أولاً ـ معنى القوة في اللغة :

 القوة من ( قوى ) قال ابن سيده : القوة نقيض الضعف والجمع قُوى وقِوى ـ بضم القاف وكسرها ـ ويكون ذلك في البدن والعقل ، وذكر ابن منظور وغيره أن ( القوة ) هي الخصلة الواحدة من قوى الحبل ، وقيل هي : الطاقة الواحدة من طاقات الحبل ، أو الوتر ، ويقال : ليس أية قوة أي : أية طاقة [7] .

 

ثانياً ـ مواردها في القرآن الكريم والسنة ومعانيها :

  فقد تكررت لفظة ( القوة ) ومشتقاتها في القرآن الكريم 42 مرة ، أطلقت فيها على القوى المادية ، وأو القوى المعنوية ، وعلى مجموعها ، واستعرضت من خلالها مفاهيم الأمم السابقة حول القوة ، وناقشتهم في حصر معناها في القوة المادية سواء كانت القوة العسكرية ، أو القوى العمرانية ، أو التوسعية ، فردت عليهم بأن القوة الحقيقية هي القوة المعنوية والايمانية مع القوة المادية ، وأن العبرة بالقوة بنتائجها وغاياتها في إرضاء الله تعالى وتعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى ، كما أن القوة لا تنحصر في الدنيا ، بل هي لله تعالى في الدنيا والآخرة.

  فقوله تعالى : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ )[8] عناه بجد وعون من الله تعالى ، وقوله تعالى لموسى : (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ)[9] أي خذ الألواح بقوة في دينك وحجتك ، كما ناقش القرآن هؤلاء المغترين بقوة المال ، أو العمران ، أو الجند ، فمثلاً حينما اغتر قارون بقولته المالية والعلمية حيث كان له من الخزائن ما إن مفاتحيها لتنوء ، ويثقل حملها بجماعة أولي قوة ، فقال معتزاً بنفسه وعلمه (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)[10] ولكن قومه المؤمنين نصحوه بأن لا يغتر ولا يفسد ، بل يصلح بماله وعلمه آخرته ودنياه ، وأن يحسن ويعمر الأرض بالخير على ضوء منهج الله تعالى (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ  وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )[11] ولما لم ينفعه النصح بل زاده غروراً وأخذته العزة بالاثم ، قال تعالى في حقه : ( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ )[12] .

  إلى أن انتهى الأمر إلى أن الله تعالى خسف به وبداره الأرض دون أن يجد له ناصراً أو راداً لأمر الله تعالى .فهذه الآيات وغيرها تبين لنا بكل وضوح بان القوة ـ أيا كان نوعها ـ يجب أن توجه نحو اصلاح والاحسان وتعمير الكون ، وليس نحو التخريب والافساد ، كما أن القوة مهما بلغت فإن فوقها القوة القاهرة الغالبة التي لا يعرف لها حدود ، وهي قوة الله تعالى.

  ثم إن الآيات القرآنية تدل على أن القوة إن هي إلاّ وسيلة معتبرة بغاياتها ، ولذلك إذا حققت الخير وعمرت الكون على ضوء منهج الله فهي القوة المحبوبة المطلوبة في الاسلام ، وإلاّ فهي قوة جاهلية تفسد ولا تصلح ، وتخرب ولا تعمر ، وتنتهي بالموت والدمار كما نراها اليوم ، كما أن الآيات القرآنية تدل بكل وضوح على أن القوة في أيدي البشر أمانة ، واستخلاف من قبل الله تعالى ، لأن مالكها الحقيقي هو الله تعالى ، إذن فليس للإنسان الحق ومطلق الحرية في استعمالها حسبما يحلو له ويشتهي ، بل لا بد أن توجه لتحقيق الهدف المنشود في تحقيق السلم ، والأمن والأمان والاطمئنان للفرد والمجتمع والأمة ، بل أشارت الآيات إلى أن القوة إن هي إلاّ بمثابة سور خارجية للحماية ، وإلاّ فإن الاطمئنان الحقيقي أمر داخلي لا يتحقق بالقوة وحدها مهما بلغت ، وإنما يتحقق بالإيمان ، والذكر قال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[13] .

