الدوحة في: 21 ذي القعدة 1432هـ
الموافق: 18 أكتوبر 2011م
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يفتي بأن المشاركة في الانتخابات فريضة شرعية، وضرورة مدنية، و يدعو كل التونسيين والمصريين إلى المشاركة القوية والفاعلة في الانتخابات المقبلة وضمان نجاحها، وأنّ أصواتهم أمانة يجب أن تُعطى لأهلها.
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، ومَن اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(وبعد)
فبعد أنْ منّ الله على عدد من بلاد العرب بإزاحة أنظمة الاستبداد والفساد من خلال ثورات سلمية عارمة، انطلقت من تونس الخضراء، ثم من مصر الكنانة، فليبيا المختار، فاليمن السعيد، ثم سوريا الشام المباركة، والآن حان وقت اقتطاف ثمارها لصالح الوطن والأمة، حيث بدأ الإعداد والاستعداد منذ أشهر في تونس، ومنذ أيام في مصر، لإجراء انتخابات يختار من خلالها الشعب بكل حرية هذه المرة، مَنْ يُمثله في مؤسسات الدولة التشريعية؛ لتخرج هذه الدول من المرحلة الانتقالية الصعبة التي أديرت فيها في غياب أي شرعية جماهرية سوى شرعية التوافق، التي لم تخل من عدد من المطبات والمخاطر، نسأل الله أن يحفظ هذه البلاد حتى تعبر إلى برّ السلام، واستكمال عُرس الثورة بانتخاب قادة وممثلين جُدد، نحسب أنهم بإذنه تعالى لن يكونوا مثل الذين سبقوهم، ممن استبدوا بالحكم عنوة وقوة وبطشا على امتداد عقود طويلة.
وبهذه المناسبة وفي المرحلة التاريخية التي تمر بها أمتنا، نحسب أنها لحظة تحول نحو الأفضل واستعادة مكانتها الحضارية بين الأمم بإذنه تعالى، وجب على كل أهل العلم والاختصاص تبيين الموقف الشرعي من هذه المحطات الانتخابية، وخصوصا في ظل الضعف الكبير لدى عامة المسلمين في مثل هذه القضايا المندرجة في إطار السياسة الشرعية والمستحدثة، فترى البعض يُفتي ويخوض فيها بدون علم وبدون دليل شرعي، يخبط خبط عشواء، مبسّطا للأمور، ناسيا أنه يفتي ويقرر في مسألة من المسائل التي تعنى بالشأن العام للأمة، وما يمثله هذا الباب من مخاطر كبيرة، ومفاسد عظيمة، قد تنجرّ عن فتواه ورأيه ذاك.
ونظرا لهذه الأهمية وأمام هذه المسؤولية نرى أن علينا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بيان الموقف الشرعي من هذه المحطات الانتخابية القادمة وغيرها، مستدلين بكتابه الكريم وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وآراء الأئمة وعلماء الأمة، سائلينه سبحانه وتعالى أن يلهمنا الرشد والصواب.
وبناء على ذلك يرى الاتحاد ما يلي:
1- يؤكد الاتحاد كما أشرنا سابقا أن مسألة الانتخابات داخلة في السياسة الشرعية المبنية على فقه المصالح والمفاسد، وفقه الموازنات و فقه المآلات، وفقه سد الذرائع المؤدية إلى المفسدة وفتح الوسائل المؤدية الى المصلحة، وفقه الأولويات، بالإضافة إلى ذلك فهي من القضايا المستحدثة.
2- لم يحدد الإسلام في نصوص الوحي القطعية من القرآن والسنة الشكل الذي تختار به أمة المسلمين حاكمها، تاركا ذلك إلى الاجتهاد، حسب ما تقتضيه أحوال الناس وظروف حياتهم، في حين قيد مواصفات الحاكم ومواصفات الحكم وكيف يكون، فأكد الإسلام مجموعة من المبادئ الأساسية التي تحكم هذه المسائل، مثل مبدأ وجوب العدل، ورد الأمانات، ووجوب الشورى والبيعة، أي رضي عامة المسلمين بمن سيحكمهم وبما سيحكم فيهم.
يقول تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } النساء 58 وقال تعالى في القرآن المكي: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} الشورى:38، وفي القرآن المدني: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} آل عمران 159، ومن الأمور التي بحثها علماء المسلمين، وفقهاء السياسة الشرعية: قضية الجماعة الذين يُختارون للاستشارة، وهم الذين كانوا يسمونهم (أهل الحل والعقد). فأي أمر رأوا أن يحلوه حلوه، وأي أمر رأوا أن يعقدوه عقدوه، مثل: (الستة) الذين عهد إليهم سيدنا عمر باختيار الخليفة للأمة من بعده، فقد كانوا يمثلون (أهل الحل والعقد) للأمة في ذلك الوقت، ولا يمكن أن تخرج الأمة عما يتفقون عليه.
