بعد سقوط الدولة العثمانية ـ التي بقيت رمزاً لوحدة المسلمين ـ على أيدي المستعمرين وعملائهم تمزقت الأمة الإسلامية شرّ ممزق سياسياً وفكرياً ، ويوزع معظمهم على الأفكار والأيدلوجيات المخالفة للإسلام ، وظهرت بجانب ذلك جماعات وأحزاب لإسلامية ، من أهمها الدعوة السلفية أو دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب ، وجماعة الاخوان المسلمين ، والجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية ، وجماعة الدعوة والتلبيغ .


 ونحن نذكر هذه الجماعات مع تعريف موجز بها لتطبيق فكرة الثوابت والمتغيرات ، وإمكانية توحدها من خلال ثوابتها المشتركة ، وإبقاء الاختلافات فيما بينها باعتبارها من المتغيرات المقبولة الداخلة في اختلاف التنوع .


 فالدعوة السلفية ، أو دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب (المولود 1115هـ والمتوفى 1206هـ = 1703 ـ 1791م) الذي دعا إلى ضرورة الرجوع إلى الكتاب والسنة ، وفتح باب الاجتهاد ، والاعتماد على منهج أهل السنة والجماعة في فهم الدليل والبناء عليه ، وإحياء فريضة الجهاد .


 وركز الشيخ محمد رحمه الله على مسائل العقيدة ، وبالأخص توحيد الأسماء والصفات ، وتوحيد العبودية ، والقضاء على البدع والخرافات ،وبدع القبور ، ومحاربة الشركيات[1]. وهذه الدعوة المباركة الإصلاحية قد ظهرت في عصر انتشرت فيه الخرافات والبدع والشركيات ، فكان المسلمون أحوج ما يكون إلى إصلاح الجانب العقدي قبل كل شيء ، ثم نشأت جماعات وأفكار تدعي انتسابها إلى السلفية ولكنها انحرفت عن المنهج الذي رسمه الشيخ محمد رحمه الله حيث اتجهت نحو التشدد ، والانشغال بالجزئيات ، والتساهل في تكفير الجماعات والأفراد ، حتى رأينا بعض كتبهم تكفر معظم دعاة التجديد والإصلاح والجماعات الإسلامية ، إضافة إلى أن تلك الجماعات جعلت السلفية حزباً ، في حين أن السلفية في حقيقتها تعني منهجاً واضحاً واسعاً على فهم السلف الصالح وأنها مرحلة زمنية مباركة (القرون الثلاثة الأول) وليست حزباً ، أو مذهباً معيناً ، فكل المذاهب الفقهية وغيرها القائمة على الكتاب والسنة التي نشأت في تلك القرون الثلاثة هي داخلة في مصطلح السلف ، بل إن القرن الأول سلف للقرن الثاني ، والثالث ، والقرن الثاني سلف للثالث ، ثم القرون الأول ، والثاني والثالث سلف لبقية القرون[2] .


 وأما الاخوان المسلمون فهي كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة التي ظهرت بعد سقوط الدولة العثمانية على أيدي الاستعمار البريطاني وعملائه في بداية القرن العشرين ، والهجمة الشرسة على الإسلام لتحريفه وإبعاد الجهاد والسياسة عنه ، وحصره على الجانب الروحي ليكون مثل الدين المسيحي اليوم ، ولذلك هيأ الاستعمار البريطاني كل الوسائل لانجاح هذه الهجمة بكل الوسائل المتاحة ؛ حيث أنشأ فرقاً منحرفة مثل البهائية ، والقاديانية ، وهيأ بعض من ينتسب إلى العلم لنفي الحكم والسياسة عن الإسلام مثل الشيخ علي عبدالرازق الذي ألف : الإسلام وأصول الحكم ، حيث رد عليه الأزهر الشريف والعلماء الثقات فأثبتوا أن الكتاب منقول من كتاب أحد المستشرقين ، وان وراء ذلك الاستعمار البريطاني[3] .


 في ظل هذه الظروف الصعبة وفي عام 1327هـ ـ 1928م نشأت جماعة الإخوان المسلمين كحركة إصلاحية تنطلق من شمولية الإسلام باعتباره منهج حياة عقيدةً وشريعةً وسلوكاً ونظاماً ودولة ، فقد قال مؤسسها الشيخ حسن البنا رحمه الله : (إن الإخوان المسلمين دعوة سلفية ـ أي من جانب الالتزام بالعقيدة الصحيحة ، ومن حيث الالتزام بمنهج السلف الصالح ـ وحقيقة صوفية ـ أي من حيث الالتزام بالزهد وتهذيب النفس وصفاء الروح ـ وهيئة سياسية ـ أي من حيث الدعوة إلى إحياء الدولة الإسلامية ـ وجماعة رياضية  ـ أي من حيث العناية بالبدن والتدريب ـ ورابطة علمية وثقافية وشركة اقتصادية ،وفكرة اجتماعية ) .


