صحيفة العرب القطرية
دور العرف فيما إذا لم يقم دليل شرعي على اعتباره، أو إلغائه، محل خلاف بين الفقهاء، والذي يظهر لنا رجحانه هو أنه لدى التحقيق تتحكم فيه ضوابط المصالح المرسلة، ولذلك ينبغي للفقيه، أو المفتي، مراعاته ما دام لا يتعارض مع أحكام الشريعة الغراء، ولذلك اشترط المحققون في المجتهد، أو المفتي أن يكون عالماً بأعراف الناس, بل إن ابن القيم لا يجيز له أن يفتي دون معرفته بأحوال الناس وتغير الأعراف والعادات, ولذلك نصت المادة (37) من مجلة الأحكام العدلية على أن: (استعمال الناس حجة يجب العمل بها).

دور العرف في العقود والتصرفات

ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الأعراف التجارية تدخل مثل الشروط في العقود حتى صاغوا قاعدة معبرة عن ذلك فقالوا: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وهم يقصدون بذلك أن ما يقع بين التجار من المعاملات التجارية، أو بين غيرهم من العقود والمعاملات ينصرف عند الإطلاق إلى العرف والعادة، وهي المادة (43) من مجلة الأحكام العدلية، يقول الشيخ أحمد الزرقا: «ففي كل محل يعتبر ويراعى فيه صريح الشرط المتعارف، وذلك بأن لا يكون مصادماً للنص بخصوصه… إذا تعارف الناس واعتادوا التعامل عليه من دون اشتراط صريح فهو مرعي، ويعتبر بمنزلة الاشتراط الصريح».

ولهذه القاعدة تطبيقات كثيرة، فمثلاً «ما يدخل في المبيع، أو لا يدخل عند الإطلاق يكون مرجعه إلى العرف السائد» وهكذا.

بل إن المجلة صاغت في المادة (44) قاعدة أخرى خاصة بالتجار، وهي «المعروف بين التجار كالمشروط بينهم» وصاغت كذلك في مادتها (45) قاعدة أخرى نصت على أن «التعيين بالعرف في سوق البزازين مثلاً, فليس له أن يتخذه للحدادة، أو الطبخ، أو نحو ذلك مما يؤذي جيرانه».

خامساً: دور العرف في تطبيق بعض الأحكام الشرعية

فإذا كان هناك خلاف في كون العرف دليلاً كاشفاً عن حكم الله تعالى, فإنه لا خلاف في أن له الدور الأكبر في تطبيق بعض الأحكام الشرعية، وذلك يتضح فيما يأتي:

فالقرآن الكريم أوجب العدالة في الشهادة، وأنها تسقط بما يخل بالمروءة، وهي أمور تابعة للأعراف التي تبين ما يخل بالمروءة التي ترد بها الشهادة.

وأوجب الإسلام قطع اليد في سرقة المال من حرزه، ولكنه لم يبين المراد بالحرز، وإنما أمره موكول إلى العرف الذي يختلف باختلاف الأموال، والأزمنة والأمكنة.

وكذلك أوجب النفقة في حالات كثيرة، ومرجع مقدارها إلى العرف -كما سبق- وهكذا الأمر في القبض، والعيب المؤثر في العقود وغيرها.

وهكذا فكثير من النصوص الشرعية تفسرها الأعراف، وبالتالي لا يمكن تطبيقها إلا من خلال الرجوع إلى الأعراف.

سادساً: دور العرف في تفسير النصوص الشرعية

إن النصوص القرآنية والنبوية تحمل على العرف السائد عند نزولها أو ورودها، وليست على الأعراف السابقة، أو اللاحقة.

وأما أقوال الناس في عقودهم وتصرفاتهم فتحمل أيضاً على العرف السائد في وقتها وفي بيئتها، فلو حلف شخص أن لا يأكل لحماً فيحمل على عرف بلده، فإن كان لا يطلقه على لحم السمك فلا يحنث بأكل السمك مع أن القرآن الكريم سماه (لَحْماً طَرِيًّا) يقول السيوطي: «العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن دون المتأخر» وقال ابن نجيم معقباً على هذه العبارة: «ولذلك قالوا: لا عبرة بالطارئ».

دور العرف في الترجيح

وللعرف دور كبير في ترجيح إحدى الدعويين عند التنازع, فمثلاً لو اختلف الأب وابنته فيما ساق من متاع إلى بيت زوجها فقال الأب: هو عارية، وطالب برده، وقالت ابنته: هو هبة وامتنعت عن الرد، حُكِّمَ العرف بينهما.

دور العرف في تغيّر الأحكام الاجتهادية

يقول ابن القيم: «فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد» ثم قال: «هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة…». ونجد تطبيقات كثيرة لدى جميع المذاهب الفقهية -حتى لدى المحدثين الذين تشددوا في قبول الحديث بعد ظهور الفتن- فقد خالف أبويوسف ومحمد إمامهما أبا حنيفة في جملة من المسائل، وقالوا في سبب الاختلاف: «هذا اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان». يقول ابن عابدين: «فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزمت منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام، وأحسن إحكام، ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم أنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه، فمن ذلك إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول…». «ومن ذلك قول الإمامين بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نص عليه أبوحنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة…».