إنّ أهمّ ما يلاحظ على أمّتنا الإسلامية، ومجتمعاتنا قضيّة عدم التّوازن ولا سيما في مجال الأخلاق، والتّوازن شرط أساسي لكل حركة صحيحة، ولكلّ تقدّم ملحوظ، ولكلّ حضارة يراد لها أن تبقى، هذا الأمر كلّه قائم على التّوازن، قال تعالى:(وأنبتنا فيها من كلّ شيء موزون)، وهذه الشّريعة أيضا هي شريعة التّوازن على سبيل الحقيقة، والإنسان نفسه إذا اختلّت فيه الموازين، واختلّ توازنه اختلّت صحّته، واختلّت إرادته واختلّت مسيرته، هذا الخلل في التّوازن خلل شامل في كثير من النّاس، وفي كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، وفي دولنا العربية والإسلامية، واليوم نتحدّث عن جانب مهمّ من هذا التّوازن، وهو التّوازن في الأخلاق، وبالتّالي تكون المخاطر الكبرى عندما لا يتحقّق التّوازن في الأخلاق، ويقصد بالتّوازن في الأخلاق أن يكون تطبيق الأخلاق في جميع المجالات، وليس الأخلاق أمراً استحباباً فقط ، بل إنّ الأخلاق هي الغاية من العبادات، والعبادات ربطت بالأخلاق، قال تعالى:(إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر)، وفي الصيام قال عزّ وجلّ:(لعلّكم تتّقون)، وفي الحج قال تعالى:(فمن فرض فيهنّ الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، فلذلك هذه الغاية لها أهمّية بل إنّ هذه الغاية تدخل حتّى في الجانب العقدي، فتوحيد الله سبحانه وتعالى قمّة الأخلاق، والشّرك بالله تعالى من أعظم أنواع الظّلم، قال عزّ وجلّ:(إنّ الشرك لظلم عظيم)، والتوحيد عدالة مطلقة لله سبحانه وتعالى، والأخلاق أيضا داخلة في الفكر والتّصوّرات، والأخلاق الإسلامية المطلوبة تجعل فكر الإنسان المسلم متحرّرا من هذه العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، ومن التقليد للآخرين إلاّ إذا ثبتت منافع هذا الأمر، فالمشركون قال فيهم الله تعالى:(وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا هذا ما وجدنا عليه آباءنا) والآيات كثيرة جدا في هذا المعنى، آيات كثيرة تبيّن أنّ فكر هؤلاء لم يكن فكرا أخلاقيا، الفكر الأخلاقي هو الفكر المتنوّر بنور الله عزّ وجلّ، هو الفكر الذي يبحث عن الحقيقة ولا يكون تابعا إلاّ إذا كانت هذه التّبعية فيها المنفعة.

الأخلاق لابدّ أن تعطى لها أوزانها الحقيقية، وقوّتها الحقيقية، نحن اليوم ننظر إلى الأخلاق كقضيّة ثانوية، ولذلك نجد الاختلال الكبير عند بعض الأشخاص الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى، يصلّون ويصومون لكنّهم لا يلتزمون بالأخلاق، وهذا دليل على أنّ هذه العبادات هي عادات في حقيقتها، ولو كانت عبادات لكانت مؤثّرة في نفوس أصحابها، وفي تصرّفاتهم وفي أعمالهم، وفي كلّ ما يفعلون.

