ليست العقود بالنسبة للقبض على سنن واحدة , فهناك بعض العقود يكون القبض شرطاً لصحتها , وبعضها يكون القبض شرطاً للزومها , ولاستقرارها , وبعضها يلزم ويستقر دون القبض , ولذلك نجد الفقهاء يقسمون العقود باعتبار اشتراط القبض إلى أربعة أقسام :
القسم الأول : ما لا يشترط فيه القبض , لافي صحته , ولا في لزومه , ولافي استقراره مثل النكاح , والحوالة , والوكالة , والوصية , والجعالة .
ولكنه مع ذلك فإن امتناع الزوج عن تسليم المهر إلى زوجته يعطي الحق لها في عدم تسليم نفسها إليه , وكذلك فإن امتناعها عن تسليم نفسها – دون مبرر شرعي – يؤدي إلى عدم وجوب النفقة على الزوج , وأما إذا إمتنعا , وكل واحد يطالب الآخر بالبدء فالجمهور على أنه يؤمر الزوج بتسليمه إلى عدل , ثم المرأة بالتمكين [1] .
القسم الثاني : ما يشترط القبض في صحته مثل الصرف وبيع الأموال الربوية بعضها ببعض سواء كانا متحدي الجنس , أومختلفين , وذلك للحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ” لا تبيعوا الذهــب بالذهـب إلا مثلا ً بمثل ولا تشقوا بعضاً على بعض …….ولا تبيعوا منها غائباً بناجـــز ” وفي حديث صحــيح آخــر : ” نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن بيع الذهب بالذهب , والفضة بالفضة , والبر بالبر , والشعير بالشعير , والتمر بالتمر , والملح بالملح , إلا سواء بسواء , عيناً بعيـن فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ” [2] .
وقد توقف الظاهرية عند هذه الأنواع الستة ولم يقس عليها غيرها في حين ذهب جمهور الفقهاء إلى قياس بعض الأنواع عليها لكنهم اختلفا في العلة الجامعة المؤثرة هل هي الطــعم , أو الاقتيات أو كون الشيء مكيلا ً أو موزوناً …… مع اتحاد الجنس .
فهذه الأنواع الستة وما يقاس عليها لا يجوز بيع بعضها ببعض – سواء كانا متحدين في الجنس , أو مختلفين إلا مع قبض البدلين في المجلس , وإذا لم يتم القبض فقد بطل العقد أو فسد بالإتفاق [3] .
وكذلك يجب تسليم الثمن (رأس مال السلم ) في مجلس العقد عند جمهور الفقهاء , خلافاً للمالكية حيث أجازأكثرهم تأخيره إلى ثلاثة أيام ما دام لم يشترط في العقد , أما إذا إشترط التأخير في العقد فقد فسد العقد بالاتفاق [4] .
ولا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن إلى إشتراط حضور المعقود عليه في مجلس العقد حتى في الصرف أو السلم وذلك لأن الفقهاء نصوا على أنه لو تبايعا دراهم بدنانير مثلا ً , أو طعامـاً بطعام ولم يكن العوضان حاضرين ثم أرسلا من أحضرهما , أو ذهبا مجتمعين إليهما , وتقابضا قبل التفرق صح البيع , وسلما من الربا , وكذلك لو وكلا شخصين ليأتيا بالعوضين أو وكل أحدهما بذلك فأتيا به وتم القبض صح البيع , وكذلك لو وكــلا أو وكـــل أحدهما بالقبض قبل مفارقة العاقـدين جاز [5] .
القسم الثالث : ما يشترط القبض في لزومه كالرهن والهبة عند جمهور الفقهاء .
أولا – الرهن :
اختلف الفقهاء في أثر القبض في الرهن على أربعة آراء :
الرأي الأول : يرى أن الرهن لا يصح ولا يجوز إلا بالقبض , وهذا ما ذهب إليه الظاهرية حيث قال ابن حزم : ” ولا يجوز الرهن إلا مقبوضاً في نفس العقد…. ” [6] , وبه قال زفر , وعلى هذا يكون القبض ركناً [7] .
الرأي الثاني : يرى أن الرهن يتم ويلزم بمجرد العقد , ثم يجبر الراهن على الإقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن , أو يمرض , أو يموت , وهذا ما ذهب إليه المالكية , وأحمد في رواية , وعلى هذا فالقبض شرط للتمام فقط [8] .
الرأي الثالث : يرى أن الرهن ينعقد بالعقد , لكنه لا يصح لازمـاً إلا بالقبض , حيث يكون له حق الرجوع قبل القبض , وهذا رأي الحنفية – ما عدا زفر – والشافعية , والحنابلــة على الراجح عندهم [9] .
