جريدة الوطن – الدوحة
يواصل د. على محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبرالحلقة الماضية (مبادئ الاسلام في وضع المال) وتطرقنا لقضية الزهد في الدنيا واستخدام المال كمجرد وسيلة وليست غاية، وفي هذه الحلقة يتحدث فضيلته عن ( النظام المالي والسياسة المالية في الاقتصاد الإسلامي):
4ـ المال في الاسلام وسيلة وليس غاية ولذلك فرض الله عليه مجموعة من القيود والواجبات والحقوق لتحقيق التوازن والوسطية فيما يخص جميع مراحل النشاط الاقتصادي ـ كما سيأتي .
5ـ المال المذموم هو المال الحرام، أو الذي لم تعط منه حقوق الله وحقوق العباد، أو استغل للاستكبار، والاضرار بالآخرين.
6ـ إن الزهد الحقيقي في الاسلام لا يعني ترك الدنيا، وإنما يعني عدم تعلق القلوب بها على حساب الآخرة، فجمع المال والثروة بطريق الحلال مع أداء الحقوق مطلوب في الاسلام، كما دلت عليه الآيات والأحاديث.
7ـ ان المناهج التي قامت على الافراط، أو التفريط بشأن المال، وما ترتب عليها من الانعزال، وعدم السعي للمشي في مناكب الأرض كما أمر الله تعالى به للزرق واستكشاف ما في الأرض من سنن وخيرات هي التي شاركت في تخلف الأمة مع الأسباب الأخرى، فالأمة الإسلامية لا تكون لها القوة إلاّ إذا سعت افرادها للدنيا كأنها تعيش أبداً، وسعت للآخرة كأنها تموت غداً.
8 ـ الاسلام يعالج آثار الفقر من خلال الايمان بالقضاء والقدر، والتربية بالصبر والقناعة والرضا، ولكنه لا يرحب بالفقر بل يعتبره مشكلة، يدعو إلى حلها، والقضاء عليها بجميع الوسائل المتاحة، بل يعتبره قرين الكفر، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه مع الكفر ويقول: ( اللهم إني اعوذ بك من الكفر والفقر) ويقول: (…. وكاد الفقر يكون كفراً ) ويقول في حديث صحيح: (اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من شر فتنة الفقر) حيث يدل على أن الفقر له فتنة كما للغنى فتنة.
وقد وضع الاسلام مبادئ عامة وحلاً دقيقاً لعلاج الفقر من خلال ما يأتي ـ بايجاز شديد ـ:
1- دعوة الاسلام إلى اقتناء المال، وتعمير الأرض لأكل رزقها .
2- دعوته إلى العمل بمعناه الشامل لكل جهد فكري وذهني وعقلي وبدني ونبذ البطالة والكسل، بل دعوته لكل قوة إلى الاتقان والابداع، والتقدم، والتنويع.
3- تحريم الاحتكار والاكتنار والاسراف والتبذير.
4- حثه على التثمير والاستثمار والادخار، وعدم ترك الذرية عالة يتكففون الناس
5- إيجابه الزكاة والنفقات والصدقات وغيرها للوصول إلى حد الكفاف لكل فرد، وتحقيق الضمان الاجتماعى لكل من يعيش على أرضه.
النظام المالي والسياسة المالية في الاقتصاد الإسلامي
المطلب الأول ـ النظام المالي، وفيه فرعان:
الفرع الأول: النظام المالي في النظم الأخرى:
إن نشأة النظام المالي ليست جديدة، بل يعود تأريخها إلى تأسيس نظم الحكم والدولة، حيث لا يمكن أن تكون هناك دولة دون أن يكون لها موارد وإنفاق عام، ولذلك نجد كتابات قديمة حول معالم الفكر المالي لفلاسفة اليونان القادمى بدءاً من ( هيراكليتس 535-475ق.م) الذي تحدث عن أهمية الحرب لتحقيق الأموال، وقال: الحرب هي أب لكافة الأشياء ثم جاء أفلاطون فأقام جمهوريته على أساس النظام الطبقي، وعلى الملكية الجماعية، وضرورة الاعتداء على الدول المجاورة للحصول على الأموال اللازمة للجيش والخدم، والخفراء والنساء، غير أن تلميذه أرسطو (384-322ق.م) عارضه فدافع عن الملكية الفردية، وأن العدالة الاجتماعية وعدالة التوزيع تختل بالملكية الجماعية، ثم جاء بعده إيبوقراط فقام بدراسة الحاجات الأساسية للإنسان، ويرى بأن الرغبات ليست لا نهائية، إذ إن الناس لا يستطيعون تنظيم رغباتهم ووضع حدود لها من خلال عقولهم، ولكنه أهمل دور الحكومات في تنظيم الحياة الاقتصادية.
