يمكن تلخيص العلاقة الدولية في حالة السلم ، وفي حالة الحرب في الآيات الثلاث في سورة الممتحنة وهي : (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) ، فالآية الأولى تبين أن الإسلام يتطلع إلى إزالة العداوة ، وتحقيق المودة بكل الوسائل المتاحة ، وأما الآية الثانية فتبين العلاقة بين المسلمين وغيرهم في حالة السلم وعدم الاعتداء حيث تقوم على ما يأتي :
1 ـ البر والإحسان 2 ـ والعدل والميزان .
وأما الآية الثالثة فتبين العلاقة مع غير المسلم في حالة الحرب والعداوة حيث تقوم على أن يتحد المسلمون ويكون ولاؤهم لله تعالى وللمؤمنين بالمحبة والنصرة ، وأن لا تكون نصرتهم لهؤلاء الكفرة المحاربين ومع ذلك فإن هذه العلاقة يجب أن تقوم على العدل والإنصاف حتى في حالة الحرب .
والعظيم في هذه الآية أنها جاءت في سورة تبدأ بما فعله أعداء الله تعالى مع المسلمين ، وما يريدون أن يفعلوه معهم:(يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) ثم يقول الله تعالى : (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون) ومع ذلك أمر الله تعالى فيها بالعدل وعدم الظلم ، كما أكد ذلك قوله تعالى : (لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) .
والأعظم من ذلك أن سورة الممتحنة نزلت بعد سورة البراءة مما يبعد كل البعد مسألة النسخ ونحوه ، حيث برهنت السورة على أن هؤلاء المشركين كانوا لا يرعون عهودهم ، بل إنهم قد خانوا الله وخانوا المؤمنين ، ومع ذلك تؤكد هذه الآيات على أن يتعامل المسلمون مع غيرهم على قواعد العدل في جميع الأحوال ، وعلى قواعد البر والإحسان أيضاً إذا لم يمارسوا ضد المسلمين الظلم والإخراج والقتل والإرهاب ، فالقاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية هي جعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان وفيما عدا ذلك تكون العلاقة هي البر والإحسان ، فالإسلام ليس براغب في الخصومة والمقاطعة ، بل يريد أن تبقى أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة انتظاراً لليوم الذي تجتمع فيه النفوس على المحبة والسلام .
يقول سيد قطب : (وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، بل نظرته الكلية لهذا الوجود ، الصادر عن إله واحد ، المتجه إلى إله واحد ، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي ، من وراء كل اختلاف وتنويع ، وهي أساس شريعته الدولية ، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة ، لا يغيرها إلاّ وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء ؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وهو كذلك اعتداء ، وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين .
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها ، فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلاّ حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، وإعلاء كلمة الله .
هذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون ، فمن وقف معهم تحتها فهو منهم ، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم ، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يحل بينهم وبين سماعها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه .
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته ، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله ، فلا خصومة على مصلحة ، ولا جهاد في عصبية ـ أي عصبية ـ من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب ، إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتكون عقيدته هي المنهج المطبق في الحياة) .
فالإسلام لم يحمل السلاح لفَرض عقيدته بالقوة والإكراه فقال تعالى :(لا إكراه في الدين) كما أن فكرة الهيمنة والاستعلاء فكرة مرفوضة في الإسلام ، فقال تعالى : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً) فالحرب في الإسلام هو للدفاع عن العدل ورفع الظلم فقال تعالى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) وأنها للدفاع عن المستضعفين فقال تعالى : (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ) .
أول دستور يعطي حق المواطنة للآخر :
وقد تشكلت أول دولة إسلامية في المدينة المنورة فقامت على قاعدة المؤاخاة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، وانهم أمة واحدة من دون الناس ، وأنهم كجسد واحد ، وان يدهم واحدة ضد من عاداهم ، وعلى قاعدة العدل والمواطنة والحقوق والواجبات المتقابلة لغير المسلمين ، حيث كتب الرسول صلى الله عليه وسلم صحيفة ووثيقة يتعلق عدد كبير من بنودها بحقوق اليهود تضم حوالي 47 بنداً منها :
1 ـ أن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم ،وان المؤمنين بعضهم موالي بعض من دون الناس .
2 ـ وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم .
3 ـ وأن تسلم المسلمين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم .
4 ـ وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضهم بعضا .
5 ـ وأنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله ، وإلى محمد .
6 ـ وأن يهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
7 ـ وأن على يهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وان بينهم النصح والنصيحة ، والبرّ دون الإثم .
8 ـ وانه لا يأثم امرؤ بحليفه ، وإن النصر للمظلوم .