الرأي الرابع : التفرقة بين ما كان مكيلا ً أو موزوناً , وبين غيره , حيث ذهب بعض أصحاب أحمـــد إلى أن ما كــان مكيــلا ً أو موزونــــاً لا يلــزم رهنه إلا بالقبــض , وفيما عداهمــا روايتــان : إحداهما لا يلزم إلا بالقبض , و الأخرى : يلزم بمجرد العقد كالبيع .
وقد حرر ابن رشد النزاع في اللزوم وعدمه , حيث قال : ” فأمــا القبض فإتفــقوا بالجملة على أنه شرط في الرهن ….. واختلفوا هل هو شرط تمام أو شرط صحة ….. [10] .
وقد استدل كل فريق على ما ذهب إليه بأدلة نوجز القول فيها , حيث استدل الرأي الأول على دعواه بأن الله تعالى وصف الرهن بأنه مقبوض فقال تعالى : {فرهان مقبوضة ….} [11] . قال الجصاص : [12] ” وقوله تعالى : {فرهان مقبوضة } يدل على أن الرهن لا يصح إلا مقبوضاً من وجهين :
أحدهما : أنه عطف على ما تقدم من قوله : ( واستشهدوا شهيدين … ) فلما كان استيفاء المذكور والصفة المشروطة للشهود وواجباً وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من الصفة , فلا يصح إلا عليها كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف المذكورة , إذ كان إبتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضى للإيجاب ,( أي بعبارة أخرى قياس القبض في الرهن على العدالة في الشهود ) .
والوجه الثاني : أن حكم الرهن مأخوذ من الآية , والآية إنما أجازته بهذه الصفة فغير جائز إجازته على غيرها , إذ ليس ههنا أصل آخر يوجب جواز الرهن غير الآية ويدل على أنه لا يصح إلا مقبوضاً أنه معلوم أنه وثيقة للمرتهن بدينه , ولو صح غير مقبوض لبطــل معنى الوثيقة وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وثيقة للمرتهن فيــها , وإنما جعل وثيـــقة له ليكون محبوساً في يده بدينه فيكون عند الموت والإفلاس أحق به من سائر الغرماء , ومتى لم يكن في يده كان لغواً لا معنى فيه , وهو وسائر الغرماء فيه سواء ….. .
ثم أضاف الجصاص توضيحاً وتنويراً لرأيه فقال : ” ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوساً بالثمن مادام في يد البائع , فإن هو سلمه إلى المشتري سقط حقه , وكان هو وسائر الغرمــاء سواء فيه [13] , بالإضافة إلى قياسه على الهبة , لأنه عقد تبرع في الحال [14] .
واستدل الرأي الثاني بأن الايجاب والقبول يكفيان , إذ هما شطرا العقد وركناه الأساسيان , وإذا تما فقد انعقد الرهن ولزم لقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [15] , ثم حينما ينعقد العقد بجبر الراهن على تسليم الرهن , حاله في ذلك حال بقية العقود التي تترتب عليها الآثار , فالبيع مثلا ً يلزم بالإيجاب والقبول , ثم يترتب عليه أثره من إنتقــال الملكـــية وتسليم الثــمن والمثمن , وإذا إمتنع العاقد عن تنفيذ ذلك فإنه يجبر عليه قضاء ً.
واستدل الرأي الثالث بالآية السابقة نفسها : ( فرهان مقبوضة ) حيث وصف الله تعالى الرهان بكونــــها مقبـــــوضة , ومن هنـــا لا يجــوز أن يلغي هذا الوصف بل لا بد من اعتباره شرطــا وليس ركناً .
إذن فأصحاب هذا الرأي يحتاجون إلى الاستدلال على أمرين : الأمر الأول: كونه شرطاً , والأمر الثاني : كونه ليس بركن .
أما الأمر الأول فيدل عليه وصف الله تعالى الرهان بأنها مقبوضة قال الكاساني : ” وصف سبحانه وتعالى الرهن بكونه مقبوضاً فيقتضي أن يكــون القبـــــض فيه شرطاً صيانة لخبره تعالى عن الخلف , ولأنه عقد تبرع للحال فلا يفيد الحكم بنفسه كسائر التبرعات ” [16] .
وأما الأمر الثاني فيدل عليه أنه لو كان ركناً لما كان هناك حاجة لذكر : ” مقبوضة ” قال الكاســــــــاني : ” ولو كان القبـــض ركناً لصار مذكـــوراً بذكر الرهن , فلم يكن لقـــــــوله تعالى عز شأنه : ” مقبوضة ” معنى , فدل ذكر القبض مقروناً بذكر الرهن على أنه شرط وليس بركن [17] , وقاس ابن قدامة الرهـن في ذلك على القرض حيث أنه لا يلزم إقباضه , ولا يجبر عليه بمجرد العقد [18] .