 ومن هنا يربط القرآن الكريم حتى إعداد القوة بهدف سام حيث يقول القرآن الكريم : (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم )[14] حيث نرى بنض الآية أن إعداد القوة ليس بهدف الاعتداء ، ولا لترهيب الآمنين المسالمين ، وإنما لإرهاب أعداء الله تعالى حتى لا يهاجموا المسلمين ، ولذلك إذا جنحوا للإسلام ، أو السلام فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ـ وبعده إمام المسلمين ـ مطالب بالجنوح إليه مهما كانت هناك مخاوف وتوجسات منهم ، فليتوكل على الله تعالى ، هذا بلا شك إذا لم يكن الأعداء قد اغتصبوا أراضينا وحقوقنا ـ مثل اليهود في فلسطين ـ وإلاّ فلا بدّ من رد الحقوق ثم نسالمهم على أن يعيشوا فيما بيننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا ـ كما أوضحتها السنة ، وكتب الفقه ـ .

  ثم إن علماء النفسير قد فسروا ( قوة ) في الآية الكريمة بعدة معاني لا مانع من إرادتها ، فقد فسرها بعضهم بالسلاح ، وبعضهم بالرمي ، وبعضهم باتفاق الكلمة والتصافي ، وبعضهم بالثقة بالله تعالى والرغبة إليه[15] ، وفي نظرنا ان لفظة ( قوة ) جاءت منكرة على تدل على مطلق الماهية تشمل كل ما يعتبر قوة ، ولا شك أن في مقدمتها الايمان القوي والثقة المطلقة بالله تعالى وحب الاستشهاد وعدم المبالاة بالموت ، ثم وحدة الكلمة ، وتوحيد الصف ، والاعتصام ، بحبل الله ،  ثم القوة المادية من سلاح ومعدات عسكرية واقتصادية ، وكل ما يعتبر قوة للفرد أو للجماعة ، يقول  ابن عطية : ( المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين) وذهب الطبري إلى عموم اللفظة ، وهو الصواب .. فالمحمول عليه ـ من الحيوان ـ والسلاح كله ، والملابس الباهية ، والآلات ، والنفقات كلها داخلة في القوة ، وأمر المسلمون بإعداد ما استطاعوا من ذلك … )[16] ويعول ابن العربي :     ( فأمر بإعداد القوى والآلة في فنون الحروب التي تكون لنا عدة ، وعليهم قوة ، ووعد على الصبر والتقوى بإمداد الملائكة العليا )[17] .

  وكذلك الأمر في السنة النبوية حيث تكررت لفظة ( القوة ) ومشتقاتها كثيراً وهي لا تخرج عن معانيها السابقة ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( أعوذ بعزة الله وقوته من شر ما أجد )[18] وقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن معك عدداً أو قوة على الحق )[19] .

ثالثاً ـ مفهوم القوة في الاصطلاح :

 يمكن أن نعرف بالقوة من خلال الأيدلوجيات التي تعالج القوة ، والتفسيرات التي تنطلق منها ، ومن هنا فيمكن أن نعرف بالقوة من خلال مدرستين :

المدرسة المادية بجميع شعبها سواء كانت ماركسية ، ام ليبرالية أو غير ذلك ، فهي جميعها تحصر القوة فيما هي في مقدور الإنسان ، وبالتالي تخرج عن نطاقها القوى الغيبية والروحية وما وراء  عالم الطبيعة .

وأما التفسير الاسلامي للقوى فهو كما رأينا لا يحصر القوة في هذا النطاق الضيق ولا يحبسها بين جدران الماديات ، وإنما لتشمل قوى هائلة ، وجنوداً لرب العالمين لا يعلم مداها إلا الله ، قال تعالى : (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ)[20] وقال تعالى : (وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا  )[21] وقال : (…إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا…)[22] .

 فعلى هذا فالقوة في نظر الإسلام هي كل الطاقات البشرية الممكنة المستمدة من الله تعالى ، والمستفادة من جميع ما في هذا الكون ، بالإضافة إلى القوى المعنوية والغيبية التي يؤيد الله تعالى بها عباده .