9 ـ وأنه لا تجار حرمة إلاّ بإذن أهلها .
10 ـ وأن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه .
11 ـ وأن بينهم النصر من دهم يثرب .
12 ـ وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ، ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلاّ من حارب في الدين .
13 ـ على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم .
14 ـ وان يهود الأوس مواليهم وانفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة ، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلاّ على نفسه ، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة ، وأبرّه .
15 ـ وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ، وانه من خرج آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم وأثم ، وإن الله جار لمن برّ واتقى….. .
كما أكدت الوثيقة على الحرية الدينية بكل وضوح فنصت على أن للمسلمين دينهم ، ولليهود دينهم ، وحتى حينما حاول بعض الأنصار أن يجبروا بعض أبناء عشيرتهم الذين تهودوا على العودة إلى الإسلام أنزل الله تعالى : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ) حيث نصت إحدى مواد الصحيفة على ان : (لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم : مواليهم وانفسهم إلاّ من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يوتغ إلاّ نفسه…) كما اكدت الوثيقة على المسؤولية الشخصية تأكيداً لقوله تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى ) .
غير أن اليهود لم يحافظوا على هذه الوثيقة ومحتواها ، ونقضوا عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم ما أصابهم بظلمهم ونقضهم العهود .
وأما القبائل (وعلى رأسها قريش) وأهل الأديان المحيطة بهذه الدولة فلم تقبل بوجود هذه الدولة ، بل قاومتها بكل وسائل البطش والعدوان ، وبذلت كل جهودها للقضاء عليها قضاءً مبرماً ، ولذلك لم تكن العلاقة فيما بينهم وبين الدولة الإسلامية علاقة ود وتعاون بل كانت علاقة تخاصم وحرب وعداء ، ومع ذلك استطاع الإسلام أن يربي أتباعه على اتباع العدل والقسط ، فكان من الطبيعي أن تدافع هذه الدولة العقدية عن نفسها ، حيث نلاحظ هذه الروح الدفاعية في أول آية نزلت بخصوص تشريع الجهاد : (أذن للذين يقاتلون في بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) .
ثم بينت الآية الثانية بأن مبررات الجهاد والقتال هو انهم ظلموا وأنهم أخرجوا من ديارهم ، وبالتالي فهم يدافعون عن أنفسهم ، وعن درء الظلم ، والدفاع عن العقيدة وأماكن العبادة حتى لغير المسلمين فقال تعالى : (الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) .
ولذلك فالحرب في نظر الإسلام ضرورة لا يلجأ إليها إلاّ عندما تضيق السبل ، وتنسد الطرق على الدعوة وقبول الإسلام ، أو الاعتراف بدولته من خلال ما يسمى بالجزية التي هي مشاركة من غير المسلم في تحمل أعباء الأمن والمواطنة ، كما يتحمل المسلمون اكثر من ذلك من الواجبات المالية من الزكاة ونحوها ولذلك لا يبدأ المسلمون بالحرب ضد غيرهم بل بعرض الدعوة عليهم أولاً ، فإن قبلوها فبها ونعمت،وإلاّ فالجزية،أي المسالمة والصلح .
ويدل على هذه الروح في أسمى معانيها صلح حديبية حيث قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعة من الشروط التي في ظاهرها إجحاف واعتساف ، ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم : (والله لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها) واعظم من ذلك سمى الله تعالى هذا الصلح بالفتح المبين،نزلت فيه سورة سميت بسورة الفتح.
وقد أكد القرآن الكريم على هذا المنهج في أكثر من آية فقال تعالى : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) .
حتى من الناحية الفقهية فإن جماهير الفقهاء (الحنفية ، والمالكية في قول ، والشافعية والحنابلة) يقولون : بوجوب الدعوة إلى الإسلام قبل بدء الحرب استدلالاً بقوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وكان منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ووصيته لصحبه الكرام عندما يرسلهم في مهمة حتى مع المشركين (…وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث ، أو خلال ، فأيهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام….) .
بل حسم ابن عباس (ترجمان القرآن وحبر الأمة) هذه المسالة بصيغة الحصر فقال : (ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً قط حتى يدعوهم إلى الإسلام) .
وقد أجيب عن إغارة الرسول صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق بأنهم هم بدؤه بالقتال خلال إعدادهم القوة للإغارة على المدينة المنورة كما أنهم قد بلغتهم الدعوة.