وأما الرأي الرابع فقد استند على التفرقة بين المنقول وغيره , حيث إن التوثقة في المنقول لا تتم إلا من خلال القبض على عكس العقار .
المناقشة و الترجيح :
ويمكن أن يناقش القول الرابع بأن الآية الكريمة عامة في المنقول , وغيره , ولم يرد في السنة الثابتة على تخصيصها بالمنقول , فعلى هذا فتخصيصها تحكم وترجيح بلا مرجح . هذا من جانب , ومن جانب آخر إن العلامة ابن قدامة قد أوضح أن هذه التفرقة في المذهب الحنبلي غير صحيح , بل المروي عن أحمد روايتان مطلقتان بخصوص لزوم الرهن بالعقد وحده أم مع القبض , وكذلك كلام الخرقي محمول على ذلك , لكن القاضي أبا يعلى حمل كلام الخرقي مع عمومه على الفرق بين المكيل والموزون , وبين غيرهما , حيث قال : ” وليس بصحيح فإن كلام الخرقي مع عمومه قد أتبعه بما يدل على إرادة التعميم …” [19] .
بالإضافة إلى أن هذه التفرقة التي ذكرها أصحاب هذا الرأي تعود في الواقع إلى طبيعة القبض في المنقول , والعقار مع أن الخلاف في القبض مطلقا هل هو شرط أم لا ؟
ولذلك فهذا الرأي في الواقع ليس له دليل ينهض حجة , ولا مستند له وجاهته واعتباره .
ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الأول بأن الآية وإن كانت قد وصفت الرهان بكونها مقبوضة لكنها لا تدل على جعل هذا الوصف ركناً للرهن , بل لو كان القبض ركناً له كان جزءاً من ماهيته وحينئذ لما احتاج إلى الذكر , كما لا يحتاج لفظ البيع أن يوصف بالإيجاب والقبول , ومن هنا فلا تدل الآية على أكثر من كون القبض مطلوباً , وهذا يتحقق بجعل القبض شرطاً للزوم – كما هو رأي الجمهور – أو شرطاً للتمام ولكنه يجبر عليه – كما هو رأي المالكية – .
وأما قياس القبض في الرهن على العدالة في الشهادة فقياس مع الفارق من حيث الدلالة والماهية وذلك لأن دلالة {وأشهدوا ذوي عدل منكم } على اشتراط العدالة واضحة من الآية , بل هي موجهة إلى وجود هذا الوصف , بل إنه بدونه لا تكون شهادة , لأن الغرض منها كشف الحقيــقة وبيان الصدق فيها , وذلك لا يتحقق إلا مع وجود العدالة , وأما الرهن فالآية الدالة على كونه مقبوضاً لا تدل على أن القبض ركن وجزء من ماهيته , كما أنه لا يفهم من طبيعته كونه مقبوضاً ومن جانب آخر لا يستلزم من هذا الوصف في الآية كون القبض ركناً , أو شرطاً للصـحة , بدليل أن الآية نفسها قد علقت الرهن على السفر مع أن الرهن جـــائز في الحــضر بالإتفـــاق ماعدا مجاهداً [20] .
ويمكن أن نناقش الرأي الثاني , بأن ما نقوله مسلم لكن وصف الرهان بكونها مقبوضة في الآية الكريمة لو لم يدل على كون القبض شرطاً لأصبح بدون فائدة , وهذا لا يجوز في كلام رب العالمين .
ويرد على الرأي الثالث أنه لايلزم من القول بعدم اشتراط القبــض كون ” مقبوضة ” في الآية لغواً بدون فائدة , إذ أن ذكره له فائدة عظيمة وهي أن الرهن لا يكتفى فيه بمجرد العقد بل لابد من التسليم , ولذلك يجبر على ذلك . فلو لم تكن هذه الصفة لكان بالإمكان الاكتفاء بالعقد اللفظي مع إبقاء المال المرهون في يد الراهن , وأيضاً إن قياس الرهن على الهبة قيــاس مع الفارق, لأنه في مقابل التزام مالي دونها بالإضافة إلى الهبة أيضاً محل الخلاف .
