أعجبتني مقولة قالها أحد المؤرخين الألمان ، حينما سئل عن سرّ تقدم ألمانيا بسرعة بعدما دمرتها بالكامل الحربان العالميتان؟ فأجاب جواباً مختصراً ولكن جوابه تضمن إكسير النجاح حيث قال: “قبل أن ندخل الجامعة تخرجنا في الجيش” أي أنهم يتعلمون الانضباط والمسؤولية، والعمل الجماعي، والضبط والربط، واحترام الأوامر.
وأنا بسماعي المقولة رجع خيالي إلى الوراء، بل طارت روحي لتعيش مع تلك التربية الرائدة التي أنشأها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع صحبه الكرام، فأخرجهم من مجتمع فوضوي في معظم الأشياء إلى مجتمع منضبط في كل شيء، جاد في كل عمل، جندي في تنفيذ الأوامر، ومع ذلك كان قائداً في التفكير والتخطيط للمستقبل، فصنع منهم خير أمة أخرجت للناس، فحولهم من الشدة والقسوة إلى الرحمة، ومن الفوضى إلى التنظيم في كل شيء ومن عالم الخيال إلى عالم الجد والواقع، ومن المنهج التجريدي إلى المنهج التجريبي الذي أخذه الغرب منا، فبنى به أسس حضارته.
وتركيزاً للجدية والجندية، والضبط والانضباط، وللمسؤولية والعمل المثمر للبناء جاءت العبادات والشعائر التعبدية لترسيخ هذه القيم في النفوس، ولتجسيد تلك الأخلاق في القلوب، فلننظر إلى أهم ركن في الإسلام -بعد الشهادة- وهو الصلاة كيف ضبطت مواقيتها بالدقيقة بحيث لا يجوز إقامة الصلاة قبل وقتها ولو بدقيقة، وإذا فات وقتها أصبحت قضاءً يؤثم الشخص على ذلك، فهذا هو الضبط الزماني الذي ما أحوجنا إليه في هذا العصر فقد تأخرت أمتنا بسبب تضييع الوقت، وكذلك ضبط الإسلام البعد المكاني من خلال مواقيت الاحرام، بحيث إذا تجاوزها فهو آثم ووجب عليه دم، وكذلك ضبط التوجه المكاني من خلال وجوب توجه جميع المسلمين إلى الكعبة المشرفة في صلواتهم.
وأما الضبط العملي فيتم من خلال صلاة الجماعة والجمعة، حيث تنظم الصفوف تنظيماً غريباً حتى لا تجوز الفرجات داخل الصفوف، وإنما يجب أن تكون الرٍّجل -بكسر الراء- جَنْب الرِّجل، والمنكب جَنْب المنكب صفاً، أو صفوفاً منتظمة كأنهم بنيان مرصوص، حتى حينما رأى أحد المتخصصين الغربيين في علم الإدارة فيديو صلاة الجمعة في الحرم المكي أثناء الحج استغرب ذلك، وقال كيف انتظم حوالي ثلاثة ملايين فرد أمام الإمام بعد كلمة واحدة وخلال ثوان معدودة، ثم أضاف قائلاً: أتحدى أن تكون هناك قوة قادرة على تنظيم ثلاثة ملايين فرد في صفوف منتظمة خلال تلك الفترة، ولذلك لم يستطع استيعاب ذلك، فبحث عن الإسلام فأسلم.
والضبط العملي التربوي يأتي من خلال اقتداء المأمومين بالإمام فلا يجوز لهم أن يسبقوه، ولا أن يتأخروا عنه كثيراً، اتباع غريب، وتنظيم عجيب لماذا كل هذا؟ لأجل تنظيم المسلمين ودقتهم وضبطهم وجديتهم بعد الامتثال والطاعة لله تعالى.
فالعبادات والشعائر الإسلامية بهذا الضبط والربط والتنظيم الدقيق هي تعويد للمسلم وترويض له على ترك العادات السيئة والفوضى في حياته، فإذا كانت عباداته منتظمة بهذا الشكل الرائع فكيف لا تكون عاداته منتظمة، وهي التي لن تحقق الخير له إلاّ بالتنظيم الدقيق، فالعبادات مع أنها تعبدية لله تعالى ولكنها مرتبطة بالحكم والمقاصد بنص القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى في شأن الصلاة: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) وفي شأن الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وفي شأن الزكاة: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ) وفي الحج: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) وقال تعالى مؤكداً على أهمية إصلاح القلوب: ( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ) وهكذا.
وبالإضافة إلى هذه المقاصد فإن ضبط العبادات كلها بمنتهى الدقة ليدل على أهمية الوقت والتنظيم، فالتنظيم الإداري الفكري أصبح في علم الاقتصاد من أهم عناصر الإنتاج، وعليه تعتمد الدول المتقدمة، فمثلاً لا نجد عند اليابان المواد الخام والبترول ومع ذلك تقدمت بالتنظيم والتقنيات حتى بدأت من تحت الصفر بعد الحرب العالمية الثانية، واليوم وصلت إلى مصاف أمريكا، وكذلك كوريا الجنوبية التي خرجت من الحرب خلال ثلاثين سنة، ولا زالت مهددة بالحرب من جارتها كوريا الشمالية، ومع ذلك تقدمت تقدماً هائلاً، وأصبحت منتجاتها التقنية تنافس فعلاً منتجات أمريكا، بل تتفوق على بعضها.
ونحن في العالم العربي لدينا البترول والغاز والمواد الخام ، والأموال الكثيرة ، والصناديق السيادية، وكل مستلزمات المادية للتقدم العلمي والتقني ومع ذلك نعاني من التخلف والفقر والمجاعة، والمشاكل المتنوعة، وليس لدينا أي مساهمة تذكر في تطوير العلوم والتقنيات بل أصبحنا عالة على الدول المنتجة، وساحة للاستهلاك فقط.
أليس كل ذلك يستدعي إعادة النظر في تربيتنا الدينية، حيث نجد بوناً شاسعاً بين ما يريده الإسلام، وبين ما نحن عليه، وفي برامجنا وأنشطتنا وأعمالنا ومدارسنا وجامعاتنا؟ هذا هو السؤال الموجه إلى كل من بيده قدرة على التغيير (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) صدق الله العظيم
بقلم
ا.د. علي القره داغي .