التعريف بالجهاد لغة وشرعاً :

الجهاد لغة : مصدر جاهد يجاهد ، قال ابن منظور : الجهاد محاربة الأعداء وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من ، أو فعل[64] .

وأصله من الجَهد[65] بمعنى بذل كل ما في وسع الإنسان للوصول إلى غاية سواء كان هذا البذل قولاً أو فعلاً ، أو بعبارة أخرى : سواء كان جسمياً أو عقلياً [66] .

من هذه الكلمة اشتقت كلمة الاجتهاد التي يعنى بها استفراغ الفقيه جهده في الأدلة الشرعية ودلالتها ومناطها للوصول إلى حكم شرعي ، قال الغزالي : ( الاجتهاد عبارة عن بذل المجهود ، واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال ، ولا يستعمل إلاّ فيما فيه كلفة وجهد ، وفي عرف العلماء مخصوص ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة)[67].

وقد جاء التفقه ، وتعلم الأحكام الشرعية مصاحباً للقتال في قوله تعالى : (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[68] .

وقد اختلف المفسرون في سبب نزولها ، فقال بعضهم : إن المؤمنين لما سمعوا آيات الأمر بالنفير العام ، وتشجيع أهل البادية للجهاد نفروا إلى المدينة جميعاً ، فنزلت هذه الآية مبينة : أن لا ينبغي أن ينفروا جميعاً ، وإنما يبقى فريق مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتفقهوا في الدين ليرجعوا للدعوة ، ثم يأتي فريق آخر ، وقال آخرون : يكون التفقه في الغزو في السرايا لما يرون من نصرة الله لدينه ، ولما يحتاجون إليه أثناء الجهاد والحركة ، حيث يتكشف لهم أسرار الدين من خلال الجهاد ، وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته في أثناء الحركة به ، فقوام هذا الدين هو العمل ، والنزول إلى ساحة الحركة ، والاندماج العملي معه ، ففقه هذا الدين لا ينبثق إلاّ في أرض الحركة والعمل ، ولذلك فدراسة الكتب دراسة جادة بعيدة عن الواقع لا يجعل صاحبها فقيهاً [69] .

وأياً ما كان فهذه الآية تدل دلالة واضحة على مدى أهمية الفقه مع الجهاد ، ولذلك كان لفظ ( الجهد ) يشملهما .

وقد تكرر لفظ ( الجهد ) ومشتقاته في القرآن الكريم 41 مرة تدور حول هذه المعاني السابقة ، فجاء أكثرها بمعنى القتال في سبيل الله ، وبعضها بمعنى بذل الوسع والطاقة ، فمن الأول قوله تعالى : (انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )[70] وقوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا )[71] ، وبمعنى الثاني قوله تعالى : (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا )[72] ، وقوله تعالى : (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا )[73] قال ابن تيمية : ( وإنما جاهدهم باللسان والبيان ، لأن هذه الآية نزلت في مكة )[74] .

وكذلك الأمر في السنة المشرفة حيث استعمل ( الجهاد ) في القتال في سبيل الله مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( تكفل الله تعالى لمن جاهد في سبيله … بأن يدخله الجنة )[75] وبمعنى غير القتال مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما أمير يلي أمر المسلمين ، ثم لا يجهد لهم ولا ينصح إلاّ لم يدخل الجنة )[76] كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحج  بالجهاد ، فقال : ( الحج جهاد كل ضعيف )[77] .

ومن هنا يمكننا القول بأن الجهاد هو استفراغ الطاقة لنشر الاسلام ، والدفاع عنه ولازهاق الباطل ودفع الشر والفساد بكل الوسائل المتاحة : النفس ، والمال ، واللسان ، وجميع وسائل البيان والدفاع .

 

أنواع الجهاد ومراتبه :

لوتعمقنا في نصوص الشريعة ومبادئها ، وقواعدها العامة لوجدنا أن لفظ ( الجهاد ) لا ينحصر في القتال في سبيل الله ، بل هو شامل له ولغيره من كل ما فيه من بذل ومشقة موجهة ضد الأعداء ما دام في سبيل الله ، فإذا كان الأعداء في نظر الإسلام لا ينحصرون في الناس الكفرة ، فكذلك الجهاد لا يكون محصوراً في قتالهم ، بل هو يشمل جهاد الشيطان ، والنفس ، وسواء كان هذا الجهاد بالمال أو بالنفس ، أو بالعلم والحجة والبرهان ، والقلم والبنان ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( لكن الجهاد المكي بالعلم والبيان ، والجهاد المدني مع المكي باليد والحديد )[78] .