وبعد هذه المناقشة فالذي يظهر لنا رجحانه هو ما ذهب إليه مالك وأحمد في رواية , وذلك لأن الآية الكريمة : { فرهان ٌمقبوضة ٌ} لاتدل عند التعمق على كون القبض ركناً ولا شرطاً للصحة وإنما تدل على اعتباره , وهذا يتحقق في جعل القبض شرطاً للتمام والاستقرار وليس للصحة , واللزوم , إذ على ضوء اعتباره ركناً يؤدي إلى إلغاء الإيجاب والقبول الصادرين من الراهن والمرتهن ما دام لم يصحبه القبض , وكذلك لو جعلناه شرطاً للصحة , وأما على ضوء اعتباره شرطاً للزوم فإنه يؤدي إلى أن العاقدين لهما حق الرجوع قبل القبض , وعلى ضوء ذلك فلو قبض الراهن الدّين , وتم الايجاب والقبول للرهن , فإن بإمكانه أن لا يسلمـه لأنه غير ملزم , وفي هذا إجحاف كبير بحق المرتهن في حين على ضوء مذهب مالك يجبر على تسليمه . فيكون فيه صون لكلام العاقل من اللغو والإلغاء , فالذي يدعمه الدليل أن الإنسان ملزم بالعقد الذي التزم به ولايحتاج بعد ذلك إلى شيء آخر من قبض ونحوه , لقوله تعالى : ” { … أوفوا بالعقود … } كما سبق – بالإضافة إلى أن السنة جعلت مخالفة الوعد – ناهيك عن العقــد – من علامات النفاق[21] فالرهن عقد يترتب عليه التزامات في مقابل التزامات مالية فينبغي أن يلزم بمجرد الإيجاب والقبول – مع بقية الشروط – كسائر العقود . وهناك تفاصيل حول قبض العــدل , ورهن المشاع لا تسمح طبيعة البحث بالخوض فيها .
ثانيا : الهبـــة ( وسائر التبرعات ) :
وقد ثار الخلاف في أثر القبض في الهبة , ونحوها على ثلاثة آراء :
الرأي الأول : هو أن القبض شرط للزوم الهبة , فلا يلزم إلا بالقبض , فعلى هذا يكون الموهوب قبل القبض على ملك الواهب , يتصرف فيه كيفما شاء وهذا رأي جمهور الفقهاء منهم الحنفية [22] والشافعية [23] , وهذا قول إبراهيم النخعي , وسفيان الثوري , والحسن بن صالح , وعبيد الله بن الحسن , وهو مروي عن أبي بكر , وعمر وعثمان وعلي , وعليه إحدى الروايتين عن أحمد [24] فعلى ضوء ذلك فالواهب بالخيار قبل القبض , بل لايصح قبضها إلا بإذنه , حتى لو قبضـها بدون الإذن لم يصح القبض .
الرأي الثاني : أن القبض يتم ويلزم بالإيجاب والقبول , وإذا امتنع الواهب بعد ذلك فيجبر عليه وهذا هو رأي مالك [25] , والشافعي في القديم , وأبي ثور , والحسن البصري , وكذلك قال حماد بن أبي سليمان في هبة الرجل لزوجته إذا علم [26] , غير أن الإمام مالكاً قال : ” فإن تأنى الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب أو مرض بطلت الهبـــــة ….” قـــال ابــن رشـــد : ” ولـه – أي لمالــك – إذا باع تفصيل : إن علم فتوالى لم يكن له إلا الثمن , وإن قام في الفور كان له الموهوب ” [27] , وفي الموطأ : تفصيل حيث إذا أعطى أحداًعطية لا يريد ثوابها فأشهد عليها فإنها ثابتة للذي أعطيها إلا أن يموت المعطي قبل قبضها …….. , وإن لم يرد ثوابها قبل القبض فلا شيء له [28] .
الرأي الثالث : التفرقة بين ما يكال ويوزن حيث لا تلزم الهبة فيه إلا بالقبض , وبين غيره حيث تلزم بمجرد العقد وهذا ما عليه أحمد في الرواية المشهورة عنه [29] , ومن الجدير بالتنبيه عليه أن هذا الخلاف نفسه وارد في صدقة التطوع لكن ابن أبي ليلى فرق بينهما وبين الهبة فقال : ” تجوز الصدقة إذا أعلمت وإن لم تقبض , ولا تجوز الهبة ولا التخلي إلا مقبوضة [30] .
الأدلـــــة :
استدل أصحاب الرأي الأول بالإجماع و الآثار , والرأي , أما الإجماع فهذا ما ادعاه ابن قدامة , حيث قال : ” ولنا إجماع الصحابة ( رضي الله عنهم ) فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر , وعمـر ( رضي الله عنهما ) ولم يعرف لهما من الصحابة مخالف . ومثله قال الكاساني .