قانون السببية ( أو كيفية الحصول على القوة ) :

  ثم إن الله ربط هذه القوى بأسبابها ، فليس تحقيق القوة يأتي من فراغ ، وإنما تأت من ربط القوة المادية بالقدرة على التمكن في الأرض ، والإفادة من هذا الكون ، ولذلك يكرر الله تعالى هذه العلاقة ، وقانون السببية في القرآن الكريم كثيراً ، بل يشير إلى أن سبباً واحداً بعينه لا يعني الحصول على جميع المسببات ، بل لابدّ من البحث عن السبب الظاهري لكل شيء ، ولذلك يكرر الله تعالى لفظ ( سبباً ) في قصة تمكين ذي القرنين ثلاث مرات بلفظ النكرة للاستدلال على تنوع معانيه ، كما قال علماء البلاغة والتفسير[23] .

  فقد ذكر القرآن الكريم أن سبب تمكين ذي القرنين في الأرض هو أن الله وفقه للأخذ بالأسباب فقال تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا )[24] ثم ذكر بأنه اتجه نحو المغرب وأنه في هذا الاتجاه أخذ بالأسباب الخاصة الممكنة له ، كما ذكر أنه اتجه نحو المشرق ، فوفق أيضاً لأنه أخذ بالأسباب الممكنة التي تسهل له الوصول إلى ما أراده ، ثم ذكر القرآن الكريم أنه اتبع أسباباً جديدة في التصنيع وبنءا السد غير الأسباب التي اتبعها في وصوله إلى المشرق ، أو المغرب ، كما بين القرآن أنه اعتمد على القوى المادية ، والقوى المعنوية بل فضل الأخيرة على الأولى فقال : (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ)[25] .

  وكما أن القوة أن القوة المادية لها أسبابها الظاهرة مع ربطها عقيدياً بالله تعالى فكذلك القوى المعنوية الغيبية من عند الله تعالى لا تحصل للإنسان إلاّ مع أخذه بشروطها الأساسية ، وهي الإيمان والعبودية الخالصة لله تعالى : (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ)[26].

التوازن بين الأسباب الظاهرة ، والسبب الحقيقي :

 فقد ترسخ في ذهن المؤمن من خلال مبادئ دينه العظيم ربط المسببات بأسبابها الظاهرية دون إلغاء دور السبب الحقيقي ـ وهو الله تعالى ـ وهذا التوازن الغريب الذي حدث في العقل المسلم لم يسبق له مثيل ، وذلك لأن النظريات البشرية ـ في عمومها ـ إما أن تلغي دور البشر والأسباب الظاهرة ، أو تلغي دور الله تعالى لكن الإسلام أقر الاثنين ووضع لكل واحد منهما إطاره الحقيقي ، فقدرة الله في نظر عقل المسلم مطلقة لا غالب عليها ، ولكن الله تعالى وضع بحكمته سنناً وقوانين يسير الكون عليها ، ولو أراد إلغاءها فهو قادر على ذلك ، وأما قدرة الإنسان فهي داخل هذا الإطار الذي أتاحه الله له وأمره بأن يأخذ بهذه الأسباب والسنن حتى يصل إلى النتيجة ، فقال تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ )[27] إذن فالعمل من الإنسان ، والنتيجة مترتبة عليه سلباً وإيجاباً (جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[28] ولكن هذه القدرة البشرية أيضاً مخلوقة لله تعالى.

  والأخذ بالسببية التي قامت عليها الحضارة الحديثة مذهب إسلامي متميز طبقه المسلمون وبنوا عليه ـ حضارتهم بالإضافة إلى اعتمادهم الكلي على الله تعالى ، فقد كان هذا الكشف الإسلامي في ذلك الوقت والأخذ بشروطه المنهجية كسباً كبيراًَ للعقل البشري الذي تاه بين هاتين النظريتين المتطرفتين ، وإضافة قيمة مكنته من إعادة التشكيل في صيغ أكثر قدرة على العطاء والابداع .