والحق أن كل هذه الأنواع مطلوبة ، بل هي في الواقع مراتب تبدأ المرحلة الأولى بجهاد النفس ، وتنتهي بقتال الكفرة والمنافقين ، ولذلك يعرفه ابن تيمية بقوله : (الجهاد : حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله  من الإيمان والعمل والصالح ، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان )[79] .

ويقول ابن القيم : ( واختلفت عبارات السلف في حق الجهاد فقال ابن عباس : هو استفراغ الطاقة فيه وألا يخاف في الله لومة لائم . وقال مقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته . وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى . ولم يصب من قال إن الآيتين منسوختان لظنه أنهما تضمنتا الأمر بما لا يطاق وحق تقاته وحق جهاده هو ما يطيقه كل عبد في نفسه وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز والعلم والجهل . فحق التقوى وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء )[80] ويقول أيضاً : ( لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة كما لهم الرفعة في الدنيا فهم الأعلون في الدنيا والآخرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه واستولى على أنواعه كلها فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده . ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا وأعظمهم عند الله قدرا .

وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه وقال (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا )[81] فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )[82] فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل والقائمون به أفراد في العالم والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددا فهم الأعظمون عند الله قدرا )[83] .

وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة الحق عند السلطان الجائر من أعظم الجهاد ، وأن الشهيد بسببها من أعظم الشهداء ، حيث قال : ( إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ) وفي بعض الروايات : ( أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ) وفي بعض الروايات ( …. كلمة حق )[84] وقال صلى الله عليه وسلم : ( سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ، ونهاه ، فقتله )[85] .

ويقول ابن القيم : (  ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه )[86] كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج وأصلا له فإنه ما لم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج ، فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله ويرجف به ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ وفوت اللذات والمشتهيات ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده فكان جهاده هو الأصل لجهادهما وهو الشيطان قال تعالى : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا )[87] والأمر باتخاذه عدوا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته كأنه عدو لا يفتر ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس .

فهذه ثلاثة أعداء أمر العبد بمحاربتها وجهادها وقد بلي بمحاربتها في هذه الدار وسلطت عليه امتحانا من الله له وابتلاء فأعطى الله العبد مددا وعدة وأعوانا وسلاحا لهذا الجهاد وأعطى أعداءه مددا وعدة وأعوانا وسلاحا وبلا أحد الفريقين بالآخر وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم ويمتحن من يتولاه ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه ……… فأعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقوى وأنزل عليهم كتبه وأرسل إليهم رسله وأمدهم بملائكته …….وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوهم ولولا دفاعه عنهم لتخطفهم عدوهم واجتاحهم ، وهذه المدافعة عنهم بحسب إيمانهم وعلى قدره فإن قوي الإيمان قويت المدافعة فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر فحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله فيكون كله لله وبالله لا لنفسه ولا بنفسه ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده ومعصية أمره وارتكاب نهيه فإنه يعد الأماني ويمني الغرور ويعد الفقر ويأمر بالفحشاء وينهى عن التقى والهدى والعفة والصبر وأخلاق الإيمان كلها فجاهده بتكذيب وعده ومعصية أمره فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان وعدة يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله لتكون كلمة الله هي العليا)[88] .

وقد لخص  العلامة ابن القيم مراتب الجهاد تلخيصاً رائعاً نذكره هنا ، لأهميته ، فقال : ( إذا عرف هذا فالجهاد أربع مراتب جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين .

فجهاد النفس أربع مراتب أيضا :

إحداها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين .

الثانية : أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها .

الثالثة : أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله .

الرابعة : أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله . فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات .

وأما جهاد الشيطان فمرتبتان إحداهما : جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان .

الثانية جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات فالجهاد الأول يكون بعده اليقين والثاني يكون بعده الصبر . قال تعالى : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون )[89]  فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة واليقين يدفع الشكوك والشبهات .

وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب بالقلب واللسان والمال والنفس وجهاد الكفار أخص باليد وجهاد المنافقين أخص باللسان .

وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب الأولى : باليد إذا قدر فإن عجز انتقل إلى اللسان فإن عجز جاهد بقلبه فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد و ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق )[90] .

