الجزية لغة : هي الجزاء ، والجزاء هو المقابل .
والمقصود بها في عرف الفقهاء : المال الذي يؤخذ من أهل الذمة ..
فقد عرفها الشافعية بأنها : ( المال المأخوذ بالتراضي لإسكاننا إياهم في ديارنا ، أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم ، أو لكفنا عن قتالهم ) .
وبمثله أو قريب منه قال جمهور الفقهاء وهذا المعنى قريب من معناه اللغوي .
وخلاصة التعاريف تدل على أن هذا المال يؤخذ من غير المسلمين الذي يعيشون في بلاد الإسلام في مقابل توفير الأمن والأمان ، ويمكن أن نقول : إنه في مقابل حقوق المواطنة ، فكما أن الزكاة تؤخذ من أموال المسلمين المواطنين ، وصدقة الفطر على رؤوسهم ، فكذلك تؤخذ الجزية على الرأس ، والخراج من الأرض من غيرهم ، ويدل على ذلك أن بعض النصارى ( بنو تغلب ) لم يقبلوا باسم الجزية ، ورضوا بدفع الزكاة أو مضاعفتها ، فقبل منهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ومن جانب آخر فإن دفع الجزية كان دليلاً واضحاً على الاعتراف بالدولة الإسلامية وسلطانها السياسي ، وكان في ذلك نوع من الاطمئنان من الطرفين .
وقد اختلف العلماء في بداية تشريع الجزية ، فذهب بعضهم إلى أنها كانت في السنة الثامنة من الهجرة ، وبعضهم في السنة التاسعة ، حيث أخذت من نصارى نجران ، ومجوس هجر ، ثم من أهل أيلة ، وأذرح ، وبعض القبائل اليهودية في تبوك ، وكانت في حدود : دينار ( أي أربعة غرامات وربع من الذهب ) على كل بالغ ذكر عاقل سنوياً ، فهي لا تؤخذ من الأطفال ، ولا من غير العقلاء ، ولامن الرهبان ، ولا النساء ، فقد روى أبو عبيدة وغيره أن كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن جاء فيه : ( من محمد إلى أهل اليمن …. ، وانه من أسلم من يهودي ، أو نصراني فإنه من المؤمنين له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، ومن كان على يهوديته ، أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها ، وعليه الجزية ) .
هل هي أتاوة أم ضريبة المواطنة ؟
إن الدولة مهما كانت طبيعتها ( دينية أو مدينة) فلها حقوق وعليها واجبات من تحقيق حفظ الأمن والأمان ، والتكافل الداخلي ، ونحو ذلك ، كما أن لها حقوقاً على المواطنين بدعمها بالموارد البشرية والمالية لتحقيق أهدافها التي يجني ثمارها الجميع ، وأن الفوضى الأمنية والسياسية والاقتصادية تدمر كل شيء ، ولا تبقي ولا تذر ، وهذه حقيقة تأريخية ، كما أننا نشاهدها في عالمنا الإسلامي في العراق وغيره .
ومن هنا فالدولة الإسلامية شأنها في ذلك شأن جميع الدول القديمة والمعاصرة ، والمتقدمة ـ فرضت حقوقاً مالية ـ لصالح أمن الفرد والجماعة ولصالح تكافل مواطنيها ، غير انها فرقت بين نوعين من الحقوق الواجبة :
أحدهما : الحقوق المالية التي فيها معنى التعبد ( مثل الزكاة ) فهذه فرضها الإسلام على المسلمين تعبداً وتكافلاً ، حيث تحتاج هذه ـ من حيث المبدأ والقاعدة العامة ـ إلى النية التي لا تصح إلاّ ممن آمن بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة .
فلذلك يكون من الطبيعي أن يكون لهذا النوع خصوصية من حيث التطبيق ومقدار الواجب ، والواجب عليه ، ومع ذلك لو قبل به غير المسلم بدلاً من النوع الثاني الآتي لرحبت الدولة الإسلامية به ، لأنه أكثر من الثاني .