  فقد استطاع القرآن الكريم أن يجتاز بالعقل المسلم مرحلة النظرة التبسيية ، المسطحة المفككة التي تعاين الأشياء والظواهر كما لو كانت مستقطعة معزولة منفصلاً بعضها عن بعض ، وتمكن من خلال التركيز على هذه السلبية ، أن يعيد تشكيل العقل المسلم على صيغة عقلية تركيبية تملك القدرة على الرؤية الاستشرافية التي تطل من فوق على حشود الظواهر بحثاً عن العلائق والاتباطات ، ووصولاً إلى الحقيقة المرتجاة ، بل إن إحدى طرائق القرآن المنبثة عبر سوره ومقاطعه من أقصاها إلى أقصاها هي التأكيد على ضرورة اعتماد هذه الرؤية السببية للظواهر والأشياء من أجل الوصول إلى معجزة الخلق ووحدانية الخالق … ومن خلال هذا التأكيد .. أصبح العقل المسلم في رؤية كهذه ضرورة من الضرورات … وغدا الكون والعالم والطبيعة والوجود في مقابل هذا سلسلة من الظواهر والمعطيات يرتبط بعضها ببعض بأوثق الأسباب[29] .

أنواع القوة وعناصرها :

 حينما تذكر القوة ـ ولا سيما مع مقارنتها بالاسلام أو إضافتها ـ فإنه يتبادر الذهن إلى القوة العسكرية وبالأخص الجهاد والقتال في سبيل الله مع أن القوة في الإسلام أشمل من ذلك بكثير ، وأن وسائل نشر الإسلام لا تنحصر فيه ، بل وما الجهاد إلاّ إحدى الوسائل الأساسية لإزالة العقبات في سبيل نشر الدعوة .

  فإذا كانت القوى لدى المدرسة المادية والليبرالية تكمن في قوة العلم ، والسياسة ، والعدة العسكرية ، والتكنولوجيا المتقدمة ، والتوسع ونحو ذلك فإن القوة في الإسلام يضاف إليها مع ما سبق ، القوة المعنوية والفكرية ، والقوة الروحية ، والأخلاقية ، ومن هنا يمكننا أن نذكر ضمن أنواع القوى ما يأتي :

1- قوة الايمان والفكر ، ووحدة الصف والتوجه :

 وهذا بلا شك من أقوى أنواع القوة ، إذ بدون إيمان برسالة ما ، وبدون فكر واضح مستنير لا يمكن لأية أمة أن تتحرك أو تنهض ، فالمحركات الأساسية لتحريك الشعوب هي الايمان ، وإلاّ تبقى بدون دافع قوي يحرك كيف يكون الاقدام ؟ وأنى تقدم التضحيات والقرابين ؟ فالإنسان مستعد في سبيلعقيدته الحقة أن يضحي بنفسه ، وماله ، وولده ، بل يتم الإيمان إلاّ إذا أحب الله ورسوله أكثر من نفسه ، وولده وماله ـ كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة ـ ومن هنا فالقوة في نظر الاسلام تفقد قيمتها إذا لم تكن مرتبطة بالعقيدة ، وهي مصدر القوة والصبر والثبات ، فقد استطاعت القلة المستضعفة في مكة أن تصمد بعقيدتها ثلاثة عشر عاماً في مواجهة أعتى الطغاة يسومونهم سوء العذاب ، ويسلطون على أجساد هؤلاء المستضعفين سياط الوحشية والهمجية ، بل مزقوا أجساد بعضهم ، فما زادهم إلاّ قوة وصبراً ، ثم واجهت هذه الفئة القليلة المؤمنة جحافل الكفر والبغي ، وانتصرت عليهم بسبب تسلحها بهذه العقيدة الحقة التي وجهتها أيضاً نحو الأخذ بجميع الأسباب المتاحة ، حتى استطاعت أن تسقط امبراطوريتين في آن واحد ، وفي أقصر زمن[30] .

  ولو ألقين نظرة على مسيةر الدعوة الإسلامية ونضالها الطويل ، لما رأينا أنها اعتمدت فيها مرة واحدة على القوة المادية وحدها ، فبدءاً من معركة بدر إلى معارك اليرموك والقادسية ، وحطين ، وعين جالوت ، كانت تعتمد أساساً على قوة العقيدة مع القوى المادية المتاحة لها ، وان الانتصارات الإسلامية دائماً كانت في ظل العقيدة القوية ، كما كانت هزائمنا دائماً عند التخلي عن منهجها ، والقرآن الكريم يشير إلى ذلك بوضوح حيث يذكر أن الرعيل الأول نالهم من الهزيمة بسبب إعجابهم بكثرتهم فيقول تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)[31] .

