الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أيها الإخوة والأخوات

تغمرنا سعادة بالغة أننا نجتمع في بلد عزيز علينا بأهله الكرام، وعريق بتأريخه العظيم، وسبقه في المكارم، والثورة على الطغاة، وحكمته في التعامل مع الأحداث، تلكم هي تونس الخضراء التي تحتضننا اليوم لبحث موضوع يعد مصيرياً لأمتنا الإسلامية، قصة التنمية والفساد، قصة الحضارة والتخلف، قصة النزاهة والشفافية، أو قصة النهب لثروات الشعوب والمال العام، قصة إمبراطوريات المال على حساب الشعوب الكادحة، قصة الفقر المدقع للشعوب، والغنى المفرط للطبقة الحاكمة، قصة الحروب الداخلية المدمرة لأجل امتصاص ثروات أمتنا، بل وامتصاص دمائنا أيضاً، وقصة الفساد الأخلاقي المرتبط أيضاً بالفساد السياسي والإداري، والمالي.

أيها الحضور الكرام

تلك القضية التي أشرت إلى بعض حلقاتها هي منظومة الفساد المتكاملةُ المحكمةُ داخل أمتنا، والمتجذرة بالسياسة الاستبدادية، وقوى الشر في الداخل والخارج، لذلك لا يمكن اجتثاثها إلا بمنظومة للإصلاح الشامل، ولذلك يجب علينا جميعاً السعي الجاد للوصول إلى المنهاج الموصل إلى أهداف أمتنا وشعوبنا، بل مقاصد ديننا المتمثلة في العمران والحضارة، وخدمة الإنسان، ولذلك فإن التنمية الشاملة في الإسلام منظومة متكاملة ومترابطة، حيث تشمل تنمية داخل الإنسام وخارجه، كما تشمل التنمية الفكرية والعلمية والتقنية والسياسية، والتشريعية بالإضافة إلى التنمية الاقتصادية، بل إن التنمية تنطلق من كرامة الإنسان وحقوقه وحريته، فقال تعالى:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[1]، اقرأ يعني فلتكن قراءتك شاملة لكل ما يدور حول الإنسان من الكون داخله وباطنه وظاهره، والإنسان والمجتمع ومكوناته، ولكن يجب أن تكون هذه القراءة باسم الرب، حتى لا تطغى، وفي ظل كرامة الإنسان وحمايتها؛ لأنها بدونها لن تكون قراءة حرة مبدعة قادرة على استخراج خيرات الأرض، وتحقيق الرفاهية للأمة.

تتحقق هذه التنمية الشاملة بأربعة شروط أساسية، وهي:

أولاً: تغيير أفكار المجتمع نحو المال، والفقر والغنى، والدنيا والحضارة، حيث شاعت الاستهانة بها، وذمها مطلقاً لدى معظم الناس منذ قرون طويلة؛ اعتماداً على بعض الأحاديث الضعيفة، أو الفهم غير الصحيح، أو الفهم غير المتوازن لبعض الأحاديث الصحيحة، مما أدى إلى تغيير مقاصد الأمة من التعمير والعمران والشهود الحضاري إلى مقاصد يترتب عليها الكسل والزهد البارد، والقناعة الساذجة.

فمن النوع الأول:

  • حديث: "أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَاكَ خَمْسُ مِائَةِ سَنَةٍ"[2].
  • وحديث:" إن أطولكم حزناً في الدنيا أطولكم فرحاً في الآخرة، وإن أكثركم شبعاً في الدنيا أكثركم جوعاً في الآخرة"[3].
  • وحديث:" اتخذوا عند الفقراء أيادي فإن لهم دولة يوم القيامة"[4].
  • وما أسند إلى النبي r:" اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة"[5].

ومن النوع الثاني:

  • قوله r:" يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُ مِائَةِ عَامٍ"[6]، فهذا يحمل على قلة المسؤولية، وعلى الفقراء الصابرين الذين يبذلون كل جهودهم، ولكن يبقى الفقر بينهم، ومع ذلك فالحديث لم يسلم من نقد ومقال.

والخلاصة أن هذه الأحاديث الموضوعة والضعيفة التي اشتهرت بين الناس كان لها تأثيرها السلبي في الاندفاع الحضاري، حيث تحول الفقر من كونه مشكلة يجب حلها إلى فضيلة لا يتحقق الزهد ودخول الجنة إلا بها، وكم نرى من كتبنا كتاب فضيلة الفقر، والصواب أن يكتب كتاب فضيلة الصبر عند الفقر، وكم من كتب في ذم المال والغنى، وذم الدنيا، والصواب أن يكتب كتاب ذم الدنيا إذا جعلت المقصد الأول، أو إذا أدى إلى الطغيان والعصيان، وذم الغنى والمال إذا أديا إلى الاستغناء والغرور، أو اكتسبا بالحرام، أو استعملا في الحرام.

