فتوى ومبادرة حول :

السماح بجعل واحات المساجد وساحاته، وجزء من الحرم لعلاج المرضى ، إحياء لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، في وضع خيمة لعلاج المرضى والجرحى في المسجد النبوي ، وإظهاراً لسماحة الإسلام وعنايته القصوى بحياة الإنسان .

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

إن الإسلام يختلف عن غيره في تصوراته ومصطلحاته ، وشعائره ، فهو يقوم على (مثاني) في الفهم ، والشفع في تصوراته، وكفتي الميزان في جميع أنشطته، ولذلك فالمسجد في الإسلام ليس مكاناً لأداء الشعائر فقط كما هو الحال عند غيره، فالكنائس والبِيَع والكنيس خاصة بالطقوس الدينية فقط، في حين أن المسجد النبوي بالمدينة المنورة حينما بناه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام كان – بجانب أداء الشعائر فيه- مدرسة للتربية والتزكية وصناعة القادة، ودار قضاء وحكم وسلطة ، ومبنى للمشورة والبيعة، ولانطلاق الجيوش، وكان أيضاً مؤسسة اجتماعية تحل فيها مشاكل الفقراء، ويعقد فيها النكاح ، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستقبل فيه الوفود حتى من غير المسلمين ، وغير ذلك .

والذي يهمنا أن المسجد النبوي المبارك قد عولج فيه وفي واحاته الجرحى والمرضى، بل ضرب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم خيمة لعلاج سعد بن معاذ ، فقد روى البخاري في صحيحه (4122) ، ومسلم (1769) وغيرهما بسندهم عن عائشة رضي الله عنها (أنه أصيب سعد يوم الخندق … في ا لأكحل ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب …) وفي رواية صحيحة أخرى للبخاري (463) ومسلم (1769) بلفظ (أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب فلم يَرُعْهم، وفي المسجد خيمة من بني غِفار ، إلاّ الدم يسيلُ إليهم، فقالوا : يا أهل الخيمة : ما هذا الذي يأتينا من قبلكم ، فإذا سعد يغدو جُرحه دماً فمات فيها) .

وهذا الحديث الصحيح المتفق عليه واضح في أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب خيمة للعلاج داخل مسجده المبارك ، كما وردت روايات صحيحة أخرى تدل على أن الصحابية الجليلة رفيدة كانت تعالجه في الخيمة ، حيث روى البخاري بإسناد صحيح في الأدب المفرد (859) أنه لما أصيب أكحل سعد يوم الخندق، فَثَقُلَ ، حَوَّلُوهُ عند امرأة يقال لها رُفيدة ، وكانت تداوي الجرحى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مرّ به يقول: كيف أمسيت؟ وإذا أصبح : طيف أصبحت؟ فيخبره).

قال الحافظ ابن العسقلاني في الإصابة (4/302) : (إسناده صحيح) ، وقد ذكر ابن عبدالبر في الاستيعاب (3340) وابن الأثير في أسد الغابة (6925) وابن حجر في الإصابة (8/135) ان رفيدة (واسمها كعيبة بنت سعد الأسلمية كما قال ابن سعد في الطبقات (8/291) كانت لها خيمة تداوي فيها الجرحى)، حيث ذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يجعل في خيمة رفيدة عند مسجده ، وكانت امرأة تداوي الجرحى فقال : (اجعلوه في خيمتها لأعوده من قريب) ويراجع فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب المغازي ، الحديث رقم 4122 .

فهذه الأحاديث تدل على أن جزءاً من المسجد من البنوي كان مخصصاً لعلاج الجرحى من خلال خيمة رفيدة، حيث ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوه في خيمة رفيدة) ، يراجع سيرة ابن هشام (2/239) وطبقات ابن سعد (8/291) وصحيح مسلم (2/1389) وتأريخ الطبري (2/556) .

وفي هذا دلالة عظيمة على رحمة هذا الدين وإنسانيته وشموله للحياة كلها الروحية والبدنية ، والدنيوية والأخروية ، فكما أن الأرض مسجد كلها للمسلمين، فكذلك المسجد يستوعب الحياة كلها.

 

 

 

 

 

الفتوى والمبادرة:

وبناء على ما سبق ، ونظراً لتعطيل الجوامع والمساجد بسبب الخوف من تفشي فايروس كورونا ، واعتماداً إلى حاجة البلاد والعباد إلى أماكن إضافية ، لتكون مستشفيات مؤقتة ، حيث إن المستشفيات الحالية لا تكفي ، ولا تغطي الحاجيات المطلوبة بسبب كثرة المرضى والمصابين ، حتى تحولت النوادي الرياضية إلى مستشفيات مؤقتة.

فأمام ذلك واقتداء بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، أفتي بجواز أن تتحول ساحات المساجد والجوامع وواحاتها، إلى مستشفيات مؤقتة إلى أن يزول هذا الوباء بإذن الله تعالى، وفي هذه الحالة ليس هناك أي حرج من أي مريض يكون في هذه الساحات والواحات، لأنها لا تأخذ حكم المسجد نفسه عند جمهور الفقهاء، وعندئذ يخصص حرم المسجد للإدارة وأداء الصلوات فيه حسب التوجيهات الصحية.

