لاشك أن النظام الضريبي في العهود السابقة لم يكن يتوخى العدالة وإنما كان همه تحصيل أكبر قدر ممكن من الأموال للدولة، ولذلك يتخذ في سبيل تحصيلها المظالم وابشع صور التعذيب والإيذاء البشري وقد سجل التاريخ ذلك، ولكنه بعد ظهور الفلسفات الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان بدأت الحكومات تتجه نحو نظام ضريبي تتوخى فيه العدالة غير أن الفقهاء اختلفوا في مفهوم العدالة الضريبية كما اختلفوا في مفهوم العدالة غير أن الفقهاء اختلفوا في مفهوم العدالة الضريبية نفسها كما اختلفوا في مفهوم العدالة نفسها حيث تتنازعه وجهات نظر متباينة بسبب الفلسفات السياسية والفكرية، ويمكن حصر الاتجاهات حول مدى العادلة الضريبية في إتجاهين:
أحدهما التفسير الضيق لها بحيث يقتصر مفهومها على الجانب المالي للضريبة أي المساواة في التضحية أو التوزيع العادل للأعباء الضريبية بين المواطنين وهذا ما فسره (أدم سميث) بأنها المساواة في المقدرة التكليفية بحيث يناسب إسهام كل مكلف في النفقات العامة ومقدار يساره أي دخله[1].
وأما الاتجاه الثاني: فهو التفسير الموسع للعدالة الضريبية يتخطى النطاق التقليدي لها ويتناول جميع جوانب الضريبة من طلب أداتها إلى استخدام حصيلتها أي إنفاقها ويستهدف الحد من الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية[2] .
والقوانين الضريبية اليوم تشترط المساواة الضريبية بل ينص عليها معظم الدساتير، ولكن لمفهوم المساواة يكتنفها غموض وإختلال فهل هي مساواة مطلقة، أو نسبية،وهل ينظر إلى كل ضريبة على حدة أم ينظر إلى النظام ككل؟ وهل هي مساواة يومية أم سنوية؟ وهل ينظر إليها من الزاوية المالية والاجتماعية أم من الناحية القانونية؟ فلو نظرنا إليها من الزاوية المالية والاجتماعية نجد أن مفهوما يختلط بمفهوم العدالة، إذ تتحقق المساواة ولو حدثت معاملة تمييزية بين الممولين لاعتبارات اجتماعية ومالية، بينما لو نظرنا إليها من الناحية القانونية نجد أن مفهومها يعني المساواة امام القانون فلا تجوز بين الممولين حسب جنسهم وهكذا[3].
وأما العدالة في الشريعة فتعني المعنى الشامل للعدالة من جميع جوانبها الاجتماعية والقانونية بأعتبار أن نظام الزكاة نفسه عادل وراعى فيه الشارع الحكيم تحقيق العدالة والمساواة وتجسيد الأخوة ومجتمع التكافل والتعاون ومن مظاهر هذه العادلة رعاية الشرع لحقوق الفقراء وكذلك لحقوق الاغنياء، على عكس النظام المالي الرأسمالي (قبل تأثره بالفلسفات الاجتماعية ) حيث يراعي دائما حقوق الأغنياء والنظام الشيوعي أو الاشتراكي الذي يحكم الأغنياء بدعوة مساعدة الفقراء بينما الإسلام أعطى حقوق الفقراء ولكنه راعى أيضا حقوق الأغنياء من حيث اشتراط النصاب، وعدم ثني الزكاة وعدم أخذ الأموال وأجودها بل عليه يأخذ أوسطها، كما أعفى الأشياء المستخدمة من الزكاة كسيارته الخاصة، وفرصه، ومنزله الخاص ونحو ذلك، كما انه لم يوجب الزكاة في الحيوانات العالفة، ومن جانب آخر فإن نسبة الزكاة بسيطة جدا وقليلة جدا إذا قسمناها بنسبة الضرائب التي قد تصل إلى90% فسعر الضرائب قد يكون مجحفا جدا بحقوق الممولين كما أن نسبة التصاعدية لا توجد في الزكاة، بل بالعكس قد تقل النسبة فيها في بعض الموجودات الزكوية كما كثرت فمثلا في أربعين شاة واحدة 120 كذلك راعى الإسلام المساواة بين كل من له نصاب دون تفرقة كما راعى مدى الجهد البشري المبذول في تحصيل المال حيث أوجب العشر فيما سقي من الزروع والثمار بغير آله، في حين أوجب نصف العشر فيما سقي بآله كما راعى الظروف الشخصية لدافع الزكاة من خلاف إعفاء الحد الأدنى لمعيشة الفرد ومن يعوله حيث يعتبر من الحاجيات الأصلية، كذلك إعفاء المدين من زكاة ماله إذا كان مستغرقا بالدين، أو خصم ديونه عنه، كذلك طرح النفقات والتكاليف حيث تكون الزكاة في صافي الربح وكما راعى الإسلام العدالة في تشريع الزكاة وأحكامها كذلك راعى العدل في تطبيقه، فحرص كل الحرص على إختيار العاملين عليها وتوجيههم حيث يقول أبو يوسف للخليفة الرشيد: فمر يا أمير المؤمنين بإختيار رجل ثقة أمين عفيف ناصح مأمون عليك، وعلى رعيتك فوله جمع صدقات البلدان ومره فليوجه فيها قوما يرتضيهم ويسأل عن مذاهبهم وطرائفهم وأماناتهم يجمعون إليه صدقات البلدان.
وقد بلغني أن عمال الخراج يبعثون رجالا من قبلهم في الصدقات فيظلمون ويعسفون ويأتون ما لا يحل ولا يسع، وإنما ينبغي أن يتخير للصدقة أهل العفاف والإصلاح[4].
وهذا التوجيه للخليفة الرشيد منبثق من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عماله بالعدل والإنصاف حيث قال لأحد عمال: (أتق الله يا أبا الوليد، لا تأتي يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثغاء )[5].
وهكذا جاءت الزكاة محققة للعدالة الحقيقية، ولا غرو في ذلك بأن تشريعها من عند الحكيم الخبير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )[6].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) د. يونس البطريق ص 018
([2]) د.يونس البطريق المرجع السابق ص 8 -د- عبد الكريم صادق ص 84
([3]) د.عبد الكريم المرجع السابق ص84-85
([4]) الخراج لأبي يوسف – تحقيق د0 محمد إبراهيم البنا -ط- دار الإصلاح ص 176
([5]) الترغيب والترهيب -ط0 الحلبي 1/563 وقال: رواه الطبراني في الكبير واسناده صحيح – ويراجع فقه الزكاة 3/1046
([6]) سورة الملك الآية 14