جريدة الوطن14/10/2010

يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية الحلول الشيوعية الاشتراكية لمشكلة نقص الموارد وعرضنا حل الاسلام لمشكلة ندرة الموارد من الناحية العقائدية، وفي هذه الحلقة ينتاول فضيلته الحديث عن (الناحية التطبيقية للحل الاسلامي للمشكلة الاقتصادية:

أما الناحية التطبيقية فإن هذه الموارد التي خلقها الله تعالى قد مسّها عبر التأريخ البشري سوء الإنتاج والاستغلال والاستهلاك وظلم كبير في كل مجالات النشاط الاقتصادي، وبالأخص في مجال التوزيع وإعادة التوزيع، وبالتالي حصل خلل كبير وفساد عريض بفعل الإنسان، فترتب عليه الفقر والمجاعة، يدل على ذلك أدلة كثيرة منها قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» وقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الموارد مهما كانت كبيرة فإنها قليلة ونادرة إذا أطلق عنان الجشعين الذين لا تنتهي رغابتهم، فمن هذا الجانب يتبين بوضوح أن الموارد قليلة أمام الرغبات بالمعنى الرأسمالي، وبهذا المعنى صدقت ندرة الموارد، وإلى هذا يشير قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ). nثانياً: إشباع الحاجات والرغبات:

إن جوهر المشكلة يعود إلى اختيار الانسان وحريته وارادته في إشباع كل رغابته، وهنا يتفق الفكر الاقتصادي الاسلامي مع الفكر الرأسمالي في ذلك، ولكنه يختلف معه اختلافاً جوهرياً في الأمور الآتية:

1- ان الفكر الرأسمالي يعطي الحرية المطلقة للانسان في اختيار المنهج، والأيديولوجية، وفي اشباع الرغبات والحاجات، في حين ان الفكر الاسلامي يلزم الانسان بعد اختياره الاسلام أن يلتزم بعقيدته وفكره ومنهجه.

2- ان المسلم ليس له الاختيار والحرية في اختيار كل الرغبات، فهو مقيد بالأحكام الشرعية،، فليس له الخيرة في فعل المحرم والواجب، وإنما اختياره في نطاق المباح، والمستحب، والمكروه، فالمحرم ممنوع منه، والواجب يجب أداؤه.. ان سلوك المسلم يختلف في الانتاج والاستهلاك، بل في كافة مراحل النشاط الاقتصادي عن غير المسلم، على ضوء فقه الأولويات، والموازنات- كما سيأتي-.

كل ذلك في إطار التوازن بين مصالح الفرد، ومصالح الجماعة، وتحقيق الخير للجميع، وذلك لأن إطلاق العنان للشهوات ـ مثلاً ـ يؤدي إلى أنه لا يشبع بما رزقه الله، فيتجه إلى الكسب عن طريق السرقة والخيانة، والرشوة والنصب والاحتيال، ونحوها من المحرمات.

3- ان الفكر الوضعي يتعامل لحل هذه المشكلة في إطار الماديات فقط في حين أن الفكر الاسلامي يسعى لحلها في إطار منظومة من القيم اللاسلامية (العقدية والروحية والأخلاقية) إضافة إلى الجانب المادي المشروع، إضافة إلى إيمان المؤمن بالبركة من عند الله، وبقوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). 4- ان الفكر الرأسمالي يحاول حل المشكلة من خلال جهاز الثمن، وقانون العرض والطلب والحرية الاقتصادية… الخ، أما الفكر الاسلامي فلا ينكر دور جهاز الثمن وقانون العرض والطلب في الاجابة عن الأسئلة السابقة، ولكنه يقيد السعر بأن يكون عادلاً، وقانون العرض والطلب بأن يكون منضبطاً بضوابط الشرع من حيث العرض المشروع للطيبات، ومن حيث الطلب عليها باعتدال.

5- إن المشكلة الاقتصادية تواجه الغني أيضاً مع الفقير، حيث إن دائرة اختيار الغني لاشباع رغباته في الحاجيات والتحسينات وبالنسبة للفقير في نطاق الضروريات، أو الحاجيات الملحة.

ثالثاً: إجابات الفكر الاسلامي عن الأسئلة المثارة حول المشكلة الاقتصادية:

إن الفكر الاسلامي ـ في رأيي ـ يجيب عن الأسئلة المثارة لحل المشكلة الاقتصادية: ماذا ننتج ؟ كيف ننتج ؟ لمن ننتج ؟ كيف ننمي الانتاج ؟ مع الاجابة عن أسئلة أخرى خاصة ببقية مراحل النشاط الاقتصادي، وهي: كيف نملك ؟ وماذا نملك ؟ وكيف نستهلك ؟ وكيف نوزع الناتج على عناصر الانتاج ؟ وكيف نقوم بإعادة التوزيع ؟

فالفكر الاسلامي ينظر إلى هذه الأسئلة نظرة شاملة واحدة ـ وباعتبارها رزمة واحدة ـ دون الفصل بين الانتاج ـ الذي ركز عليه الفكر الرأسمالي ـ وبين بقية مراحل النشاط الاقتصادي، كما أنه يجيب عنها واحدا ًواحداً.