فالنصوص الشرعية تدل على أن الفقر مرض يجب علاجه، ولذلك كان يستعيذ منه الرسول r مع الكفر[7]، وأن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الله تعالى لما ذكر الآخرة قال: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}[8]،أي أنها الأفضل، وليست الدنيا في مقابل السيء، وبالتالي فهي أيضاً خير، ولكن الآخرة هي المقصد الأسمى، وأن المال نعمة، ولكن يجب أن يكتسب، وينفق في غير معصية الله تعالى.

فعندما تغيرت المقاصد والغايات تغيرت الوسائل والنتائج، وضعف الاندفاع الذاتي نحو تعمير الكون وتحقيق الحضارة.

ومن المعلوم اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً ودينياً أن للاندفاع دوراً عظيماً في تحقيق الأهداف، فالرأسمالية نجحت ـــ في عالم المال والتقدم ـــ لأنها ركزت على الاندفاع الذاتي لتحقيق الرفاهية اللامتناهية.

وقد أكد الإسلام على أهمية هذا الاندفاع الذاتي الطبيعي المشروع أيضاً، مع اندفاع الأجر والثواب وتعمير الآخرة، فلو سرنا عليهما لتحقق العمران والسعادة الكاملة.

ثانياً: توفير متطلبات التنمية الشاملة من إصلاح النظام التعليمي، وبقية الأنظمة الاجتماعية، وذلك لن يتحقق بكماله إلا من خلال الحكم الرشيد، والنظام السياسي الذي يجعل الإصلاح الشامل قضيته الأولى.

ثالثا: ضرورة القضاء المبرم على الفساد بجميع أنواعه؛ الفساد السياسي والفساد المالي الاقتصادي، والفساد الإداري، والفساد البيئي، فلا يوجد مرض أخطر من الفساد، ولا مصيبة على الأمة أعظم منه، ولا حرب مدمرة أدهى وأمر من الفساد، كما أنه لا يمكن أن تتحقق التنمية الشاملة في ظل الفساد الذي يأكل الأخضر واليابس، ولذلك لا نجد في الإسلام عقوبة أشد من عقوبة الفساد في الأرض، فقال تعالى:{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[9]. فهؤلاء الفاسدون المفسدون يجب تطهير الأرض منهم، ولا يكتفى بقتلهم، بل صلبهم؛ ليكونوا عبرة لمن يعتبر، حتى يُقطع دابر القوم {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[10]، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[11].

رابعاً: اختيار الأشخاص المخلصين المختصين، الكفوئين، الذين يتمتعون بالقدر على الإدارة الناجحة، كما قال سيدنا يوسف ــ عليه السلام ــ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[12].

خامساً: وضع خطة استراتيجية تنطلق من العناية بالإنسان؛ بتعليمه وصحته وحقوقه والارتقاء به إلى التنمية الاقتصادية، والعلمية والتقنية، والاجتماعية والحضارية.

وإذا نظرنا إلى معظم التجارب البشرية الناجحة نجد أنها تقوم على معظم هذه الأسس، ولا أضرب المثل هنا باليابان وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وماليزيا، وتركيا، وإنما أضرب مثالاً ببلد كانت التنمية، بل الحياة شبه مستحيلة، ولكنها انطلقت من حرب الإبادة إلى الريادة، ومن الفقر المدقع والبطالة القاتلة إلى تنمية اقتصادية شريعة، حيث تضاعف دخل الفرد خلال 20 سنة حوالي 40 ضعفاً، ومن بلد متخلف جداً إلى إطلاق قمر صناعي في مايو 2019م، ذلك هو راوندا البلد الصغير، مساحتها 25 ألف كم، وشعبه 13 مليون نسمة، البلد الذي نشبت فيه حرب الإبادة عام 1995م، راح ضحيتها حوالي مليون شخص، فجاء الرئيس بول كاغا جي منذ عام 2000م، وخلال عشرين سنة تغير وجه راوندا في كل المجالات، وتحققت تنمية شاملة، وذلك من خلال وضع هدفين رئيسين هما: توحيد الشعب، والخروج من الفقر إلى الغنى والرفاهية، ثم انبثق منهما حوالي خمسين هدفاً، والمقصود به علاج خمسين مرضاً كان منتشراً في المجتمع، وعلى رأسها؛ العناية بالإنسان وحقوقه، والتعليم والصحة، والاستثمار، والقضاء على الفساد، وعلى الروتينية، فمثلاً أطلق شعار الشباك الواحد للاستثمار، أي أن المستثمر لا يراجع إلا شباكاً واحداً له صلاحية الموافقة خلال ساعات محدودة، فاليوم رواندا من أنظف الدول وأكثرها شفافية، وأقلها فساداً، وانخفضت نسبة البطالة إلى 1.5% ، ولما سئل كليت أحد كبار الاقتصاديين في رواندا عن هذه المعجزة قال: كلا ليس معجزة، وإنما الاستفادة من تجارب الآخرين.

