وقد سمعت منه في إحدى المحاضرات جهوده بل والحيل التي استعملها للوصول إلى المعلومات المؤثرة ، ونقل التكنولوجيا المطلوبة من الخارج إلى داخل باكستان .

  ونجحت باكستان في صنع القنبلة النووية بل والمنشآت النووية ، ودخلت في نادي الدول النووية ، وأصبح لديها أخطر سلاح ردع على مستوى العالم ، ومنع وجود السلاح النووي الباكستاني عن نشوب الحرب الرابعة التي كادت أن تنشب منذ عامين لولا خوف الهند من السلاح النووي الباكستاني ، إذ في الحرب النووية بينهما هلاك للدولتين ، فأدى هذا السلاح النووي إلى التوازن الحقيقي بين الدولتين مما اضطرت دولة الهند للجلوس مع باكستان على طاولة المفاوضات .

 كل ذلك وغير ذلك قد تحقق بفضل جهود عبدالقدير خان وفريقه النووي  ـ بعد فضل الله ـ ومع ذلك يجازى هذا الرجل بهذا الشكل في دولته فيتهم ويحقق معه ، ويهان ويذل ويضطر لطلب الرحمة والمغفرة من رئيس الدولة ، وكنت شخصياً أتوقع قيام حفل عالمي لتكريمه ، وتسمية بعض الجامعات والمدن باسمه ، ومنحه جائزة مثل جائزة نوبل التي حرم منها بسبب كونه عالماً إسلامياً ، وترتيب حراسة مشددة له ، وتهيئة فرص لمستقبله ومستقبل أولاده .

  في حين أن الأستاذ البروفيسور زين الدين أبو الكلام العالم النووي الهندي المسلم يختاره حزب هندوسي معروف بتوجهاته ليكون رئيس الدولة تقديراً لجهوده ، وتكريماً له ، وهذا المنصب وإن كان منصباً دستورياً ليس له صلاحيات كبيرة ، لكنه لا شك أنه يعتبر أعظم تكريم لرجل لم يشتغل بالسياسة ، وإنما لأجل ما قدمه من العلم النووي إلى الهند ، ولوصوله إلى صناعة القنبلة النووية الهندية .

 وأمام الخبرين المتناقضين المتعارضين خيّم على الأجواء الإسلامية صمت رهيب ، واستغراب عجيب ، وأمر مريب ، وتساؤلات تستحق الوقوف أمامها ، لماذا يقابل العلماء في باكستان بما ذكرناه ، وفي الهند بما سردناه ؟ هل لأن باكستان دولة إسلامية ، والهند دولة غير إسلامية ؟ ما الذي وراء هذين الموقفين ؟ وما دلالتهما ؟ وما نتائجهما على مستوى الأجيال الحالية واللاحقة ؟

 

 وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة أود أن أوضح شيئاً وهو أنني ، ـ وربما معي الكثيرون ـ كنت أظن أن معظم الدول الإسلامية والعربية لا تحترم العلماء في مجال الفقه ، والأدب والاجتماع وغيره من العلوم الإنسانية ، ولكنها تحترم العلماء في مجال تخصصات الطبيعة والفيزياء والكيمياء والذرة ، ونحوها ، ولكن موقف باكستان الحالي قضى على هذا الزعم ، وأوضح بأن عدم تقدير العلماء شامل وإذا كان هناك مساواة في العالم الإسلامي فهي تكمن في المساواة في الظلم ، وهضم الحقوق ، وعدم تقدير العلماء ، ثم تذكرت مواقف كثيرة لعلماء عرب ومسلمين أجلاء عادوا إلى بلادهم فلم تهيئ لهم ما يليق بمكانتهم العلمية ، فتركوها ، وسافروا إلى الخارج فأصبحوا أعلاماً ونجوماً ، مثل د.فاروق الباز ، ود.أحمد الزويلي ، وغيرهما كثيرون .

  وهناك ملحوظة أخرى قبل الإجابة وهي أن الدول المتنافسة الطامعة في العالم الإسلامي وفي خيراته وثرواته من الطبيعي جداً أن يكون لها دور كبير في هذا الموضوع ، إذ لا تريد للعالم الإسلامي النهوض والتقدم وهي تعلم علم اليقين بأنهما لن يتحققا إلاّ بالعلماء ورعايتهم ، ومع ذلك فأنا لست ممن يجعلون الاستعمار شماعة يعلقون عليها مشاكلهم للتنفيس والارتياح بدل العمل والمواجهة ، وإنما أنا من أنصار إلقاء كل المسؤوليات على أنفسنا نحن المسلمين تحقيقاً لقوله تعالى : (أولمّا أصابتكم مصيبة قد أصبيتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم) سورة آل عمران الآية 165.