ونحن هنا نؤجل الاجابة عن بقية مراحل النشاط الاقتصادي إلى الفصل اللاحق، ونركز على الاجابة عن الأسئلة الأساسية عن الانتاج من خلال ضبط الأمور الآتية:

الأمر الأول: ضبط الحرية والاختيار في مجال الانتاج من حيث ورود نص شرعي أو عدم وروده فيه:

1. ما ورد فيه نص شرعي فإما أن يكون دالاً على:

‌أ) ايجابه، وفرضه، وحينئذ يلزم المسلم بتطبيقه، وتبقى له الحرية والاختيار في تقديم ما هو أكثر فرضاً ووجوباً على ما عداه عند التزاحم.

‌ب) أو تحريمه، وحينئذ يجب عليه أن لا ينتجه إلاّ في حالات الضرورات التي تبيح المحظورات، مع القطع بأن المحرمات ليست على مستوى واحد في شريعتنا، فهناك أكبر الكبائر، ثم الكبائر السبع أو التسع، ثم الكبائر، ثم الصغائر فينظر إليها عند التزاحم.

‌ج) أو إباحته، وندبه، وكراهته، حيث تكون للمسلم الحرية في اختيار المباح في الإنتاج، والأفضلية لاختيار المندوب، ولعدم اختيار المكروه، مع ملاحظة أنه قد ترد ظروف وأحوال تجعل المباح واجباً، أو محرماً ولا سيما إذا صدر به قرار من ولي الأمر.

2. وما لم يرد فيه نص شرعي، فهذا يسمى بمنطقة العفو، أخذا من حديث سلمان الفارسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال، وما حرّمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وهذ المنطقة واسعة جداً في مجال الاقتصاد والسياسة، لأن النصوص فيهما قليلة، وبالتالي تبقى في إطار المباح شرعاً، لأن الأصل في الأشياء الاباحة ما لم يرد دليل خاص به. وفي دائرة ما يجوز انتاجه مطلقاً ـ سواء كان النوع السابق، أم من منطقة العوف ـ يرد فقه الموازنات والأولويات، وتتدخل الشريعة فتفرض أولاً تحقيق الضروريات من الانتاج ثم الحاجيات، ثم التحسينيات.

الحرية موجودة

فعلى ضوء ما سبق أن الحرية في إشباع الرغبات موجودة بل واسعة أيضاً ولكنها مقيدة بعدم تجاوز حدود الله ومنضبطة بضوابط الشرع، وأن مدى الاختيار أيضاً واسع ولكنه منضبط بأخلاقيات المسلم، وموجود لتحقيق الأحسن في كل شيء. الأمر الثاني: ضبط جهاز السوق وجهاز الثمن، وقانون العرض والطلب، فليس لدى الفقه الاسلامي اعتراض على هذه الأمور، بل يقرها ولكن في ظل الضوابط الشرعية، وفقه الأولويات والموازنات، وتحقيق السعر العادل.

ومما ضبط به قانون العرض والطلب في الفقه الاسلامي هو منع الاحتكار، ولا سيما بالمعنى الفقهي الذي يشمل أي سلعة أو خدمة ضرورة أو حاجية يضيق به الناس، ليزداد سعرها، وهذا رأي أبي يوسف، والمالكية، والظاهرية.

ويدخل في نظري في الاحتكار المحرم التحكم في الانتاج، والهيمنة على المواد الأولية بما يترتب عليه اقفال المنافسة الشريفة.

قانون الربح

الأمر الثالث: إن قانون الربح على أساس المشاركات بجميع أنواعها وتحمل رأس المال المخاطر المعقولة ـ ما عدا حالات التعدي والتقصير، أو مخالفة الشروط ـ في مقابل تحمل العامل الجهد المبذول يساهم بشكل فعال في تنشيط الانتاج وتنميته، وتطويره واختيار ما يحقق رغبات المستهلكين بين السلع والخدمات المشروعة، إضافة إلى دور الزكاة والنفقات الواجبة والكفارات، ونحوها في عملية التوزيع العادل وتحفيف حدة الفقر. الأمر الرابع: إن الدافع للانتاج وتنميته، وتطويره وتحسينه ليس الربح فقط، بل العقيدة الاسلامية، والمبادئ الاسلامية أيضاً القاضية بأن الانسان مستخلف في الأرض، وأن رسالته فيها هو تحقيق العمران والتنمية وتحقيق السعادة والحسنة فيها ـ بالاضافة إلى حسنة الآخرة ـ فقال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أي طلب منكم طلباً وجوبياً تحقيق العمران فيها.

الأمر الخامس: دافع الربح والمنفعة الشخصية والغنى والرفاهية أيضاً موجود، ومع العلم أن المسلم له هذه الرسالة النبيلة، لكن الاسلام لا يمنعه من وجود دافع الربح، والمنفعة الشخصية، وتحقيق الغنى، والرفاهية، بل إن كل ذلك مطلوب مع حسنة الآخرة، لذلك جعل الرقآن شعاره: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

لا ضرر ولا ضرار

الأمر السادس:إن مبدأ لا ضرر ولا ضرار القاضي بمنع إحداث أي ضرر بالانسان أو الحيوان، أو البيئة، والالتزام بالفطرة السليمة، وعدم تغيير خلق الله تعالى يؤدي إلى الاستخدام الأمثل للطيبات، ومنع جميع الاستخدامات العبثية التي نراها ونسمعها اليوم، مما ترتب عليها فساد عريض في الأرض، وامراض خطيرة في الانسان والحيوان والنبات لم تكن معروفة في السابق، فجنون البقر في بريطانيا وحدها خلال السنوات العشر الأخيرة كلفها أكثر من خمسة عشر مليار جنيه استرليني.