الدوحة ـ الشرق:
واصل فضيلة الشيخ على محيي الدين القره داغي بمسجد السيدة عائشة بفريج كليب حديثه حول مائدة عباد الرحمن.. وهو تفسير للآية التي بدأ بها ومازال معها: “وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما”.. قال فضيلته: لقد بقي لنا مما نذكره في هذه الآية دون الخوض في التخصصات أربعة تعليقات، أو أربع إضاءات لهذه الآية الكريمة.. هذه الآية الكريمة قد بدأت بالواو وعلماء اللغة يقولون: إن الواو للعطف وعلماء البلاغة يقولون — مشيرا الى ان هذا العلم اي علم البلاغة ببيانه ومعانيه وبديعه قد أنشئ لفهم القرآن الكريم —: استعمل للوصل والوصل يعني انه لابد أن يكون هناك علاقات وارتباطات بين السابق واللاحق. إذن ما هي هذه العلاقات والارتباطات بين آية “وعباد الرحمن” والآية التي سبقتها؟.
وأضاف قائلا: الآية السابقة تقول: “تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شكوراً”، فالربط من عدة جوانب، أما الجانب الأول: فقد قال الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى “تبارك” أي تعاظمت قدرته بخلق هذه المخلوقات العظيمة، وعظمته في الارض تتجلى من خلال عباد الرحمن الذين يعبدون الله بإرادتهم ويسبحونه ويعظمونه بالليل والنهار. هذا الربط الأول.
ارتباط بالكون
وقال فضيلته لقد بين الله تعالى في الآية الأولى البروج التي نعرف من خلالها اختلاف الفصول والشمس والقمر فان عبادات عباد الرحمن مرتبطة هي الأخرى بهذه الكواكب السيارة فنجد ان الصلاة مرتبطة بالشمس في حين يرتبط الصوم والحج بالقمر، ثم تحدث عن الارتباط الثالث فقال: إنه يا عباد الرحمن عليكم ان تستفيدوا من هذه الاشياء وهذه المخلوقات بالقدر الذي يقربكم الى الله أكثر بعباداتكم، بتعمير الارض وخلافته سبحانه وتعالى عليها بأحسن ما تكون صورة الاستخلاف.
الارتباط الرابع لقد ذكر الله تعالى السراج المنير اي الشمس والقمر فالشمس يعني الجلال أي القوة، والقمر يعني الجمال وعباد الرحمن كذلك يجمعون بين القوة والجمال، أعزاء على الكفار أقوياء في الحرب، وأذلاء ومتواضعين مع المؤمنين، وكذلك في التعامل مع عامة الناس في السلم.. هينون وطيبون.. هذه هي الارتباطات الأربعة التي يمكن ان نستخلصها بين هذه الآية والتي سبقتها.
وصف المؤمنين
قال فضيلته: بقي لنا ان نتدبر في الآية كيف ان الله تعالى وصف المؤمنين بالجملة الاسمية والجملة الاسمية دائماً للثبوت والاستقرار اي إن صفات هؤلاء العباد ليست صفات عرضية او أنها تكلفية او أنها بين حالة وحالة بل هي ثابتة مستقرة فاذا كانوا مع الجاهلين يقولون سلاما، فكيف يكون حالهم مع الآخرين؟. ولا شك ان هذه الصفات في البداية تحتاج الى شيء من التكلف ولا يصبح صاحبها من عباد الرحمن بالوصف الذي جاءت به الآية الا اذا اصبحت هذه الصفات من طبعه.. وعموما لا تسمى الاخلاق اخلاقا الا اذا كانت نابعة من الطبع ومن السجية فالاخلاق المتكلفة لا تسمى أخلاقا طبيعية. وحلل فضيلته كلمة “إذا” كما وردت في الآيات فقال: الجانب الآخر أيها الإخوة الأحبة في هذه الآية الكريمة هو كلمة “إذا” وفي اللغة العربية الشرط يكون إما بـ “إذا” او بـ “إن”، فاذا جاء بإن” فانه يفيد عدم التأكد من حدوث الشيء، اما اذ كان بـ “إذا” فهو محقق.. ولهذا فان “إذا” جاءت هنا لتؤكد لعباد الرحمن أن مخاطبة الجاهلين مؤكدة لديهم، ولذلك فهو خطاب لهم لكي يعِدوا انفسهم لأن يخاطبهم الجاهلون،
وكلمة اخرى كذلك في هذه الآية متمثلة في “خاطبهم” ولم يقل سبحانه وتعالى “كلمهم” فالمخاطبة تعني المباشرة وجها لوجه، اما الكلام فقد يكون غير مباشر، والمخاطبة اشد من الكلام واقوى، ولذلك فالصبر عليها وقول “السلام” دليل على قوة وحلم المخاطب.. والامر الاخير في هذه الآية هو ان الإجابة جاهزة، فلم يقل رب العزة إذا خاطبهم الجاهلون “فـ”…قالوا سلاما اي إن الإجابة مباشرة.