  فقد كانت قوة العقيدة هي التي جعلت المؤمن المجاهد لا يخاف الموت ، ولا يبالي على أي جنب كان لله مصرعه ، ومن هنا لا يعرف الفرار ولا التولي يوم الزحف ، وهي التي تدفع مثل حمزة بن عبدالمطلب يقود سرية من ثلاثين رجلاً لملاقاة ثلاثمائة شخص من قريش ، وان تهزم حوالي ثلاثمائة مؤمن جيش كفر قوامه ألف في بدر ، وهكذا …. فتأريخنا حافل بهذه الأمثال ، وكذلك العكس ، حيث حينما يدبأ ضعف في صفوف المسلمين تحدث الهزيمة ، فقد احتل الصليبيون القدس الشريف في 482هـ نظراً للفرقة والنزاع ووجود خلافتين : الخلافة العباسية في بغداد ، والخلافة الفاطمية الزائفة في مصر ، ولما عاد المسلمون إلى دينهم ووحدوا صفوفهم بقيادة صلاح الدين الأيوبي الكردي ، انتصروا على الصليبيين ، وكذلك الأمر في العصر الحديث حيث استطاع اليهود وقوى الاستعمار أن تحتل قبل العروبة والاسلام ، والأرض المباركة ، وقبلتنا الأولى ، وثالث الحرمين الشريفين ، وذلك بسبب بعدنا عن الإسلام ، وعدم اعتصامنا بحبل الله المتين ، وبسبب تفرقنا وتمزقنا ، وانتشار التيارات والايدلوجيات المختلفة فينا ، وبالتالي عدم وقوفنا صفاً واحداً كما أمرنا الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)[32] (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[33] .

 وحينما بدأت الصحوة الاسلامية ، وانتشرت الروح الاسلامية في فلسطين مرة أخرى بدأت الانتفاضة التي انطلقت من المساجد حتى سميت في بدايتها بثورة المساجد فهزت كيان العدو ، وزعزعت مخططاته .

  والقضية الأفغانية خير دليل على ذلك ، فقد وقف شعب أعزل إلاّ من إيمانه وعقيدته أمام أكبر قوة وأعتاها ، فرفعوا شعار الاسلام ، ونادوا بالجهاد ، وقاتلوا بأبسط أنواع الأسلحة المتخلفة ، وصمدوا بعقيدتهم تسع سنوات حتى أجبروا القوات الروسية الغازية بقبول الانسحاب ، وان يعترف جورباتشوف بان أكبر المشاكل التي تواجه الاتحاد السوفيتي هي مشكلة أفغانستان ، والأمثلة على ذلك كثيرة .

  وقد شاهدنا أيضاً انتصارات المجاهدين الشيشان عام 1996 على ثاني أكبر قوة في العالم ( وهي روسيا ) حيث هزمتها شر هزيمة مع أن الشيشان بلد صغير وأهله كانوا أعزل مجردين إلاّ من العقيدة والايمان ، والأخذ بأسباب المتاحة لهم .

  ولا تزال القوة المعنوية وقوة الفكر الموجه تمثل نسبة لا تقل عن 50% من معنويات الجيش المحارب ، وقدرته على الانتصار ، بل إن الانصارات العسكرية والاقتصادية إن هي إلا انعكاس لقوة الفكر يقول خورشوف : ( إن النجاح الاقتصادي هو أقوى مقياس لسلامة الأفكار )[34] غير ان نجاح اقتصاده لم يدم حيث تراكمت مشاكله على رأس جورباتشوف ـ كما نرى ـ ويقول جورج كينان ، الدبلوماسي الأمريكي في كتابه : روسيا والذرة والغرب : ( لم يعد السلاح او عائدات البترول بكافيين في تدعيم نفوذ أحد المعسكرين على الآخر ، وتجريح كفة أحدهما على الأخرى ، وإنما هي الأفكار وحدها)[35].