  وأعود إلى الإجابة عن التساؤلات التي أثيرت ، وهي أن كون باكستان دولة إسلامية لا يمكن أن يكون بسبب إسلامها لثلاثة أسباب :

 

أولها وأهمها : أنه لا يوجد دين ، ولا نظام على وجه الأرض يعطي الأهمية للعلم والعلماء مثل الإسلام ، ويكفي أن تكون أول آية وأول سورة تأمر بالقرءاة المطلقة للكتاب ، والكون ، وأسرار الحياة ، وتبين أهمية العلم ومصادره ( اقرأ باسم ربك الذي خلق اقرأ وربك الأكرم الذي علمّ بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم ) ، كما بيّن أنه لا يستوي العالم مع الجاهل فقال تعالى : (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ، وأما الأحاديث النبوية فلا تعد ولا تحصى في فضل العلم بمختلف صنوفه وأنواعه وفضل العلماء ، ووجوب إكرامهم وان إعزازهم من إعزاز الله ……..

 

ثانيهما : أن الرئيس الباكستاني الحالي لا يدعي أنه يطبق الإسلام بل أعلن بعد انقلابه العسكري على حكومة نواز شريف أن قدوته مصطفى كمال أتاتورك .

 

ثالثها : أن الأحزاب الإسلامية (وعلى رأسها الجماعة الإسلامية بزعامة القاضي حسين) رفضت مطلقاً اتهام هؤلاء العلماء الأبطال وإذلالهم ، ودعت إلى القيام بمظاهرات ضخمة ، ولولا عفو الرئيس مشرف عن الأستاذ عبدالقدير خان لكانت المظاهرات أكثر تأثيراً .

  أما السبب في أن الهند قامت بتكريم أبي الكلام العالم النووي وتعيينه رئيساً للبلاد فيعود إلى مسألة الحرية والديمقراطية التي لا تسمح إلاّ أن يبحث الزعماء عن إرضاء الشعب ، وليس فرض السياسات ، فالديمقراطية (الشورى) تقوم على كرامة الإنسان واحترام آدميته وآرائه ، ناهيك عن تكريم العالم الذي خدم بلده أعظم خدمة ، أما الدكتاتورية فتقوم على إذلال الإنسان وقتل كرامته ، وإهانة آدميته ، وترويضه ليكون عبداً للدكتاتور ، أو لحزبه ، ولذلك ليس للإنسان قيمة ولا كرامة ، لا لحياته ، ولا لآرائه ، ولا لعلمه ، ولا لكيانه ولا لابداعاته ، فالإنسان مثل الحيوان ، أو الحشرات في نظر الدكتاتور ، هذا ما صرح به شاوشيسكو وزوجته عند المظاهرات الضخمة التي قامت ضدهما قبيل سقوطه .

 وليس هذا من باب المدح للهند ، وإنما المدح للنظام الذي يعطي للشعب القدرة على أن يحاسب الحاكم ويوقفه عند تجاوزه ، وبالتالي يسعى الحاكم لإرضاء الشعب ، كما قال سلفنا الصالح أن يكون خادماً للشعب ، لا أن يكون الشعب كلهم بكل طاقاتهم وأموالهم خادمين له .

  وقد صور القرآن الكريم موقف الإنسان (أو الشعب) الذي يكون مكبلاً بأغلال الاستبداد والعبودية ، حيث لا يستطيع أن يتجه الاتجاه الصحيح ، ويكون عبئاً ، كما صور الإنسان الحرّ الذي تدفعه حريته وإرادته واختياره إلى اختيار الأفضل ، ويكون قادراً على الإبداع حيث ضرب القرآن الكريم المثل في هذين المجالين ، مجال الاستبداد والعبودية ، ومجال الحرية ، فقال تعالى : (وضرب الله مثلاُ رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كلّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) سورة النحل الآية 76.

 إن معظم الشعوب الإسلامية أصبحت بسبب الظلم والاستبداد مثل الأبكم الذي لا يقدر على الكلام خوفاً من عواقبه وعواهنه ، ويخاف أن يفكر في شيء قد لا يتفق مع النظام الحاكم وبالتالي فيحاكم فيسحق ، وقد لا يحاكم فيعدم ، فمثل هذا يصبح عبئاً لأنه غير قادر على الإبداع ، وعلى المساءلة والمحاسبة .

  أما نتائج مثل هذه التصرفات في عدم تكريم العلماء ، أو اتهامهم ، والحكم عليهم فستكون خطيرة على المستقبل القريب والمستقبل البعيد ، فهي وأد للعلم في مهده ، وقتل للإبداع قبل ظهوره ، وذبح بسكين حاد لمستقبل العلم في العالم الإسلامي ، وتخبط لا يعرف مداه إلى الله تعالى.والله المستعان