نماذج من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم للنصارى واليهود :
وبالاضافة إلى الوثيقة التي أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان العلاقة بينه وبين اليهود ، وهي تمثل حالة السلم ، وأقرت بجميع حقوق المواطنة المشروعة ، ومع ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب بعض العقود والمواثيق بينه وبين اليهود والنصارى ، منها:
العهد الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران بعد عودته من غزوة تبوك عام 9هـ ، الذي يدل على قمة العدل ، والسماحة والحرية ، حيث أعطاهم الحرية الدينية ، والحماية والجوار ، ولم يفرض عليهم إلاّ جزية عينية متواضعة ، وقد جاء فيه : ( …ولنجران وحاشيتهم جوار الله … ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصّف غير ظالمين ولا مظلومين … ، ولا يؤاخذ أحد منهم بظلم آخر ، وعلى ما فيه هذه الصحيفة جوار الله ، وذمة النبي صلى الله عليه وسلم أبداً حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم ) .
وقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم العهد والأمان لليهود حتى بعدما حدث منهم في المدنية يوم الأحزاب في ، حيث كتب لعدد من التجمعات اليهودية في شمال الجزيرة بعدة غزوة خيبر بفترة ، إذا بعث إلى بني جنبة بمقنة القريبة من أيلة على خليج العقبة : ( أما بعد فقد نزل عليّ رسلكم راجعين إلى فريتكم ، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون ، لكم ذمة الله وذمة رسوله ، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم ..، ولا ظلم عليكم ولا عدي ، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه …. وأن عليكم ريع ما أخرجت نخلكم …. فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم ، وأن ليس عليكم أمير إلاّ من عند أنفسكم ، أو من أهل رسول الله … ) .
وهكذا فعل مع بني غاديا ، وأهل حرباء ، وأذرح من اليهود ، ( وبذلك تمكن الرسول من تحويل هذه التجمعات اليهودية إلى جماعات من المواطنين في الدولة الإسلامية ، يدفعون لها ما تفرضه عليهم من ضرائب نقدية أو عينية، ويحتمون بقوتها وسلطانها، ويتمتعون بعدلها وسماحتها …… ، وهناك الكثير من الروايات والنصوص التاريخية التي تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح حتى أنه أوصى عامله معاذ بن جبل: “بأن لا يفتن اليهود عن يهوديتهم”، وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين إذ لم يكلفوا إلا بدفع الجزية وبقوا متمسكين بدين آبائهم ) .
والتحقيق أن الإسلام كان ينطلق من سنة حتمية الخلاف (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) إلى قبول الآخر والحفاظ عليه ، وأن الجزية ما هي في حقيتها إلاّ قبول الآخر والاعتراف بحق مواطنته ، وتكليفه بأداء حقوقه المالية ونحوها في مقابل توفير الأمن والأمان له ، يقول السير توماس أرنولد الذي سنعتمد على عدد من شهاداته بهذا الصدد في كتابه المعروف: “الدعوة إلى الإسلام” The Preaching to Islam” : الذي يتضمن تحليلاً مدعماً بالوثائق والنصوص للصيغ الإنسانية التي اتبعها الإسلام في تعامله مع أبناء المذاهب الأخرى.
(…لما قدم أهل الحيرة المال اتفق عليه ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة (أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم)، وكذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: (فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا).
ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط من تلك الحادثة التي وقعت في حكم الخليفة عمر: لما حشد الإمبراطور هرقل جيشاً ضخماً لصد قوات المسلمين كان لزاماً على المسلمين نتيجة لما حدث أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم.
فلما علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي من الجزية من هذه المدن وكتب إلى الناس يقول: “إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم”، وبذلك ردت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين وقالوا: “ردكم الله علينا ونصركم عليهم- أي على الروم- فلو كانوا هم لم يردوا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا.” .
الدعوة بالحكمة والموعظة تشمل الجميع :
فهذه الرسالة في نظر افسلام هي رسالة السعادة وحسنتي الدنيا والآخرة ، ورسالة الرحمة للعالمين أجمعين ، فقال تعالى : ( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين) ولذلك فالمؤمنون مأمورون بتوصيلها إلى الآخرين ليس بالاكراه والعنف إذ (لا إكراه في الدين) وإنما بالتبشير والموعظة الحسنة ، والحكمة ، فقال تعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) ولكن الله تعالى خص أهل الكتاب بأن يكون الجدال معهم حول أمور الدين بالتي هي أحسن : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم …… ) .
بل إنه من الناحية العملية فقد أمر الله تعالى نبيه موسى ، وهارون ، أن يقولا قولاً ليناً هيناً حكيماً لفرعون الطاغية فقال تعالى : ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) وقال لنبيه محمد صلى الله عليهم وسلم : (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) وخاطبه بأن تكون دعوته بالحكمة والموظعة الحسنة .