ويمكن كذلك أن نقسم الجهاد الذي خاضه الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلى : جهاد بالحجة والبرهان في نطاق العقيدة والعادات والتقاليد والأساطير والأوهام ، والذي كان من أعنف المعارك قال تعالى : (وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ )[91] حيث جاء الإسلام بعقيدة حقة بعيدة عن عقائدهم الباطلة وبمبادئ في العبادة والسلوك والعلاقة بين الناس ، والمساواة بينهم كانت تختلف تماماً عما ترسخ في أذهانهم ، وطبقوها على أنفسهم .

وكانت أسلحة المشركين ضد هذا الجهاد قوية من حيث العدد والعدة ، فقد كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يواجههم وحده ، ثم بدأ ينتشر الإسلام رويداً رويداً ، وقد استعملوا ضده سلاح الدعاية ، ولا سيما فهم قوم معروفون بالبيان ، والشعر ، ومجتمع مترف فارغ يحافظ على جلساته الرتيبة المنظمة حول الكعبة كل يوم[92] إضافة إلى ما كانت لديهم من نوادي شعرية تجمع الشعراء ، وما ترد إليهم من وفود لأداء الحج والعمرة .

ولم تكتف قريش بسلاح الدعاية الضخمة ، بل استعملت سلاح المساومة والتعذيب الوحشي ، والإهانة النفسية بشكل منقطع النظير ، ثم سلاح الحصار الاقتصادي ، والمقاطعة لكل من دخل هذا الدين الجديد مقاطعة شاملة ، وقد تعب المسلمون جراءها لكنهم صبروا على ذلك ، وساعدهم على ذلك إيمانهم القوي ، ونزل القرآن الدائم الذي ينزل كبلسم شاف يشفي الجراح ، إضافة إلى شخصية الرسول الكريم وقدوته الرائعة .

وبالإضافة إلى هذا النوع من الجهاد فقد كان جهاد التربية ـ الذي كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يشرف عليها بنفسه ليغرس في قلوب الرعيل الأول الإسلام الحقيقي بشكل دقيق ـ من أعظم أنواع الجهاد ، فقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدور العظيم الذي به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )[93] أي أن هذه الأمة لم تظهر بهذه القوة التي أسقطت امبراطوريتين فجأة دون تكوين وإعداد ، وإنما أخرجت إخراجاً ، أي صرفت جهود كبيرة إضافة إلى عناية الله تعالى حتى أعدت هذا الإعداد ، وأخرجت هذا الإخراج ، فقد رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم فرداً فرداً ، رباعهم بالقول والفعل والتطبيق والأسوة الحسنة على الإيمان القوي كالطود الشامخ ، وعلى أن يدخلوا في الإسلام وقد تركوا كل ما في الجاهلية وراءهم ظهرياً ، حتى تصبح قلوبهم خالية من كل شبهة ، او ريبة ، فتكون كالقصعة البيضاء ، ثم تملأ بالعقيدة الحقة والمبادئ الإسلامية ، فأعاد إليهم فطرهم السليمة ، فربى عقولهم ، ووجدانهم ، وسلوكهم ، وأفكارهم ولم يكتف فيها بالعموميات ، وإنما يغرس الجزئيات ومتابعتها متباعة الزراع لزرعه : ( كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ )[94] .

وأما الجهاد في العهد المدني فقد أخذ ـ بالإضافة إلى جهاد العقيدة والتربية والدعوة ـ شكل تنظيم المجتمع ، والقتال في سبيل الله لمن قاتلهم أولاً ، ثم لما مكنوا في الأرض أمروا بالقتال لأجل نشر العقيدة ودفع دابر الفتنة حتى يكون الدين كله لله تعالى ، ويطبق على المجتمع[95] .

ومن خلال هذا العرض السريع يمكننا القول بان شمولية الجهاد منبثقة من شمولية الإسلام نفسه ، ولذلك نرى أن الهجرة التي كانت خاصة بمن هاجر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة لم تعد على هذه الخصوصية حيث عممها الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه فقال : ( …… والمهاجرون من هجر ما نهى الله عنه ) بل قال : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية )[96] .

وكذلك الشهيد في نظر الإسلام لا يقتصر على من قتل في أثناء المعركة ، وإنما يشمل حالات أخرى ، كما وردت بذلك أحاديث صحيحة ، حتى ألف فيها الحافظ السيوطي رسالة سماها : ( أبواب السعادة في أسباب الشهادة )[97] ، فذكر أكثر من ثلاثين نوعاً منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :        ( الشهداء خمسة : المبطون ، والمطعون ، والغريق ، وصاحب الهدم ، والشهيد في سبيل الله )[98] وهذا العدد ليس له مفهوم فهم أكثر من خمسة ، فقد ذكر النبي صلى الله عليم وسلم أن : ( من قتل دون ماله فهو شهيد )[99] .