وفي المجتمعات الصغيرة والبسيطة يستطيع الناس أن يعرفوا أهم الأشخاص الذين يجب أن يكونوا في الصدارة، وكلما ازدادت الأعداد وكثر الناس، صعُب الأمر وتعقد، وأصبح الناس في حاجة إلى فقه واجتهاد جديد.
وقد انتهى العالم من خلال تجاربه وتطبيقاته المتنوعة والمتدافعة، أن أصوب الطرق في اختيار المستشارين وأهل الحل والعقد، هو الانتخاب، وأفضل طريق لذلك تقسيم البلاد إلى دوائر متعددة، يُختار من كل دائرة أفضل من يمثلها باختيار أهلها، فأفضلهم ــــ في ذلك ـــ من يأخذ أكثر أصوات من المنتخبين.
ومن هنا كان الانتخاب واجبا شرعيا عينيا على كل قادر عليه، مطلوب منه، ولو تكاسل عن هذا لاختار الناس غيره ممن لا يصلح و ليس بأهل، وكان عبئا ثقيلا على الأمة.
ومن هنا قلنا من قديم: إن الانتخاب يعطيك فرصة لتنتخب أقرب الناس إلى تحقيق ما يريدون من خير ومصلحة، وتروج له عند إخوانك، وبهذا يصبح الانتخاب (شهادةً) وهي إما (شهادة حق) إذا أُعطيت للقوي الأمين القادر على أداء الواجب، وإما (شهادة زور) قرنها القرآن بعبادة الأوثان، وعدها الرسول الكريم من أكبر الكبائر، فقال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} الحج:30
وقال صلى الله عليه وسلم: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى، فعد صلى الله عليه وسلم بعضا منها، ثم قال: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت ، إشفاقا عليه.
ومن هذا المنطلق تعتبر الانتخابات شكلا مقبولا بل من أكثر الأشكال عدلا وتوفيرا لشروط البيعة والرضى، فهي اختيار غالبية الأمة وتوافقها على رجل واحد، أو حزب أو مجموعة، لتدير شأنها لمدة محددة يتم الاتفاق عليها من خلال مؤسسات تكون هي نفسها قد تم اختيارها اختيارا حرا من قِبل الغالبية من المسلمين.
3- وبناء على ما سبق فإن الاتحاد يرى أن الانتخابات في ظل الظروف الحالية بتونس ومصر، واجبة وجوبا عينيا على كل مسلم غيور على دينه وهوية بلاده وشعبه، لا وجوبا كفائيا كما يخيل للبعض لما يمكن أن يترتب على عدم مشاركة الملتزمين الآن في تونس ومصر وغيرهما من مخاطر كبيرة على مستقبل هوية هذين البلدين، وخصوصا في تونس، لما عاشته على امتداد أكثر من نصف قرن من محاربة صريحة للإسلام واللغة العربية، من قبل النخبة التي كانت تحكم، ومازالت تطمح أن تواصل مشروعها في هذه المرة من خلال صناديق الانتخابات، وعليه فالمسألة بالنسبة للمسلم الملتزم والذي يعنيه شأن الإسلام وهوية البلاد العربية الإسلامية، سيكون مذنبا إذا تقاعس ولم يقم بواجبه الانتخابي، مما سيمكّن المعادين للإسلام وهوية البلاد، من حكم البلاد. فليكن إقبالكم على مكاتب الاقتراع المسمار الأخير في نعش التغريب ومحاربة الإسلام والثقافة العربية الإسلامية بإذنه تعالى.
ويؤكد الاتحاد مرة أخرى على أن دعوة الناس إلى المشاركة واختيار الأصلح من أفضل أنواع الجهاد والدعوة إلى الله تعالى، ومن أهم الأسباب للاستقرار والأمن وتحقيق حضارة الأمة.
ويدل على الوجوب أن الإدلاء بالصوت شهادة، والشهادة يحرم كتمانها، ويجب أداؤها مادام يترتب على كتمانها ظلم، أو منع حق، أو أي مفسدة، كما قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (سورة البقرة 283)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سورة البقرة 140)، ويدل على حرمة كتمان مثل هذه الشهادة، قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} البقرة:282 ، ومجموعة من الأحاديث الصحيحة التي تحرم شهادة الزور، بالإضافة إلى ذلك وجوب سدّ الذرائع الموصلة إلى المحرمات بكل الوسائل المتاحة.
4- يؤكد الاتحاد على الأهمية القصوى لهذه العملية الانتخابية، ويدعو كل الأطراف وكافة المواطنين، على الحرص الشديد على إنجاحها، والوقوف ضد كل من يحاول العبث بها، أو طرح قضايا جانبية للتشويش عليها ويدعو القائمين على أمر البلاد بأن يتخذوا من التدابير والإجراءات ما من شأنه أن يؤمن السير العادي الهادئ لهذه العملية، سائلين المولى عز وجل أن يحفظ البلاد والعباد. إنه سميع مجيب الدعاء.
يقول تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خبيرا} النساء 135، صدق الله العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الأمين العام الرئيس
أ.د/ علي محيي الدين القره داغي يوسف القرضاوي