  ومنا هنا لا يقبل منا القرآن صفوفاً مختالفة ، وإنما لا بدّ أن نكون صفاً واحداً موجهاً (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)[36] فلم يستعمل القرآن حتى توحيد الصفوف ، وإنما الصف الواحد بعقيدته القوية واتجاهه الواحد في الظاهر والباطن ، من حيث التوجه إلى قبلة واحدة ، ورب واحد ، فقد أثبت العلم الحديث أن التوجه الواحد يؤثر حتى في عالم الجماد ، ويمثل لذلك بالمغناطيس حيث هو حديد لكنه نتيجة عملية صهر خاص وتنظيم شعيراته الموجبة نحو اتجاه واحد ، وشعيراته السالبة نحو اتجاه واحد ، أصبح قادراً على أن يجذب ويسحب ويصبح متبوعاً لا تابعاً ، ولذلك علق على ذلك المرحوم الرافعي في ” وحي القلم ” بأن هذا التنظيم والتوجه الواحد إذا كان مؤثراً في عالم الجماد فكيف لا يؤثر في المجتمع الانساني ، إذن فالمجتمع القوي المتماسك هو القوي بوحدة عقيدته وشعاراته وتوجهاته ، يقول الإمام البنا : ( إن أول درجة من درجات القوى : قوة العقيدة والإيمان ، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط ، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح ، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعاً ، وإنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام ، أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك )[37] .

2- القوة المادية :

 وهي القوة العسكرية والبشرية والعلمية والسياسية والاقتصادية ، وبإيجاز تسخير كل ما يمكن تسخيره في هذا الكون لأجل معركة المصير والبقاء ، أو النهوض والارتقاء ، أو على حسب قواعد الإسلام لتعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى ، فهذه القوى المادية لا يغفلها الإسلام ، بل أمر المسلمين بالإفادة ليست من الأرض فحسب ، وإنما من جميع ما في السموات والأرض ، كما دلت على ذلك الآيات قرآنية كثيرة منها قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ )[38]  ثم فصل فقال : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ)[39]  .

  وفي نظر الفقهاء المسلمين أن العلم بكيفية الإفادة من هذه الطاقات الهائلة واستخراجها لخدمة المسلمين ، وتعمير الكون من فروض الكفايات كما صرح بذلك الغزالي وغيره[40] .

  وعناية الاسلام بالعلم المادي والتكليفي الشرعي فاقت كل التصورات حيث تنزل أول آية في القرآن الكريم تحمل بين طياتها الأمر بالقراءة والعلم ، وتسمى بسورة ( اقرأ ) ويقدم كل القرآن الكريم العلم بالشهادة قبل الشهادة نفسها (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )[41] وذلك لأن العقيدة في نظر الإسلام لا تكون عن جهل ولا عن تقليد ، ثم تأتي الآيات القرآنية ـ على الرغم من أن القرآن كتاب هداية ـ لتذكر كثيراًً من العلوم والصناعات والإعجازات العلمية ، وتسمى إحدى سورها بالحديد ، وتبين بأنه كما أن القرآن منزل من السماء فكذلك الحديد (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ )[42] ، كما تسمى إحدى السور بأصل نشاة الكون وهو : الدخان إضافة إلى : النجم والقمر ، والشمس والقلم ، والتكوير ، والانفطار ، والانشقاق ، والبروج ، والفجر ، والليل والضحى ، وغيرها ، ولا يسع المقام لبيان مدى هذه العناية الإسلامية بالعلم والصناعات قبل أن تعرف أوروبا أبجدية العلوم[43] .

   بالإضافة إلى هذه القوى المعنوية والفكرية ، والمادية فإن المسلم ينظر نظرة واسعة جداً إلى قوة الله تعالى القوي القادر القاهر الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له ( كُنْ فَيَكُونُ)[44] ، فلا راد لقضائه ، ولا مانع لعطائه ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )[45] ومع أن المؤمن يأخذ بجميع أسباب القوة لكنه مع ذلك قلبه مع الله ، وبصره إلى السماء يستمد النصر من عنده ، فيتضرع ويدعو حتى يأتيه المدد من لدنه ، وينزل عليه سكينته ونصره المبين فقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بترتيب جيشه ، والإفادة من مشورة أصحابه حتى من حيث الموقع حيث أخذ الموقع الاستراتيجي ، ووضع الماء وراءه حتى يحرم العدو منه ، وجعل اتجاه العدو في مقابل الشمس إلى غير ذلك من الوسائل الممكنة المتاحة ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لم يغفلوا طرفة عين عن ذكر الله بقلوبهم ، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده نحو السماء يدعو ويبكي ويتضرع ، فقد روى مسلم وأحمد بسندهما عن عمر قال : ( لما كان يوم بدر ، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً ، فاستقبل نبي الله القبلة ، ثم مدّ يديه فجعل يهتف ربه : ( اللهم انجز لي ما وعدتني ، اللهم آت ما وعدتني ، الله إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه …. فأنزل الله عزوجل : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)[46] فأمده الله بالملائكة)[47] .

