الدوحة – العرب

 

حذر فضيلة الشيخ د.علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من عواقب ونتائج الظلم، وقال إن العدل أساس الحكم والنهضة والتقدم ولن ينجو عالمنا الإسلامي إلا من خلال العدل الذي يعيد إليه كرامته ووحدته وتماسكه، مشيراً إلى الأحداث التي تحدث في مصر وتثبت أهمية العدل وتبين عواقب الظلم الذي تمت ممارسته على الشعب، وملمحا إلى ما وقع على أهل غزة من حصار وظلم تمثل في اقامة جدار حديدي ليمنع عنهم القوت.. جاء ذلك في خطبة الجمعة التي ألقاها أمس بمسجد السيدة عائشة بفريج كليب..

وقال: نعيش اليوم مع آية عظيمة ذات دلالات عظيمة، تسمعونها بعد خطبة الجمعة، بل تختم بها كل خطب الجمعة منذ عصر الإسلام الأول.. الآية التسعون من سورة النحل، حيث يقول الله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون». بدأت الآية الكريمة بتأكيد عظيم من خلال لفظ «إن» الذي هو للتأكيد، ثم أسندت الأمر بالعدل إلى الله تعالى صراحة، مما يدل على أهمية الموضوع، ثم أكد ذلك من خلال النهي عما يضاده ويقابله، وهو النهي عن البغي وهو الظلم والعدوان على الناس. ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم».. «لعلكم تذكرون» أي تعقلون، تتعظون، تعتبرون بالغير.

يقول ابن مسعود «إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان..» إلى قوله: «لعلكم تذكرون». رواه ابن جرير.

عدل الرسول

وفي الحديث: «إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها». وكان أحد حكماء العصر الجاهلية -وهو أكثم ابن صيفي- كلفه قومه أن يخبرهم عن حقيقة محمد (صلى الله عليه وسلم)، فسأله بعض عقلاء قومه فسألوه: من أنت؟ وما أنت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أنا محمد بن عبدالله»، وقال: «وأما أنا، فأنا عبده ورسوله»، وتلا عليهم: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان..» إلى قوله: «لعلكم تذكرون»، ورددها عليهم حتى حفظوها، ورجعوا إلى أكثم فقالوا له: أبى أن يرفع نسبه، وتلا علينا هذه الآية، فقال أكثم: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا فيه أذنابا.

العدل في القرآن

وقال القرة داغي: لقد أولى القرآن الكريم عناية منقطعة النظير بالعدل، فأوجبه وجوبا مطلقا، وأمر بتحقيقه في الأقوال والأفعال والتصرفات والحكم والفطرة والتقييم والشهادة والعلاقات، وتكررت كلمة العدل ومشتقاته ثمان وعشرين مرة.. وقد جعل الله تعالى العدل دليلا على التقوى فقال تعالى: «اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون». ومع أن العدل عام وشامل فقد أمر الله تعالى به دون تقييد، ولكنه تعالى خصص بعض الأشياء بمزيد من التأكيد منها: العدل في الحكم بين الناس فقال تعالى: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، بل جعل الله تعالى الغاية من إنزال الكتب وإرسال الرسل: تحقيق العدل بين الناس، فقال تعالى: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط»، حتى إن جمهور الفقهاء -ما عدا بعض الحنفية- ذهبوا إلى اشتراط كون الإمام الأعظم (الخليفة) عدلا، فلا تنعقد إمامة الظالم، بل ذهبوا إلى أنه يعزل بالظلم البين.. والعدل في القول والشهادة حتى ولو على النفس والأقارب، فقال تعالى: «وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون».. والعدل بين الأولاد كما ورد في الحديث الصحيح في قضية النعمان بن بشير، حيث منح أحد أبنائه قطعة أرض، فذهب هو وزوجته إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: «أكلَّ أولادك نحلتهم -أي أعطيتهم- مثل ما أعطيت ولدك هذا؟ فقال: لا، فقال (صلى الله عليه وسلم): «إني لا أشهد على جور».

واستخلص فضيلة الشيخ القرة داغي من ذلك أن القرآن الكريم أولى هذه العناية القصوى بتحقيق العدل، وإزالة الظلم والبغي في أكثر من ثلاثمائة وخمسين آية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية العدل في حياة الفرد والأسرة والجماعة والأمة والدولة والحضارة والبناء والتعمير، وأن التجارب والحقائق الواقعية والقصص القرآنية تدل بوضوح على أن هلاك الأمم، وتدمير الحضارات، وانتهاء الدول والمماليك.. كل ذلك بسبب الظلم بمعناه الشامل، والبغي والعدوان فقال تعالى: «فهل يهلك إلا القوم الظالمون». بل يقول الله تعالى بأسلوب الحصر: «وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون».

وهذه الحقائق نشاهدها في عالمنا الإسلامي، حيث إن مشكلته الكبرى هي المظالم الواقعة بين الحكام والشعوب، ثم بين أصحاب القوى المالية والسياسية والاجتماعية، وبين المستضعفين، ولن ينجو عالمنا الإسلامي إلا من خلال العدل الذي يعيد إليه كرامته ووحدته وتماسكه.

ولهذه الأهمية فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الوسط بالعدل في قوله تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا..»، حيث روى أحمد والترمذي بسنديهما عن أبي سعيد الخدري قال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «الوسط العدل».

لا تقدم

في خطبته الثانية قال القرة داغي: لقد ابتليت أمتنا الإسلامية منذ زمن بعيد بالمشاكل والمصائب بسبب بعدنا عن منهج الله، ولذلك فإن هذه الأمة الإسلامية بما لها من إمكانات وما لها من ثروات لم تحقق أي تقدم يذكر بين الأمم على امتداد العقود الأخيرة..

لقد أخذ العدو الجزء الأكبر من فلسطين سنة 48 وأخذ الجزء المتبقي سنة 67، وكلنا يعلم ماذا يصير في ربوع الأرض المباركة فلسطين عموما وفي غزة بشكل خاص.. مليون ونصف المليون من البشر محاصرون منذ ما يقرب من 4 سنوات من الصهاينة، وهذا أمر معروف ومعقول بما أن الصهاينة هم أعداؤنا، ولكن الغريب وغير المعقول وغير المقبول هول المحاصرة ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين والعرب والجيران، بل إن وثائق ويكليكس قد كشفت أن هذا النظام المصري الذي يترنح اليوم كان ضد إيقاف الحرب على غزة إبان العدوان الغادر على غزة منذ سنتين، بتعلة أن توقف الحرب يعني انتصار حماس والإرهاب. أيّ ظلم أكبر من هذا؟ ولم يكتف بذلك، فبعد انتهاء الحرب بادر إلى تشديد الخناق والحصار، وذلك ببناء الجدار الفولاذي العازل لمنع الفلسطينيين من حفر الأنفاق لجلب ما يسد رمقهم، وكان هذا بدعم من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. هل هناك ظلم أعظم من هذا؟