وأما الآثار فهي كثيرة , فقد قال المروزي : ” إتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ : على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة [31] .
وقد روى مالك , وعبد الرزاق , والبيهقي , وابن سعد بسندهم عن عائشة قالت : ” لما حضرت أبا بكر الوفاة قال : أي بنيّة ! ليس أحداً أحب إليّ عني منك ولا أعزعليّ فقراً منك , وإني كـنت قد نحلتك جداد عشرين وسقاً من أرضي التي بالغــابة , وإنك لو كنت حزتيه كان لك , فإذ لم تفعلي هو للوارث , وإنما هو أخواك , وأختاك .. [32] .
ورووا أيضاً عن عمر بن الخطاب يقول : ” ما بال أقوام ينحلون أبنائهم , فإذا مات الإبن قال الأب : مالي , وفي يدي , وإذا مات الأب قال : قد كنت نحلت ابني كذا وكذا , لا تحل إلا لمن حازه , وقبضه عن أبيه ” [33] .
ورويا بسندهما عن عثمان قال : ” نظرنا في هذه النحول , فرأينا أن أحق من يجوز على الصبي أبوه [34] .
وروى عبد الرزاق عن شريح , وعطاء , وعمر بن عبد العزيز , وابن شبرمة , وعثمان البتي , أنهم كانوا لا يجيزون الهدية , ولا يجعلونها لازمة إلا بعد القبض[35] , وكذلك روى عبد الرزاق عن معاذ , والزهري , وحماد وابن مسروق قالوا : ” لا تجوز الصدقة حتى تقبض ” , وروى مثله عن شريح , ومسروق , والشعبي , أنهم كانوا لا يجيزون الصدقة حتى تقبض , أي لاتلزم إلا بالقبض [36] .
فكل هذه الآثار تدل على أن السلف الصالح قد شاع بينهم هذا الحكم حتى أصبح مجمعا عليه – كما قال ابن قدامة والكاساني [37] .
وأما الرأي والتعليل فهو ما عبر عنه الكاساني بقوله :” ولأنها عقد تبرع فلو صحت بدون القبض لثبت للموهوب له ولاية مطالبة الواهب بالتسليم , فتصير عقد ضمان , وهذا تغيير المشروع [38] .
واستدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والآثار والقياس :
أما السنة فهي الأحاديث الصحيحة الدالة على حرمة الرجوع من الهبة , منها قوله (صلى الله عليه وسلم ) : ” ليس لنا , مثل الســوء , الذي يعــود في هـبته كالكلب يرجـع في قيـئه ” وقولــــه : ” العائــد في هبته كالعائد في قيئه ” وقد عـقد البخاري له باباً سماه : ” باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته ” [39] , وعلق عليه الحـافظ فقال : ” كذا بتّ الحكم في هذه المسألة لقوة الدليل عنده فيها ” ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث في الدلالة على حرمة الرجوع واضح , فكما أن القيء محرم . ولا يجوز أكله فكذلك الهبة , يقول الحافظ : ” ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك , وأدل على التحريم بما لو قال مثلا ً : ” لا تعودوا في الهبة ” [40] , وهذه الأحاديث مطلقة ليس فيها ذكر القبض فتبقى على إطلاقها , وحينئذ تكون الهبة ملزمة بمجرد العقد دون الحاجة إلى القبض .
وأما الآثار في ذلك فواردة عن بعض الصحابة والتابعين , حيث روى عبد الرزاق بسنده عن علي وابن مسعود ( رضي الله عنهما ) حيث كانا يجيزان الصدقة وإن لم تقبض , وكذلك روى مثله عن إبراهيم وسفيان [41] .
وأما القياس فهو قياس الهبة ونحوها من الصدقة على الوصية في أنها عقد تبرع بتمليك شيء مع أنها تفيد الملك قبل القبض وتلزم بعد الموت وإن لم يقبــض الموصى به ما دام الإيجاب والقبول قد صدرا من العاقدين[42] .
واستدل الرأي الثالث بأن الهبة بلا شك من عقود التمليك وإن كانت بدون مقابل , ولذلك كان منها ما لا يلزم قبل القبض , ومنها ما يلزم قبله كالبيع حيث أن فيه مالا يلزم قبل القبض وهــو الصرف وبيع الربويات , ومنه ما يلزم قبله وهو ما عدا ذلك [43] .
واستدل ابن أبي ليلى ببعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة مثل عمر , وعلي ( رضي الله عنهم ) حيث أجازوا الصدقة قبل القبض , ولم يجيزوا الهبة إلا مقبوضة [44] .