     ثمّ يأتي بعد ذلك التوازن في نظرتنا للأخلاق، معظم النّاس يظنّون أنّ الأخلاق هي ترك الزّنا، وترك القتل، وغير ذلك من المحرّمات، نعم ترك ذلك جزء مهم، لكنّه ليس الجزء الأهمّ، فالجزء الأهم في ذلك كما قلت أن تدخل هذه الأخلاقيات في أفكارنا، وفي تصرّفاتنا، وأن تكون هذه الأخلاقيات من لاب الأمر والإيجاب واللزوم، فليست الاخلاقيات في الإسلام مجرّد ترك المحرّمات، وإنّما الأخلاقيات في الإسلام هي الأفعال أوّلا ثمّ ترك المحرّمات، والمحرّمات حتى في الأخلاق قليلة، بينما في جانب العمل كثيرة، وأمر الله سبحانه وتعالى بها أمرا مطلقا مثلاً: في الجانب التّصوّري(الإخلاص) التّجرّد و الولاء لله سبحانه وتعالى وللمؤمنين، ثمّ للوطن الإسلامي، والبلد الذي تعيش فيه، كذلك الإحسان، الإتقان، الإبداع، العمل المتقن، العمل المحسّن، والإحسان يشمل أربعة أشياء في الإسلام، الذي تكرّر في القرآن العظيم عشرات المرّات بألفاظ مختلفة تشمل العمل الجاد، والمتقن، وتشمل الإبداع، وأنّك في عمل الدنيا لا ينبغي أن تبقى على حالة واحد بل يجب تطوّر نفسك، وعملك، وهذا ما يسمّى بالإبداع، كذلك تشمل الرّحمة بالنّاس أجمعين حتّى بالحيوانات، وكذلك تشمل أيضا التّقوى والحماية والوقاية، فإذن الأخلاقيات الفعلية هي الأصل، وليست المحرّمات يُكتفى بتركها، المحرّمات و النواهي تأتي بعد الأوامر، وحتّى داخل المحرّمات عندنا عدم التّوازن فنحن نحصر المحرّمات في معظم الأحيان التي تصبح عيبا اجتماعيا قضية الزّنا وما يتعلّق بالجوانب الجنسية، هذا صحيح لكنّه جزء بسيط من الأخلاق، وحتى عندما ننظر إلى هذا الجانب فليست نظرتنا متوازنة، نفرّق بين الشاب والشابّة، وبين الرّجل والمرأة، فحين تتهم المرأة يقتلها أهلها، مع أنّه ليس لهم الحق شرعا، إذ لا يجوز لأي إنسان أن ينفّذ الحدود إلاّ الدولة و القضاء، بينما لو زنا الشّاب فالأمر عادي، حتى ولو لم يكن عازبا لا يقتل، هذه القضية خطيرة جدا، وهذا دليل على عدم توازننا، كذلك حتى في جانب العفّة الشريعة الإسلامية كما أوجبت عفّة الفرج أوجبت كذلك عفّة اللّسان، وأوجبت عفة في المال، فكثير من النّاس تجدهم يطأطؤون رؤوسهم عندما يرون امرأة ولكن عندما يجلس يشتم ويغتاب النّاس، وكثير من النّاس يعفّون ربّما في هذا الجانب ولكنّهم لا يعفّون في الأموال وخاصة أموال الدّولة، أو حتى أموال الشركات، إذا أتيح لهم المجال.

ينطبق على هؤلاء قول بعض علمائنا في وصف المنافقين، كانت نظرتهم إلى الحلال و الحرام هو أنّ الحلال ما حلّ في أيديهم، والحرام ما حرموا منه، وليس الحلال ما أحلّه الله سبحانه وتعالى، والحرام ما حرّم الله عزّ وجلّ ويجب أن نبتعد عنه مهما كانت الظروف، فلا يجوز أن تأكل أموال الآخرين، لذلك هذا الخلل في قضيّة الأخلاق أدّت إلى أنّ مجتمعاتنا التي هي مجتمعات دينية، والمفروض أنّنا نتفوق على الغرب في الأخلاق، في معظم الأحيان، وعند كثير من النّاس لم نصل في الالتزامات الخاصّة، والأخلاقيات الآمرة لم نصل إلى مستوى الغرب رغم هذا الدّين العظيم، رغم أنّ الخطباء بعشرات الآلاف و ربّما الملايين، ويسمعون لكن للأسف لا يتأثّرون إلاّ من رحم ربّك، هذا خلل كبير لابد أن نعالجه إذا أردنا أن نكون عبادا لله تعالى مخلصين.

حين تحدّث الله عن عباد الرحمن لم يبدأ بالصلاة، ولا بالعقيدة رغم أنّها مطلوبة، وصف عباد الرحمن في قوله عزّ وجلّ:(وعباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هونا) أي لا يؤذون أحدا حتى بمشيتهم هيّنة، وهذا أيضا للشباب المسلم الذين يمرّون بسياراتهم فيها الأصوات العالية و المزعجة حتى داخل الشوارع، هؤلاء لا يدخلون في عباد الرحمن، إلاّ إذا تابوا إلى الله سبحانه وتعالى، أول وصف(يمشون على الأرض هونا)، أي هيّنين ليّنين لا يؤذون أحدا، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أمثلة لذلك منها سيّدنا سليمان عليه السلام، باعتباره قدوة، قال تعالى:( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، عندما مر سليمان عليه السلام بجيشه، وقد علّمه الله تعالى لغة الطيور والحيوانات، سمع نملة كما في قوله عزّ وجلّ: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)، أي ادخلوا مساكنكم لكي لا يحطمكم جيش سليمان عليه السلام وهم لا يعلمون بكم، وإلاّ لو علموا لا يفعلون ذلك، فرح سيدنا سليمان عليه السلام ، وتبسم ضاحكاً من قولها، لأنّ هذه الشهادة من هذه النّملة لسيّدنا سليمان وجيشه أنّهم لا يريدون إيذاء حتى النمل، هكذا ينبغي أن يكون المسلم هيّناً ليّناً لا يؤذي أحداً ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) وهذا في مجال التعاملات وليس في مجال القضاء، أما مجال القضاء فإنه قائم على العدل.

يجب أن نعود إلى هذا التوازن الأخلاقي، الذي نحن نفتخر به، كل واحد مسؤول عن نفسه، وعن أسرته، مسؤول أن يقيم فيهم هذا التوازن، التوازن بين العبادات وبين الأخلاق، ثم داخل الأخلاق بين الأخلاق الآمرة والأخلاق المنهية عنها.