكواكب، وعن طريق الحسابات الرياضية توصل أينشتاين إلى نظريته في النسبية قبل أن تتحقق بتفجير القنبلة الذرية، وعن طريق الحسابات الرياضية يتوصل علماء الفلك إلى اكتشاف بعض الأقمار والمجرات قبل أن يتعرفوا عليها بالمراصد.
وأشار إلى أن هذا الميزان الدقيق في المخلوقات الحية وغير الحية يستلزم عدم الإخلال به حتى لا يفسد النظام في الذرة والعناصر والخلايا والغلاف الجوي، موضحا أن هذا ما أظهرته الدراسات ومنها، دراسة قامت بها إحدى الجامعات الأميركية حول المقارنة بين حجم الأضرار البشرية والأضرار الطبيعية على التوازن البيئي، حيث أظهرت أن 50 بالمائة من حجم إتلاف النظام البيئي بشري، مقابل 5 % فقط من حجم إتلاف النظام البيئي طبيعي.
وقال: على ذلك فالطبيعة لا تخرّب نفسها، ولا تحطم ذاتها، وفي حال الأضرار الطبيعية مثل الفيضانات أو موجات الجفاف أو حرائق الغابات، فإن للطبيعة قدرة عجيبة للتكيف مع الأوضاع الناجمة عن تلك الأضرار، وسرعان ما تستعيد الأنظمة البيئية المتضررة توازنها الطبيعي ووظائفها الأصلية، فالحياة على كوكب الأرض نشأت من سلسلة طويلة من عمليات الهدم وإعادة البناء، أما ما أتلفه الإنسان فلا يعود إلى وضعه الأصلي إلا إذا بذلت الجهود الجبارة وصرفت الأموال الكثيرة في الترميم والإصلاح.
خامسا: علاقة الإنسان بالتراث الإنساني: التراث الإنساني ملك للبشر جميعا، وعلى قدم المساواة ينبغي على الجميع الإسهام فيه، فلكلٍ دوره، وإذا كان التراث الإنساني قد انقسم إلى شقين عظيمين: التراث التكنولوجي، والتراث الأخلاقي المتمثل في الرزمة القيمية، التي على الرأس منها دين الحق، الإسلام، فلقد تبين أن منظومة القيم هي أعز ما يمكن أن يمثل القيم الإنسانية التراكمية، وهي مخزون العالم من التجارب الإنسانية، فهي قيم لابد من الانتفاع بها، فهي سبيل البشر لضمان النمو والترقي، وحفظ التراث بشقيه، فكم من أمم ارتقت وارتفع شأنها، برقيها في العلوم الفيزيائية والتكنولوجية، كمية التراكم، ولكنها بادت حين انهارت قيمها الأخلاقية.
ودعا الدكتور الحجري إلى أهمية العمل على أن يحقق النمو الاقتصادي الهدف الإنساني الأرقى، هذا الهدف الذي يضع في اعتباره حاجات الإنسان الأساسية التي تؤكد إنسانيته، متجاوزا كل المفاهيم الاستهلاكية المعاصرة في النمو، ومتجاوزا كل قيم الاستهلاك الذي يهدف للربح فقط، هذا الاستهلاك المفصول عن دوره الاجتماعي وصلاته بالإبداع الإنساني.
وأكد الحجري أنه من الواجب التشديد على علاقات متبادلة وقوية بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية والتنمية البشرية والتنمية البيئية، مشددا على ضرورة أن يتصدى النمو الاقتصادي للنزعة الاستهلاكية، وهي بالضرورة مهمة إنسانية تهدف إلى حماية الإنسان والعمل على مساعدته للخروج من شباك الظلم والاستلاب، وإدخاله ثانية عالم الإنسانية.
وختم بالمطالبة بالتركيز على أن ينظر النمو الاقتصادي إلى الإنسان كفاية لهذه الحياة ومنطلقا لها، ومن الاستهلاك بالنسبة له إلا للوفاء بحاجات الإنسان، لا اعتبار الإنسان نفسه حاجة للاستهلاك.