ومع هذه الاطلاقات فإنه مما لا شك فيه أن الجهاد بمعنى القتال في سبيل الله أفضل أنواعه ، وأن الشهيد بمعنى المقتول في سبيل الله أفضل الشهداء وأعظمهم أجراً ، ولذلك له أحكامه الخاصة من حيث الغسل والصلام عليه ، ولا توجد لغيره ، وكذلك المهاجر بمعنى المهاجر الذي هاجر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الفتح أعظم أجراً ممن يطلق عليه اسم المهاجر ، فقد قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[100] وغير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على فضل هؤلاء الكبير .

ونحن في هذا البحث نلقي كثيراً من الضوء على الجهاد بمعناه الأخص ، وسبب اختياره ، وهو القتال في سبيل الله ، فنذكر حكمه ، وتقسيماته وما يدور في فلكه بإذن الله.

 

لماذا اختير هذا الاسم ؟

جرت عادة الافرنج في تسميتهم غزواتهم بالحرب المقدسة ، في حين أن الله تعالى قد سمى كفاح المسلمين في هذا المجال بالجهاد ، وذلك لأن لفظة الحرب (War) كانت ولا تزال تطلق على القتال الذي نشب لهيبه بين الأفراد والأحزاب والجماعات والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية ، أو  استكبارية ، فاختير للحرب التي تكون لأجل دين الله الحق ، وإعلاء كلمته ولسعادة جميع البشر وحقوقهم ولتعمير الكون كله على ضوء منهج الله : اسم الجهاد لما يدل على شمولية الجهد لكل الأحوال واستمرار الكفاح للوصول إلى ذلك الغرض ، وذلك لأن لفظ الجهاد لغة وشرعاً شامل لكل الجهود التي تبذل بل هو استفراغ أقصى الجهد لتحقيق نلك الأهداف السامية ، فالقتال ليس هو الهدف ، وإنما إقامة شرع الله هو الهدف بأية وسيلة سواء كانت بالفكر والدعوة أم بالقتال ونحوه .

ومن جانب آخر لم يكتف الإسلام أن يسميه بالجهاد فقط بل قيده بأن يكون في سبيل الله وحده ، وليس في سبيل فرد ، أو جماعة ، أو شعب ، أو أمة ، أو فكر معين في حين أن جميع الحروب السابقة والحالية ما دامت لم تكن في سبيل الله ، فهي في سبيل الأهواء ، وقد ارتبط الجهاد في الإسلام بغايته ، وهي ( وفي سبيل الله ) حتى يكون مبرءاً عن كل هوى ، أو نزعة شخصية ، أو جاه أو سمعة ، فقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ )[101] .

 

حكم الجهاد :

ما دام الجهاد متنوعاً ، وله مراتب ، فلا بدّ أن نذكر حكم كل نوع ومترتبته مع التفصيل في حكم جهاد الكفار ، يقول ابن القيم في بيان حكم هذه الأنواع فقال : (وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله وجهاد شيطانه فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد . وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد ، وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله فإنه كمل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاده وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله عز وجل )[102] .

ويقول الحافظ ابن حجر : ( والتحقيق أيضاً أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده ، وإما بلسانه ، إما بماله ، وإما بقلبه )[103] .

ثم إن الفقهاء فرقوا بين نوعين من الجهاد سموها : جهاد الدفع ، أي دفع الكفار عن بلاد الإسلام وذلك إذا احتلوا شيئاً منها ، وجهاد الطلب ، أي طلب الكفار من بلادهم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فيجب التفريق بين دفع الصائل الكافر ، وبين طلبه في بلاده)[104].

 

جهاد الدفع :

أما النوع الأول  : أي جهاد الدفع فقد اتفق علماء الأمة سلفاً وخلفاً على أن الجهاد يصبح فرض عين على أهل المنطقة التي وقع عليها الاعتداء رجالاً ونساءً وعلى من والاها بقدر ما يدفع به هذا الخطر ، وإليك نصوص المذاهب المعتبرة بهذا الخصوص :

يقول الكاساني الحنفي : ( هذا ـ أي فرض الكفاية ـ إذا لم يكن النفير عاماً ، فأما إذا عمّ النفير بأن هجم العدو على بلد فهو فرض عين يُفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه لقوله سبحانه وتعالى : ( انفروا خفافاً وثقالاً ) ، قيل : نزلت في النفير وقوله سبحانه وتعالى: ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) ولأن الوجوب على الكل قبل عموم النفير ثابت ، لأن السقوط عن الباقين بقيام البعض به ، فإذا عم النفير لا يتحقق القيام به إلا بالكل ، فبقي فرضاً على الكل عيناً بمنزلة الصوم والصلاة فيخرج العبد بغير إذن مولاه ، والمرأة بغير إذن زوجها ، لأن منافع العبد والمرأة في حق العبادات المفروضة عيناً مستثناه عن ملك المولى والزوج شرعاً ، كما في الصوم والصلاة ، وكذا يباح للولد أن يخرج بغير إذن والديه ، لأن حق الوالدين لا يظهر في فروض الأعيان كالصوم والصلاة )[105] .