وقد اتخذ لتحقيق هذه الأهداف الخطوات التالية لكل من ينتمي إلى هذه الجماعة :




  1. إصلاح نفسه ، حتى يكون سليم العقيدة ، صحيح العبادة ، عظيم الخلق ، رفيع الفكر ، قادراً على الكسب قوي الجسم .



  2. تكوين البيت المسلم والأسرة المسلمة .



  3. إرشاد المجتمع بنشر دعوة الخير ، وإصلاحه .



  4. تحرير الوطن من كل سلطان أجنبي ، سياسياً واقتصادياً وفكرياً ….



  5. إصلاح الحكومة من كل جوانبها حتى تكون إسلامية بحق .



  6. إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية وإحياء مجدها وعزتها .



  7. أستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام : دعوة الحق والخير والعدل من خلال نشر المنهج الوسطي ، وقدرة المسلمين على أن يكونوا شهداء على العالم فقال تعالى : (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس )[4].


 وقد لخص الأستاذ سيد قطب رحمه الله خصائص هذه الدعوة في أنها تقوم على الربانية والتوحيد ، والثبات ، والشمول ، والتوازن ، والإيجابية ، والواقعية[5]. 


 والجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية والباكستانية التي أسسها الأستاذ أبو الأعلى المودودي 1321 ـ 1399هـ = 1903 ـ 1979هـ من خلال المؤتمر الذي عقد بلاهور في 268/1941م والذي ضمّ 75 شخصاً يمثلون مختلف بلاد الهند التي كانت تشمل الهند وباكستان ، وبنغلاديش حيث اختير أميراً لها .


 وعقيدة الجماعة الإسلامية هي من عقيدة أهل السنة والجماعة ، وأن الإسلام نظام متكامل للحياة ، كما يتكون برنامج دعوتها الإصلاحية من أربع نقاط وهي تزكية الأفكار وتطهيرها ، وإصلاح ذات الفرد ، وإصلاح المجتمع ، وإصلاح نظام الحكم .


 وقد ركز الإمام المودودي رحمه الله في جهاده ضد فكرة القومية المشتركة بين الهنادكة والمسلمين التي يرفعها حزب المؤتمر ؛ لأنها تؤدي إلى انصهار المسلمين في بوتقة الهندوسية كما انه ضد هيمنة الحضارة الغربية والأفكار التي تتعارض مع الفكر الإسلامي ، وضد جمود الديني .


 كما ركز على جعل الحاكمية في الأمر والتشريع لله تعالى وجعل الشريعة هي القانون الأساسي للدولة وإلغاء جميع القوانين المخالفة للشريعة ، كما وضع أساليب دعوية وتنظيمية لانطلاقة الجماعة الإسلامية في دعوتها[6] . 


 وأما جماعة الدعوة والتبليغ فهي جماعة إسلامية تقوم دعوتها على تبيلغ فضائل الإسلام للناس جميعاً ملزمة أتباعها باقتطاع كل واحد من أتباعها جزءاً من وقته لتبليغ الدعوة ونشرها بعيداً عن التشكيلات الحزبية والقضايا السياسية ، أسسها الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي (1303 ـ 1364هـ )الذي تلقى التعليم من عدة شيوخ العلم والتصوف ، مثل الشيخ رشيد الكنكوهي ( 1905م ) وبايعه على الطريقة عام 1315هـ .


جعل الشيخ محمد رحمه الله ستة مبادئ أساس دعوته وهي :


الكلمة الطيبة (لا إله إلاّ الله ) وإقامة الصلوات ، والعلم والذكر ، والإخلاص ، والنفر في سبيل الله ، وتقوم طريق الجماعة على الترغيب والترهيب والتأثير العاطفي ، ويتكلمون في السياسة ، بل ينتقدون الخائضين فيها ، وبذلك يختلفون عن الجماعة الإسلامية التي ترى ضرورة التصدي لها .


 وجماعة التبليغ جماعة إسلامية مصادرها كتاب الله وسنة رسوله ، وطريقتها طريقة أهل السنة والجماعة ، وتأثروا بالطريقة الصوفية الجشتية في الهند ، وقد نفعوا الإسلام والمسلمين كثيراً واهتدى بسبب دعوتهم الكثيرون من الذين انغمسوا في الملذات والآثام ، وإذا كان هناك ملاحظات عليهم فإنها تعود إلى الوسائل وليست المبادئ[7] .