وإذا اشتدت الحاجة فلا مانع من تخصيص جزء من حرم المسجد نفسه ليكون مستشفى مؤقتاً كما كان حال خيمة السيدة رفيدة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رأينا أن دم سيدنا سعد قد وصل من خيمة رفيدة إلى خيمة لبني غِفار داخل المسجد نفسه -كما سبق – ، لكن مع حرص الإدارة  على متطلبات المسجد بقدر الإمكان.

 

وقد يقال: قد يكون أحد المصابين أو أحد طواقم الفرق العاملة من غير المسلمين ، فما الحكم؟

 

والجواب عن ذلك:

أنه يجوز دخول غير المسلمين في جميع المساجد – ما عد الحرم المكي-  إن كان بإذن المسلمين بدون خلاف قوي يذكر ، وإنما الخلاف القوي في دخولهم في الحرم المكي أو بغير إذن المسلمين، ويدل على ذلك ما يأتي:

 

1- ما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل وفد ثقيف (وهم مشركون) في مسجده، حيث روى أبو داود في سننه بسند حسن (3026) أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم…) وقال ابن الملقن في البدر المنير (4/27) : (إسناده حسن)، وقال ابن الوزير اليماني في العواصم والقواصم (2/213) : (إسناده صحيح) وروى أبو داود في المراسيل (124) عن الحسن البصري : أن وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب لهم قبة في مؤخر المسجد لينظروا إلى صلاة المسلمين وركوعهم وسجودهم، فقيل: (يا رسول اله أتنزلهم في المسجد وهم مشركون؟ ! فقال صلى الله عليه وسلم:  (إن الأرض لا تنجس).

وقصة وفد ثقيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قصة مشهورة مذكورة في معظم كتب السنة، في صحيح مسلم (328) وسنن أبي داود (1393) وابن ماجه (1345) وأحمد (19020) وغيرها، ولذلك قال الشوكاني في السيل الجرار (1/180) : ( ثابتة).

 

2- أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل وفد نصارى نجران في مسجده، وحانت صلاتهم فصلوا فيه، قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (1/397) ط. رمادي للنشر: (وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنزل وفد نصارى نجران في مسجده ، وحانت صلاتهم فصلوا فيه ، وذلك عام الوفود)، وجاء في تفسير ابن كثير (2/42) ط. دار الكتب العلمية: (قال ابن اسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال : قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخلوا عليه مسجده…وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله يصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوهم) فصلّوا إلى المشرق) .

 

3- روى البخاري في صحيحه (469 ، 462 ، 4372 ، 2422 ، 2423) ومسلم في صحيحه (1764) وأبو داود (2679) وابن حبان في صحيحه (1239) بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة ، يقال له ثمامة بن أُثال فربطوه بسارية من سواري المسجد…).

ولذلك فلا حرج شرعاً في وجود طبيب غير مسلم ، أو في علاج غير المسلم في المساجد داخلها أو خارجها – ما عدا الحرم المكي- .

والضابط الأساس لجواز ما سبق، هو :

أولاً- الإبقاء على مسجدية المكان ، دون تحويله إلى مستشفى ، إذ لا يجوز تحويل المسجد إلى شيء آخر .

ثانياً- أن لا يتحول حرم المسجد كله إلى مستشفى ، فيبقى فيه مكان للصلوات .

ثالثاً- التنسيق الكامل بين الجهات المشرفة على المساجد، والجهات الصحية ، والتوافق بينهما .

مقاصد الفتوى والمبادرة :

وفي هذ الفتوى وتنفيذها تحقيق مقاصد شريفة وغايات نبيلة ، منها :

أ- تشغيل هذه المساجد والجوامع التي يقدر عدد المعطلين منها بسبب هذا الوباء بمئات الآلاف ، والاستفادة منها، وإعادة الحركة إليها ، ولا سيما أن الطواقم الطبية أو معظهم سيصلون فيها حسب الضوابط الصحية .

ب- المساهمة في تخفيف المعاناة على المرضى ، من خلال الإحساس ببركة المسجد، وتخفيف الضغط على المستشفيات العامة .

ج- إعطاء صورة طيبة داخل العالم الإسلامي وخارجه بأن مساجد المسلمين تساهم في رفع المعاناة الإنسانية عن المرضى .

د- تحقيق الراحة النفسية للمرضى في المستشفى ولا سيما إذا يسر لهم الاستماع إلى القرآن الكريم .

 

 

 

وفي الختام إن هذه الفتوى أو المبادرة تبقى في دائرة التأصيل والتنظير الشرعي ، ولكن  تنفيذها يتوقف على موافقة الجهات المسؤولة عن الجوامع والمساجد، والجهات المسؤولة في الصحة والمستشفيات ، لذلك أدعو إلى التنسيق التام بينهما، وإظهار هذا التعاون على أحسن وجه وأكمله وأتقنه .

وأوصي إخواني من الأقلية الإسلامية في العالم بطرح هذه المبادرة لإظهار سماحة الإسلام ، ومفهوم العبادة فيه، وإحساساً بالمسؤولية ، ومساهمة في التخفيف عن معاناة هذا الوباء ، وآثاره.

وفق الله الجميع لفعل الخيرات، ونتضرع إليه سبحانه أن يرفع هذا الوباء عن العالم أجمع.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم