قد يتبادر إلى الذهن منذ أول وهلة التساؤل حول أسباب اندفاع الشيخ القرضاوي نحو العناية بالاقتصاد الاسلامي والكتابة فيه ، وهو ليس خريج كليه لها صلة مابشرة بالاقتصاد مثل كليات التجارة والادارة والاقتصاد ، بل هو خريج كلية أصول الدين التي تولي عنايتها القصوى بالعقيدة وعلم الكلام ، وبالكتاب الكريم والسنة المطهرة؟
للاجابة عن هذا السؤال نقول :
أولاً ـ إن من يختار لأطروحته العلمية ورسالته للعالمية ( الدكتوراه ) أن يكون موضوعها وعنوانها ” فقه الزكاة ” ليتبين له الجواب بوضوح ، لأن الزكاة هي الركن الاقتصادي للاسلام ، فدراسة الزكاة من حيث آثارها الاجتماعية دراسة اقتصادية ، ودراسة الزكاة من حيث وعاؤها أو نصابها ، ونسبها ، دراسة اقتصادية ، ودراسة الزكاة من حيث قيام الدولة بتحصيلها وتجميعها ، ثم صرفها وتوزيعها على المستحقين : دراسة اقتصادية ، لأنها تتعلق بدور الدولة في الجباية والانفاق ، وإعادة التوزيع ، وكذلك دراسة الأموال التي تجب فيها الزكاة وشروطها ، وتحديد نصبها ، وأزمنتها وكيفيتها ، كل ذلك دراسة اقتصادية ، ودراسة الانفاق وآثاره على مختلف فئات المجتمع أغنياء وفقراء دراسة اقتصادية[1].
وثانياً ـ ان الشيخ القرضاوي تصدى للدعوة في مقتبل عمره ، وتبنى الفكر الشمولي الوسطي من خلال مدرسة الامام البنا رحمه الله ، وآمن بالاسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة ، وازداد ايماناً بانه صالح للتطبيق في كل زمان ومكان ، ثم بذل كل جهده للبرهنة على ذلك بالأدلة المعقولة والمنقولة ، ويؤلف عدة كتب في تهافت الحلول المستوردة ، وبينات الحل الاسلامي .
من كان هذا عقيدته ، وإيمانه ودعوته وجهاده وجهوده فلا شك أنه يحتاج إلى أن يوضح الجانب الاقتصادي في الاسلام ، ويثبت أن الاسلام فيه العلاج الشامل لكل جوانب الحياة ، وأن الاقتصاد هو من أهم هذه الجوانب المهمة على الاطلاق ، ولا سيما أن الدعوة الاسلامية منذ بداية القرن العشرين قد ابتليت بمن يسمون بالعلمانيين الذين يبذلون كل جهودهم لتجريد الاسلام من نظمه ، وحصره في دائرة ضيقة لا تتجاوز أسوار المساجد بمعناها الخاص .
فهؤلاء العلمانيون قد وجهوا سهامهم المسمومة إلى الاسلام واتهموه زوراً وبهتاناً بانه سبب تخلف الأمة وكبوتها ، وأنه على أحسن تقدير مجرد دين روحاني بين الانسان وربه دون أن يكون له واقع في الحياة .
وأمام هذه الهجمات الشرسة تصدى الشيخ للرد عليها بالبراهين والبينات ، وقام بالحوار والمناظرات فكتب في الجانب الاقتصادي ، موضحاً ومبيناً ومثبتاً العلاج للقضايا الاقتصادية ، والمشكلات المالية من صيدلية الاسلام .
وثالثاً ـ أن الصحوة الاسلامية التي ظهرت منذ السبعينات قد احتاجت إلى الترشيد والتوضيح وبيان الأحكام الشرعية لكل تصرفات الانسان في مختلف مجالات الحياة ، ولذلك كثر التساؤل حول القضايا الاقتصادية والمسائل المالية ، فكان من الطبيعي أن يتصدى الشيخ للاجابة عنها بشيء من التفصيل والتأصيل ، وقد يستدعي الأمر أن يكتب في بعضها بحثاً أو مؤلفاً خاصاً .
ورابعاً ـ بعد إنشاء البنوك الاسلامية في عام 1975 كثرت الهجمات عليها من قبل المتربصين بها والمناوئين لأصل فكرتها ، فحاولوا التشكيك في مصداقيتها ، وبيان أنها حيلة وأنه لا فرق بينها وبين البنوك الربوية ، حيث ركزوا على عقود المرابحة للآمر بالشراء ، وأنها مثل القرض بفائدة مع زيادة في التكاليف فتصدى الشيخ لهؤلاء المشككين بتفنيد حجتهم من خلال كتابه القيم ” بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الاسلامية ” .
والخلاصة أن من سنن الله تعالى أن ييسر كل شخص لما خلق له ، ولذلك كان القدر يدفعه نحو الجمع بين تخصص الكتاب والسنة ، والفقه العميق لهما ليتجه نحو الفقه الدقيق من خلال فقه الزكاة على ضوء الكتاب والسنة بدل أن يتجه نحو دراسات قرآنية في مجال القراءات وعلوم القرآن ، أو دراسات في الحديث حفظاً ومتناً وسنداً ، ودرسات فلسفية وكلامية حسب تخصصه الأولي .
فقد ساعده تخصصه الأكاديمي ورسالته الدكتوراه للوصول إلى منهج جامع بين الحديث سنداً ومتناً ودراية ورواية ، والفقه العميق الذي انفصلا لدى معظم الدارسين في أحد هذين الفرعين ( الفقه ، والحديث ) .
وهذا المنهج الجامع هو الذي ميز الكتاب حتى سماه بعض كبار العلماء ” كتاب العصر ” .
وأخيراً فإن الشيخ القرضاوي قد أجاب عن سبب اهتمامه بالجانب الاقتصادي فقال : ( إن اهتمامي بالاقتصاد الاسلامي جزء من اهتمامي بالشريعة الاسلامية ، والدعوة إلى تحكيمها في جميع مجالات الحياة ، وإحلال أحكامها ، محل القوانين الوضعية ، والأنظمة المستوردة ، وقد زاد اهتمامي بالاقتصاد الاسلامي ، منذ شرعت أبحث في الزكاة ( منذ بضع وثلاثين سنة ) وتبين لي أن فرض الزكاة وتحريم الربا يمثلان العمود الفقري للاقتصاد الاسلامي ، ولهذا كانت الأولى ( الزكاة ) من أركان الاسلام الخمسة ، وكان الثاني ( الربا ) من الموبقات السبع ، ولا غرو أن كانت الدعوة إلى تطهير الاقتصاد من الربا والمعاملات المحظورة ، وإقامة مصارف ( بنوك ) اسلامية تحل محل البنوك الربوية ، أمراً ضرورياً لاقامة الحياة الاسلامية المنشودة ، وهو فرع من دعوتنا إلى الاسلام كله )[2] .
([1]) د. يوسف ابراهيم : ورقته عن الجانب الاقتصادي في فكر الاستاذ الدكتور يوسف القرضاوي المنشورة ضمن كتاب القرضاوي ص963
([2]) أ.د. يوسف القرضاوي ، بيع المرابحة للآمر بالشراء ، كما ترجيه المصارف الاسلامية ، دار القلم ، الكويت ، ط2/1984م ، ص5