 فهذه الجماعات السابقة التي تمثل معظم الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي ،وبقية الجماعات الإسلامية إما منبثقة منها ، أو متأثرة بها تأثراً كبيراً ، بل نستطيع القول بأنه لا توجد فروق جوهرية بين جماعة الإخوان المسلمين ، والجماعة الإسلامية التي أسسها الأستاذ المودودي فهما تتفقان من حيث الأسس والأفكار ، والمنطلقات والشمولية ، وإذا كان هناك اختلاف فهو اختلاف في بعض الوسائل وكيفية التنظيم .


 وأما الدعوة السلفية أو دعوة الشيخ محمد عبدالوهاب فهي دعوة تأثرت بها الاخوان ، والجماعة الإسلامية في خطوطها العامة المتمثلة في العقائد ، ومنهجية الالتزام بالكتاب والسنة.


 وأما الجماعات المتأثرة بشكل مباشر بالدعوة السلفية وتسمي نفسها بالسلفية ، فالخط العام فيها ـ بصورة عامة ـ متواصل مع الخطوط العامة للإخوان ، والجماعة ، وحتى مع جماعة التبليغ .


 ولا يسع المجال للخوض في مقارنة دقيقة بين أصول هذه الجماعات السابقة ومناهجها ، ووسائلها ، ولكني واثق من خلال قراءتي المكثفة لكتبها أن هذه الجماعات الكبرى الأربع تتفق تماماً في ثوابت الإسلام ومبادئه وقواطعه ، وأن جميع الاختلافات فيما بينها تعود إلى الخلاف المشروع الذي هو داخل في المتغيرات ، بل إن هذه الجماعات يكمل بعضها بعضاً ولو وزعت الأدوار ، وصفيت القلوب ، وهذبت النفوس لترتب عليها خير كثير، وكذلك الحال مع بقية الجماعات والأحزاب الإسلامية ما دامت ملتزمة بالكتاب والسنة وإجماع السنة ، والاجتهاد المنضبط .


 وأنا لا أشك أنها تلتقي بإذن الله في الأخير بعد أن تقرب الشدة والابتلاءات بعضها من بعض ، وتتعامل بعضها مع بعض عن قرب ، وتعرف كل جماعة عن أختها الكثير فحينئذٍ تعترف وتتعارف وتتعاون ، وتتكامل ، ثم تتحد ، ولا سيما في ظل الأحداث والمصائب والهجمة الشرسة الأخيرة التي لا تفرق بين جماعة وأخرى ، ولا تعترف بإسلام معتدل ، أو متشدد ، وإنما الإسلام كله في نظرها إرهاب .


 وهكذا كانت الأمور في ظل ظهور النزعة الحنبلية السلفية بعد إطلاق سراح الإمام أحمد رحمه الله والنزعات الصوفية والنزعات العقلية والكلامية ، ثم حدثت مشاجرات ومناوشات فجاءت الهجمة الصليبية في آخر القرن الخامس الهجري واحتلت القدس الشريف ، فأحس المسلمون جميعاً خطورة الموقف ، فتقاربت المدارس الفقهية والفكرية والصوفية من خلال مدارس الإصلاح التي هيأت الأجواء لظهور جيل نورالدين الزنكي وصلاح الدين الأيوبي وبالتالي استعادة الكرامة والعزة الإسلامية .


 


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 


[1])) يراجع للمزيد من التفصيل : عبدالحليم الجندي : الإمام محمد بن عبدالوهاب ط. دار المعارف بمصر ، وبحوث أسبوع الشيخ  ط. مركز البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود ، الرياض 1403هـ ، الموسوعة الميسرة للندوة العالمية للشباب الإسلامي بالرياض ص 273


[2])) د. البوطي : المرجع السابق ص 0009


[3])) يرجع : د. محمد عبدالقادر أبو فارس النظام السياسي في الإسلام ، ط.عام 1980 ص 275 – 296 ، و د. محمد البهي : الدين والدولة من توجيه القرآن الكريم ، نشر مكتبة الوهبة 1980


[4]))  سورة البقرة / الآية(143)


[5])) يراجع : كتب الإمام البنا رحمه وبالأخص مجموعة رسائله ، ط.دار الشهاب بالقاهرة ، ود. رييشارد ميتشل : الاخوان المسلمون ، ط.مكتبة مدبولي عام 1977م ، وكتب السيد قطب ، وبالأخص كتابه : خصائص التصور الإسلامي ومقوماته ، الموسوعة الميسرة ، للندوة ص 23 – 29  


[6])) يراجع : خليل الحامدي : الإمام أبو الأعلى المودودي ، ط. المكتبة العلمية بلاهور عام 1980 ، وكتب الإمام المودودي نفسه ، والموسوعة الميسرة ص 173 ـ 180


[7])) الموسوعة الميسرة ص 115 – 121



 اعلى الصفحة