  ومن هنا فالقوى المتاحة لدى المسلمين لم تتوافر لغيرهم فهي قوى متعددة شاملة متكاملة ، وقد تنبه أعداء الإسلام إلى هذه القوى ، فحاولوا إضعافها ، بل القضاء عليها بشتى الأساليب ، فقد حاول اليهود منذ وقت مبكر إضعفا هذه القوى ولا سيما القوى المعنوية ـ بشتى أنواعها ـ حيث حاولوا التشكيك في قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقدوته من خلال تشكيك زواجه بزينب وإثارة الشبهات حول هذا الزواج ، ثم محاولتهم بالاتفاق مع المنافقين لاثارة النعرات الجاهلية بين الأوس والخزرج ، وبين المهاجرين والأنصار في غزة بني المصطلق ، ثم إضغال القيادة وأهل بيت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من خلال حادثة الافك العظيم والبهتان الكبير لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، لكن إيمان المسلمين القوي ، والتفافهم حول قيادتهم الحكيمة ، وتنبيه الوحي المستمر وتذكيره إياهم كل ذلك حال دون إنجاح هذه المؤامرات البغيضة[48] .

  وكذلك الصليبيون حينما فشلوا في الحروب الصليبية وصلوا بعد تجارب مريرة إلى أن قوة المسلمين في عقيدتهم وفكرهم ، وهذا ما وصى به لويس التاسع بعد ثلاثين سنة من قيادة بعض الجيوش الصليبية ، وأسره على أيدي المسلمين في المنصورة ، فقد وصلوا إلى أن أنجح الغزوات هو : الغزو الفكري والثقافي في الداخل الذي زعزع عقائد الكثيرين ، الذين انبهروا بالغرب ، وتخلوا عن كثير من مبادئهم ، والذي أدى إلى احتلال معظم الدول الإسلامية ، وتمزيقها ، وإسقاط الخلافة العثمانية ، وتكوين دولة اليهود على أقدس أراضينا .

  ولا يزال الكتاب والمؤلفون الغربيون يكتبون عن الإسلام فيظهرون قواه المتعددة ويكشفون عناصرها الخطيرة ليبصروا بها شعوبهم ويخوفونهم بها ، فهم يعلمون علم اليقين على أن المسلمين إذا عادوا إلى هذه القوى المعنوية والمادية المتوفرة لديهم واستغلوها على الوجه الأكمل لما كان هناك قوة على وجه كوكبنا هذا أن تتفوق عليها ، وتتغلب عليها ، فقد أكد الكثيرون منهم ـ ولا سيما المؤرخون ـ على أن الإسلام قادر مرة أخرى أن يعود كقوة فعالة غالبة ، بل إن بعضهم أكد على قدرته على إسقاط الدولتين الكبيرتين غنعاد المسلمون إليه ، وذلك مين على النظرية العلمية القائمة على أن ما وقع مرة لا يستبعد على يقع مرة أخرى ، وقد أصبحت هذه المخاوف لدى قادتهم ومثقفيهم يحسب لها الحساب ، ويؤلف فيها الكتب ، وتعقد لأجلها المؤتمرات ، والندوات ، فقد عقدت خلال الأعوام الأخيرة ( أي منذ الخمسينات ) حوالي 1600 ندوة تحت اشراف المخابرات الأمريكية فقط كلها لبحث المخاطر الكامنة لهذه الصحوة الإسلامية[49] كما ألفت عدة مؤلفات علمية دقيقة لتصوير عناصر قوى التي تمكنه من بناء قوة عالمية ، منها كتاب : ( الإسلام قوة الغد العالمية ) حيث استهدف مؤلفه تبصير بني قومه بتلك العناصر ، كي يخططوا لاضعافها إن أرادوا جماية أنفسهم من الإسلام ، حيث يرى مؤلفه ( باول شمستز ) أن المسلمين يملكون من مصادر القوة ما لا يملكه اتباع دين آخر على وجه الأرض ، منها :

أولاً ـ يسكنون منطقة جغرافية تتحكم في العالم كله .