وعندما بدأت العصور الوسطى (حدود 476م) من خلال سيطرة الكنيسة على الحياة المدنية والاقتصادية وتحديد الحريات، ركدت حركة البحث والاجتهاد فسادت أوروبا عصور الظلام في الوقت الذي كان المشرق ينبض بالحياة والحركة والاجتهاد، وأشرق فيه نور العلم والحضارة والازدهار، إلى أن اتصل الغرب المسيحي بالشرق الإسلامي في اتجاهين هما: قيام المسلمين بتحقيق حضارة في جزء كبير من الغرب منذ القرن الثامن الميلادي، أخذوه منه، وهي حضارة الأندلس ( اسبانيا، والبرتغال، وجزء من فرنسا وإيطاليا الحالية) وقيام الصليبيين باحتلال الشام في القرن الحادي عشر الميلادي، والتواصل الثالث كان يتم عبر التجارة بين طرفي البحر الأبيض المتوسط.
هذه التواصلات الثلاثة أدت إلى إحداث حركة وتغيير وحراك داخل المجتمع الأوروبي أدى إلى نهضة ثقافية وعلمية، ظهر من خلالها عدد من الفلاسفة الذين أولوا بعض عنايتهم للجانب الاقتصادي مثل توماس الأكويني (1225-1274م) الذي ذكر ملامح الفكر المالي لديه، وتتمثل فيما يأتي:
1- أهمية التدخل الحكومي لتنظيم استخدام الأفراد لممتلكاتهم الخاصة بما لا يتعارض مع الصالح العام.
2- حق السلطات العامة في وضع حدود عليا، ودنيا للأسعار ومراقبة السعر العادل وتنظيمه في الأسواق.
3- استخدام الفائض الزراعي في بقية القطاعات. ثم جاء بعده أورسم فركز على خطورة النقود المزيفة على الدخول، وعدم جواز فرض ضرائب إلاّ بموافقة ممثلي الشعب بجميع فئاتهم، وأن تكون عادلة، وعدم جواز مصادرة الملكيات حتى بدعوى الصالح العام.
وعندما ازدهرت التجارة منذ عام 1600م ظهر فيلسوفان أوليا عناية بالفكر المالي:
أولهما: [ توماس مِنْ: 1571م-1641م ] وكتب كتابين حول: التجارة بين انجلترا، والهند الشرقية، عام 1621م، وكتاب: كنز انجلترا عن طرق التجارة الخارجية، الذي نشره ابنه عام 1664م حيث ركز فيهما على:
1- أن الضرائب تؤدي إلى اضطراب النشاط الاقتصادي، وإذا فرضت فيجب أن تكون لتمويل الحروب والمنافع العامة، وأن تكون بالتساوي بين المواطنين منعاً لشيوع روح العداء بينهم.
2.- إن دخل الحكومة لا يتحدد بالفرق بين الواردات والنفقات، وإنما بالفرق بين الصادرات والواردات، وحينئذ يجب أن يدخل الفائض في خزانة الحاكم.
3.-ضرورة توزيع الدخل والفائض على جميع أفراد الشعب. وثانيهما: [وليام بيتي] الذي ألف كتابه عن: الضرائب والمساهمات، الصادر عام 1662م ركز فيه على:
1- وجوب فرض ضريبة على إيجار الأراضي الزراعية في الدول التي تكتشف حديثاً، أي الدول التي استعمرها الانجليز.
2- ضرورة تميز الضريبة بالتناسب، أي عكس الرأي السابق.
3- يمكن أن يؤدي فرض الضرائب إلى زيادة الثرورة، أو الدخل.
تطور الفكر المالي:
ولكن الأفكار المالية في الغرب تطورت من خلال المدرسة الكلاسيكية التي مثلّها آدم سميث، وريكاردو، وستيورات ميل، وألفريد مارشال، الذين عاشوا في الفترة 1723-1924م، ونحن هنا نشير إلى آراء اثنين منهم وهما: آدم سميث، وريكاردو.