النوع الثاني : الحقوق المالية التي لا ينظر فيها إلى معنى التعبد أصلاً ، ولذلك يختلف من حيث المصرف ، والمقدار ونحو ذلك ، وإنما يراعى فيه اعتباران ، هما :
1- الاعتراف بالدولة الإسلامية اعترافاً تترتب عليه الحقوق والواجبات من الطرفين ( الدولة ومن يعيش على أرضها ) وهذا هو ما فسره كثير من الأئمة منهم الشافعي به قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) أي مستسلمون ، راضون قابلون بما فرضه الله عليهم من دفع جزء من الأموال إلى الدولة الإسلامية .
2- المساهمة في تحمل جزء من أعباء الدولة الإسلامية في تحقيق الأمن والأمان لجميع المواطنين والدفاع ضد المتربصين بها من كل جانب ، أي المساهمة في المجهود الأمني والحربي ، إضافة إلى المساهمة في تحقيق التنمية ، والتكافل والضمان الاجتماعي للمحتاجين ، حيث إن مصرف هذا المال هو بيت المال ( الفيئ ) الذي يصرف في التنمية الشاملة ، والبنية التحتية ، وفي التكافل والضمان الاجتماعي لكل من يعيش داخل الدولة الإسلامية من المواطنين سواء كانوا مسلمين ، أم ذميين .
إذن فالجزية هي من الناحية اللغوية بمعنى الجزاء الذي يشمل ما ذكرناه ، وليست كلمة تحمل في طياتها سوءاً لأحد ، ولكن الهجمات الإعلامية عليها أدت إلى إثارة شيء من الحساسية نحوها ، ولذلك فلا مانع أن يسمى ما يؤخذ من غير المسلم ، ضريبة ، أو نحو ذلك بل لو سيمت زكاة لم ترتكب مخالفة شرعية ، بل لها سابقة في عصر عمر رضي الله عنه حينما أبى بنو التغلب ( العرب النصارى ) أن يدفعوا هذا الحق تحت اسم الجزية بل قالوا له : نحن ندفع الضعف على أن تسمى زكاة فوافق على ذلك عمر ـ كما سبق ـ
إذن فالتسمية ليست مهمة بقدر أن يؤخذ هذا الحق ويصرف في صالح الدولة والوطن والمواطن .
مصطلح الذمة :
وكما أثيرت الحساسية أمام ( الجزية ) فقد أثيرت أمام كلمة جميلة رقيقة تحمل معان عظيمة ودلالات إنسانية كبيرة ، وهي كلمة ( الذمة ) حيث إن المقصود بها لغة : الرقبة ، والنفس ، أو العهد ، وفسرت في النصوص الشرعية الثابتة ، بذمة الله تعالى ، وذمة رسوله ، وأن الله تعالى ورسوله قد أعطيا لصاحبها العهد والأمان والجوار .
والحق أن قبول الإسلام ـ ومعه القوة والدولة ـ بدين آخر والتعايش معه دون إكراه ولا عنف بل مع كامل الحقوق لأصحابه يعتبر انقلاباً في مفاهيم العصور السابقة على عصر الرسالة ، حيث لم يسجل التأريخ أن ديناً قبل التعايش مع دين آخر ولو كان من قوم واحد ، فلم يقبل اليهود دين المسيح عليه السلام ، بل اضطهدوه وأصحابه وحوارييه أشد الاضطهاد وقلتوا منهم من قتل ، حتى حاولوا قتل المسيح عليه السلام وصلبه ، لكن الله رفعه ونجاه من بين أيديهم ، وكذلك حينما أصبح للنصارى دولة وقوة قاموا باضطهاد اليهود مرات عديدة قبل الإسلام وبعده ، وقتلهم وتعذيبهم ، وتشريدهم شر تشريد .