ثانياً ـ إن لديهم خصوبة بشرية تمكنهم من التفوق على غيرهم إن هم أحسنوا إعدادها وتوجيهها ، فقال : ( تشير ظاهرة نمو السكان في أقطار الشرق الاسلامي إلى احتمال وقوع هزة في ميزان القوى بين الشرق والغرب ، فقد دلت الدراسات على أن دلى سكان هذه المنطقة خصوبة بشرية تفوق نسبتها ما لدى الشعوب الأوروبية ، وسوف تمكن الزيادة في الانتاج البشري الشرق على نقل السلطة في مدة  لا تتجاوز بضعة عقود … ) ثم يمضي الكاتب في تصوير مخاطر زيادة عدد المسلمين على الغرب قائلاً : ( نورد هنا مثالاً يعطي القارئ صورة صادقة لاتجاهات مؤشر الاحصاء السكاني ذلك المثال هو مصر ، لأن مصر لديها أعلى نسبة مواليد بين شعوب العالم الاسلامي ) كما ذكر عدة إحصائيات بدءاً من عام 1887م إلى 1937م استنتج منها استمرار الزيادة بشكل مطرد ، فقال : ( إذا استمر معدل هذه الزيادة في الاضطراد سيبلغ بعد 60 عاماً حوالي 32 مليوناً ، وبعد مائة سنة سيزداد سكان وادي النيل ـ أي مصر ـ إلى 49.6 مليون نسمة ، وبعد 300 سنة حوالي 500 مليون ، وبعد 425 سنة حوالي 2 مليار ، وفي مدى 968 سنة 973 ملياراً من البشر )[50] ولو عاش ( باول ) إلى اليوم ورأي أن شعب مصر خلال خمسين سنة ( أي من 1937-1988) بلغ عددهم أكثر من خمسين مليوناً مع كل المحاولات المبذولة لتحديد النسل ماذا كان يقول خوفاً وانبهاراً ؟! .

  وقد ذكر باول أن بقية الدول الإسلامية كتركيا ، وفلسطين ، والمفرب العربي تصارع مصر ، وان الخصوبة البشرية لدى العرب أكبر من الخصوبة لدى اليهود بمرتين ونصف ، وأن عدد المواليد اليهود انخفض بنسبة 10% في حين أنها ارتفعت لدى العرب بنسبة 4% ومن هنا فلو توقفت هجرة اليهود لأصبحت هذه الخصوبة العربية عقبة كاداة على طريق آمال الصهيونية ، وكذلك تظهر الدراسات ان نسبة الخصوبة البشرية لدى المسلمين الجزائريين تفوق ما لدى الأوروبيين واليهود القاطنين في الجزائر أيضاً بنسبة أربع مرات تقريباً[51] .

  وقد تنبه الغرب لمخاطر قلة الانجاب محاولاً تداركها ، فقد رصدت فرنسا ـ على سبيل المثال ـ في عام 1986 أكثر من 15 مليار فرنك فرنسي لتشجيع الانجاب ، كل ذلك يدل على المخاطر التي نحن ـ المسلمين ـ نستجيب لها أما الضغوط الغربية لتحديد النسل ، أو تنظيمه ، وهي ليست لمصلحتنا ، يقول باول : ( ولا ينبغي أن ينسى أن الداعين إلىالأخذ بأسباب نمو القوة البشرية ـ عن طريق تشجيع النسل ـ يزيدون يوماً بعد يوم ، وان تفوق أوروبا في التكنولوجيا على الشرق ينقص عاماً بعد عام ، لأن الشعوب الإسلامية اتجهت إلى تطوير نفسها ، وبناء حضارتها الحديثة .. وتكرس جهودها اليوم لزيادة انتاجها ،