واليوم نحن في العالم الإسلامي، وبخاصة في الدول المتحررة عن الظلم والطغيان أمامنا فرصة كبيرة؛ لتحقيق تنمية شاملة، وتقدم علمي وحضاري وصناعي، ولدينا مقومات ذلك وموجهاته ومكوناته، من أهمها:

  1. أن هذه الدول قد تحررت من الظلم والاستبداد والدكتاتورية، وعليه فإن أحد أهم شروط التنمية قد تحقق، وعلينا أن نمضي قدماً لتحقيق الشفافية والقضاء على الفساد، واختيار العناصر المخلصة المختصة.
  2. إن أمامنا تجارب عظيمة قديمة وجديدة، منها:
  • خطة سيدنا يوسف عليه السلام التي أدت إلى إنقاذ الشعب المصري.
  • وتجربة الخليفة السادس عمر بن عبد العزيز الذي قضى على الفقر، وأوصل المجتمع خلال أقل من 3 سنوات إلى مجتمع تمام الكفاية، بل إن ديننا أعظم حافز على التنمية والعمران والحضارة والاستخلاف، ولديه أقوى تشريع في محاربة الفساد الشامل ـــ كما سبق ـــ، فعلى أمتنا أن تتحرر من عقدة النقص أو الاستهانة بأعظم دين ونظام وتشريع يسمح لنا بالاستفادة من أي قديم صالح وجديد نافع،" الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أين وجدها"، وقال تعالى في وصفه الرسولr  :{ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }[13]، يتلو عليهم آياته؛ للارتقاء بالفرد، ويزكيهم من الفساد الشامل، ويعلمهم الكتاب والحكمة، أي يعلمهم الجمع بين الوحي الصحيح والعقل المستقيم، والحكمة والتجارب الصحيحة، مهما كان مصدرها.
  1. ضرورة الاتحاد على المبادئ والثوابت التي تحمي أمتنا وشعبنا مهما اختلفنا، فعلينا أن نحُلّ جميع مشاكلنا وخلافاتنا بقبول الآخر، والحوار البناء؛ لأن الصراعات تحول دون أي تقدم أو تنمية شاملة، فنمشي على قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[14].
  2. الاتفاق للانطلاقة الكبرى نحو التنمية من خلال خطة استراتيجية شاملة بعيدة المدى تعتمد على الأركان الثلاثة التي ذكرتها، وتنبثق منها دراسة جميع مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية لوضع الحلول الناجعة لها، وأن مما لا شك فيه أن القضاء على الفساد من خلال حسم مادته بالعقوبات الرادعة، وبالوعي والقوانين والرقابة الرسمية والشعبية يُعدُّ من أهم الشروط، ومن أهم التحديات.

وكلنا أمل أن نرى تونس الخضراء حققت لنا هذا الأنموذج بقيادته الجديدة، وبثورته المباركة، وذلك أملنا ودعاؤنا، وليس ذلك على الله ببعيد.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 


[1] – سورة العلق، الآية رقم 1 ــــ 3

[2] – رواه أبو داود في سننه برقم 3649، وقال المنذري: في إسناده المعلى بن زياد، وفيه مقال، وروى قريبه ابن ماجه برقم 4124 بسند منقطع ضعيف جداً، ولو صح لحمل على محمل الصبر.

[3] – أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق: 26 / 4، جاء في المنتخب من العلل، للخلال:" ليس بصحيح".

[4] – قال الحافظ ابن حجر: لا أصل له، وتبعه السخاوي، وقال الذهبي وابن تيمية وغيرهما: رواته من المقطوع بوضعه، انظر فيض القدير: 1 / 113، قال ابن القيم في المنار المنيف(106):" حديث موضوع"، ومثله قال ملا علي قاري في الأسرار المرفوعة(103) وقال الزرقاني في مختصر المقاصد(15): باطل لا أصل له.

[5] – هذا الحديث قد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات: 3 / 142، وقال في موضع آخر" 3 / 381: لا يصح، وقال النووي في المجموع: 6 / 196:" وإسناده ضعيف" وقال بن تيمية في مجموع الفتاوى: 18 / 382:" ضعيف لا يثبت"، وذكره الحافظ الذهبي في ترتيب الموضوعات: 269، وذكر أن في سنده مبارك بن يزيد، وهو واهٍ، وشيخه مجهول، ولو صح فهو محمول على مسكين الطبع والتعامل، حيث حسنه لغيره بعض العلماء، مثل الشيخ الألباني في صحيح الترغيب: 3 / 133،

[6] – رواه الترمذي في سننه برقم 2353، وقال:" صحيح"، والنسائي في السنن الكبرى (11348)، وابن ماجه(4122)، وأحمد(7946).

[7] – رواه الحاكم في المستدرك، برقم 1987، وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".

[8] – سورة الضحى، رقم الآية 4

[9] – سورة المائدة رقم الآية 33

[10]  – سورة الفجر، الآيات 11 ـــ 14

[11] – سورة الأنعام، الآية رقم 45

[12] – سورة يوسف، الآية رقم:55

[13] – سورة آل عمران، رقم الآية: 164

[14] سورة سبأ، الآية رقم 24