فقد ألّف آدم سميث (1723-1790م) كتابه: [ بحث في طبيعة، وأسباب ثروة الشعوب ] الذي يمثل آراءه الاقتصادية بصورة عامة، والمالية بصفة خاصة، حيث أبدى معارضته لفرض أي قيود من الدولة لحرية الأسواق، وان قدرة الحكومة على تحقيق الأرباح يعتبر المعيار الرئيس للحكم على حقها في ملكية وإدارة المشروعات، وبشأن الضرائب لا بدّ أن تتوافر فيها أربعة شروط، وهي:
1- الاقتصاد ـ أي بقدر الحاجة ـ .
2- المساواة أي أن تفرض على الدخول، أو القدرة على الدفع بالتساوي.
3- اليقين، أي تحديد مقدار الضريبة، ووقت جبايتها، وطريقة التحصيل بوضوح دون لبس أو غموض.
4- الملاءمة، أي أن تكون الضريبة على السلع الاستهلاكية الفاخرة أو الكمالية فقط، بالاضافة إلى ضرورة ملاءمة الضريبة للدخول بحيث لا يؤدي فرضها عليها إلى الاضرار بها.
وقد أولى آدم سميث عناية بالانفاق العام، فحدد النفقات العامة التي يجب أن تلتزم بها الحكومة، وهي نفقات الدفاع، والعدالة، والمؤسسات العامة، وأكد أهمية ما ينفق على تعليم الشباب، حيث إن الإنفاق على مؤسسات التعليم تدر دخلاً، وتحقق تقدماً، وإن تبذير الحكومات يؤدي إلى قلة الإنتاج، والصناعات والدخل، وتدهور التجارة، وبالتالي قلة التراكم الرأسمالي. وأما ريكاردو (1772-1823م ) فهو أول من أفرد الضرائب بدراسة عميقة من علماء الغرب، فقد ذكر في كتابه [ مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب ] الذي ألفه عام 1817م ان الإنقاق العام دائماً يكون على حساب الإنفاق الخاص لمجموع أفراد المجتمع، وأن الإنفاق على الحروب وعلى غير الإنتاج، والنفقات الكثيرة للدولة تؤدي إلى انخفاض الدخل القومي، وانخفاض رؤوس الأموال.
ويرى ريكاردو أن فرض الضرائب على الأراضي الزراعية يؤدي إلى عدم تشجيع الإنتاج الزراعي، لأن الزارع لا يستطيع نقل عبء الضرائب إلى المستهلك ما دامت أسعار المنتجات الزراعية لا ترتفع إلى معدلاتها الحدّية.
معادلة دقيقة: ويقوم ريكاردو بمعادلة بين الضرائب وإنتاج الدخل موضحاً أنها جزء يقتطع من رأس المال، أو الدخل، فإذا كان إنفاق الحكومة يتم تمويله عن طريق فرض ضرائب إضافية مع زيادة الإنتاج، أو خفض نفقات الاستهلاك فإن عبء الإنفاق في هذه الحالة يقع على الدخل دون المساس برأس المال، وإلاّ فإنه يقع على عاتق رأس المال، وفي هذه الحالة الأخيرة إذا لم يتم خفض الإنفاق، ولم يزد الإنتاج فإنه يؤدي إلى تدهور الاقتصاد بصورة عامة، أي قلة الإنتاج، وخفض الدخول، وقلة حصيلة الضرائب.
وفي نظر ريكاردو فإن فرض الضرائب لا بدّ أن يقلل حتماً من معدل التراكم الرأسمالي إذا نظرنا إلى الأثر الكلي النهائي لفرض الضرائب بالإضافة إلى أنه يقلل من الحافز على الاستثمار، ويذكر لذلك عدة أمثلة في كتابه المشار إليه.
وعلى عكس آدم سميث شجع ريكاردو استخدام المالية العامة بغرض إعادة التوزيع للدخل القومي باستخدام المدفوعات التحويلية، أو الضرائب السالبة على الدخل التي تستقطع من أصحاب الدخول والملاك لصالح فئات الشعب، كما أنه أشار إلى فكرة توجيه جزء من الدخل القومي إلى المنشآت الخيرية والدينية في إطار عملية التوزيع.