تعامل مع الله
وانتقل في خطبته الى صفة اخرى من صفات عباد الرحمن: “والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما”، فإذا كان تعامل عباد الرحمن مع الخلق بهذه الرقة والجمال والصبر فكيف سيكون تعاملهم مع رب العباد الخالق.. وهنا ننتقل بهذه العلاقة من الارض الى السماء وهنا مقام العبودية الخالصة والحب والخلود.. وهنا لا يشبع هؤلاء من عبادتهم لله ومع الله، فقد خصصوا النهار للعمل وتعمير الارض وخصصوا الليل او جزءاً منه للسجود والقيام بين يدي الله سبحانه وتعالى، ويبيتون يعني في العربية ينوون قيام الليل كله، فيكتب لهم قيام الليل كله حتى وإن قاموا جزءاً منه.
المحافظة على الصلوات
ومن مواصفات عباد الرحمن التي تحدث عنها فضيلته: المحافظة على الصلوات: وكذلك لا ينسون ولا يغفلون عن قيام الليل ولذلك امر الله تعالى نبيه بقيام الليل، وكانت فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات كانت فريضة على المؤمنين كافة في بداية البعثة، فجعلها عليهم نافلة بعد ان كانت فريضة. إذن مسألة قيا م الليل ايها الإخوة لا يجب أن تترك. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه فقلت له يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟. انظروا ايها الإخوة الاحبة كيف يرتبط هذا الحديث بآية عباد الرحمن، والآية التي قبلها. فعباد الرحمن مرتبطة بأنهم يشكرون الله تعالى، ولذلك لا يرضى صلى الله عليه وسلم ان يبيت الليل غافلا دون ان يشكر الله، ومن هنا قوله: أفلا أكون عبداً شكوراً؟. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك صلاة الليل، وكان يصلي على اقل تقدير إحدى عشرة ركعة كل ليلة، والأفضل ان يؤجل الإنسان صلاة الليل الى قبيل صلاة الفجر بنصف ساعة او بساعة او بأي وقت، ولكنه يبيت ناوياً قيام قسط من الليل، ولذلك كان بعض السلف الصالح يؤجلون صلاة الوتر الى ما قبل صلاة الفجر حتى يكون لهم كل الليل متاحاً وتكون لهم نية. والرسول صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر في الحديث المتفق عليه ـ كان يذكر عبد الله بن عمر، فيقول نعم الرجل ابنُ عمر لو كان يقوم الليل، فلما سمع ابن عمر هذا.. ما ترك صلاة الليل بعد ذلك.
لا تترك قيام الليل
كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل ثم تركه. فالإنسان لابد ان يواظب عليه ولو لمدة خمس دقائق، عشر دقائق او نصف ساعة.. ولذلك ورد في الحديث الثابت الصحيح أن الشيطان ليعقد على قافية احدكم ثلاث عقد، ويقول: نم وارقد فالنوم طيب، ثم يجد هذا الانسان نفسه بين امرين: هل يسمع للشيطان ام يسمع للرحمن. فاذا قام قبل الفجر انفكت العقدة الاولى، ثم اذا ذكر الله وتوضأ انحلت العقدة الثانية، واذا صلى انفكت العقدة الثالثة، واصبح عندها طيب النفس لانه مع الله. اما اذا سمع للشيطان ولم يصل الفجر فهذا خطر لان صلاة الفجر هي صلاة تشهدها الملائكة: “إن قرآن الفجر كان مشهودا”، فيصبح الإنسان خبيث النفس كسلان. وبالتجربة ايها الإخوة الاحبة ليس هناك وقت لتدبر القرآن او للتأليف افضل من بعد صلاة الفجر، والافضل ايها الإخوة ألا ينام الانسان، ولكنه اذا نام فانه لابد ان يكون قد صلى الفجر.
ليس صعباً
وقبل أن يختتم خطبته أمس، قال: أراد الله تعالى ان يذكر لنا هذه المواصفات او التوصيفات، فمن يتدبر هذه الآيات ويحاول ان يطبق هذه الصفات حتى يستطيع بعد ذلك ان يقول: يا ربي، إني كنت من عباد الرحمن. إن هذه المسألة ليست صعبة، فاذا قصد الإنسان ذلك فانها لن تأخذ منه الكثير، ولكنها تجلب لنا الكثير وتحقق لنا سعادة الدنيا والآخرة.
ما أحوجنا أيها الإخوة المؤمنون إلى أن نعود الى القرآن، هذا النبع الصافي والى هذه المواصفات لما في ذلك من خير لهذه الامة التي تعاني من المشاكل ومن النفسيات التي تجد في ما ذكرنا علاجاً شافياً، يحقق عزة للمسلمين بين غيرهم، وذلة على إخوانهم المؤمنين.