وجاء في الشرح الكبير : ( وتعين ـ أي يصبح فرض عين ـ بفجء العدو على قوم … قال الدسوقي : (  وتعين فجء العدو على كل أحد وإن كان ذلك الأحد ارمأة .. أو رقيقاً ، وكذا صبي له قدرة على القتال ) ثم قال الدريدير : ( وتعين على من بقربهم إن عجزوا عن كف العدو بأنفسهم )[106] .

ويقول البيضاوي : ( وهذا إذا لم يتخط الكفرة ديارنا وإلاّ تعين على الجميع )[107] .

ويقول النووي : ( فإذا وطئ الكفار بلدة للمسلمين ، أو أطلوا عليها ، ونزلوا بابها قاصدين ، ولم يدخلوا ، صار الجهاد فرض عين ) أي على أهل تلك الناحية إن استطاعوا دفعهم  وإلاّ فيجب أيضاً على الأقرب منهم منطقة ، فالأقرب ، وعلى أي حال ـ كما يقول النووي ـ لا يجوز تمكين الكفار من الاستيلاء مع إمكان الدفع[108] .

ويقول ابن قدامة : ( إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ، ودفعهم )[109] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه ، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعاً ) .

وقال أيضاً : (وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين ، فواجب إجماعا ، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه ، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان ، …. وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقر بفالأقرب ، إذ بلاد السلام كلها بمنزلة واحدة )[110] .

قال أبو عبدالله الدمشقي : ( واتفقوا على أنه يجب على أخل كل نفر أن يقاتلوا من يليهم من الكفار ، فإن عجزوا ساعدهم من يليهم ، الأقرب فالأقرب )[111] .

وهكذا الأمر عند جميع الفقهاء بدون استثناء .

وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والعقل :

أما الكتاب :

فالآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى : (انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[112]  والأمر حقيقة في الوجوب ـ في الراجح ـ ويؤكد هذا الوجوب هنا الآية السابقة عليها : (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ )[113] وذلك لأن العذاب الأليم لا يكون إلاّ على ترك الواجبات ، أو فعل المحرمات ، يقول ابن العربي : (والصحيح أنها غير منسوخة ، وقد تكون حالة يجب فيها نفير الكل إذا تعين الجهاد على الأعيان بغلبة العدو على قطر من الأقطار ، أو بحلوله بالعقر ; فيجب على كافة الخلق الجهاد والخروج إليه ; فإن قصروا عصوا ….. وإذا كان النفير عاما لغلبة العدو على الحوزة ، أو استيلائه على الأسارى كان النفير عاما ، ووجب الخروج خفافاً وثقالاً ، وركباناً ورجالاً ، عبيداً وأحراراً.. حتى يظهر دين الله ، وتحمى البيضة ، وتحفظ الحوزة ، ويخزى العدو ، ويستنقذ الأسرى .   ، ولا خلاف في هذا )[114] .

ولو ألقينا نظرة على واقع الرعيل الأول لوجدناهم قد فهموا الآية على هذا المعنى وأنهم تسارعوا إلى الجهاد عند إعلان النفير وتهديد الكفار بلاد الإسلام ، بل إنهم تسابقوا إليه حتى في حالة فرض الكفاية وجهاد الطلب ، قال أبو طلحة : (ما سمع الله عذر أحد ، وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات ) ، وقال أبو أيوب : ما أجدني أبداً ثقيلاً أو خفيفاً ) وروى أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر فقال له: يا عم إن الله قد عذرك، فقال: يا أبن أخي قد أمرنا بالنفر خفافاً وثقالاً ) وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص وهو على تابوت صراف ، وقد فضل على التابوت من سمنه ، وهو يتجهز للغزو ، فقال له : لقد عزرك الله ، فقال : ( أتت علينا سورة البعوث ( انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً )[115] وخرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له: إنك عليك فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت سواد المسلمين وحفظت المتاع)[116] .

LinkedInPin