أولاً : العلاج والتداوي :

التعريف بالتداوي العلاج :

  التداوي لغة مصدر : تداوى المريض تداوياً أي تناول الدواء ، وأما داوى فهو متعد فيقال : داوى الطبيب المريض مداواة ودِواء أي عالجه[1] .

 وأما العلاج فهو مصدر : عالج الطبيب المريض يعالج معالجة وعلاجاً ، أي داواه[2] .

  فعلى ضوء ذلك فالتداوي هو من جانب المريض ويقصد به : تناوله الدواء ، أو قيامه بإجراء الفحوصات والعمليات الدراحية ، أو الطبيعية او النفسية لأجل البرء من المرض بإذن الله تعالى .

  وأما المداواه والعلاج فهما من جانب الطبيب ، لأنهما من الأفعال المتعدية (حسب المصطلح الصرفي) وحينئذٍ يكون معناهما : قيام الطبيب بإعطاء الدواء ، أو إجراء العمليات أو نحو ذلك مما يؤدي إلى الشفاء بإذن الله تعالى .

حكم التداوي :

  اختلف الفقهاء في حكم التداوي ، هل هو واجب فيكون المريض الذي يترك التداوي آثماً يستحق الذم والعقوبة من عند الله تعالى ؟ أو أنه مندوب فيكون على تداويه ثواب ، ولا يكون على تركه اثم ولا عقاب ؟ أو انه مباح ليس فيه ثواب ولا اثم ، أو انه محرم فيكون آثماً إذا تداوى ؟ أو انه مكروه بحيث إذا فعل يستحق العتاب وإن لم يستحق العقاب ؟

  للجواب عن ذلك نقول : إن الفقهاء الكرام رضي الله عنهم قد اختلفوا في هذه المسألة على عدة أقوال نذكر أهمها ، وهي :

القول الأول : ان التداوي مباح ، وهذا رأي جمهور الفقهاء السابقين لكنهم اختلفوا فيما بينهم ، فمنهم من قال : ان التداوي أفضل ، ومنهم من قال : ان تركه أفضل[3] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (… كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضل تركه تفضلاً واختياراً …. وهذا هو المنصوص عن أحمد وان كان من أصحابه من يوجبه ، ومنهم من يستحبه ويرجحه)[4] . 

القول الثاني : ان التداوي مستحب ، وهذا رأي الشافعية وجماعة من علماء السلف والخلف ، وهو قول الحنفية وجمهور المالكية[5] .

القول الثالث : وهو ان التداوي واجب ما دام ذلك ممكناً ، وهذا رأي جماعة من أصحاب الشافعي ، وبعض الحنابلة ، وقيده بعضهم بأن يوجد ظن بأن التداوي ينفع[6] ، وقيده الحنفية بأن يكون الدواء المستعمل مقطوعاً بالشفاء منه كالماء المزيل لضرر العطش ، والغذاء المزيل لضرر الجوع[7] .

 القول الرابع : وهو لبعض غلاة الصوفية بأن التداوي محرم ، وهو قول لا ينبغي ذكره إلاّ للرد عليه ، ولذلك لم يذكره بعض المحققين ، وأطلقوا الاتفاق على الجواز ، قال العلامة الحموي : (اتفق العلماء على جواز التداوي ، واختلفوا : هل فعله أفضل أم تركه ؟ )[8] .

  والذين قالوا : انه مكروه (أو محرم على فرض وجود قول به) بنوا ذلك على انه يتعارض مع التوكل ، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف الذين يدخلون الجنة بغير حساب : (وهم الذين لا يكتوون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون)[9] ، وبما روى عن أبي بكر رضى الله عنه أنه قيل له : ألا ندعو لك الطبيب ؟ قال : قد رآني ، فقال : إني فعّال لما أريد[10] ، وقيل لأبي الدرداء في مرضه : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي ، قيل : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي ، قيل : أفلا ندعو لك طبيباً ؟ قال : الطبيب أمرضني[11] .

  حكي أن جماعة من الصالحين دخلوا على شيخ منهم يعودونه في مرضه ، فقال بعض من حضر : ألا ندعو لك طبيباً ؟ فسكت ، ثم أعيد الكلام عليه ، فقال :

إن الطبيب بطبه ودوائـــــــــــــــه            لا يسـتطيع دفاع أمر قُــــــــــدّرا

ما للطبيب يموت بالـــــــداء الذي            قد كــان يبرئ قبله مســـتظهرا

هلك المداوي والمــداوى والذي          جلب الدوا وابتاعه ومن اشـترى

 وقد روى عن جماعة من السلف أنهم تركوا التداوي .

 وسئل الإمام أبو عبدالله أحمد بن حنبل عن الرجل يتعالج ؟ فقال : العلاج رخصة ، وتركه أعلى درجة منه .

  يقول الإمام الحموي رداً على هؤلاء : (إن التوكل لا ينافي التسبب ، لأن التوكل اعتماد القلب على الله عز وجل ، وذلك لا ينافي الأسباب ، وغالب التسبب لا يكون إلاّ مع التوكل ، فإن المعالج إذا كان عالماً بالطب يعمل ما ينبغي عمله ، ثم يكل الأمر إلى الله تعالى ، ويتوكل عليه في نجاحه ، ويتضرع إليه في إتمام عمله ، فيكون بمنزلة الفلاّح يحرث الأرض ويدع فيها البذر ، ويتحين الوقت ، ثم يتضرع إلى خالقه سبحانه في بلوغ الغاية ، ودفع العاهات ، وإنزال القطر ، وكذلك يفعل المداوي ، يسقي الدواء ، ويدبر المريض بكل ما تصل القوة إليه ، ويستعمل بعد ذلك التوكل على الله سبحانه ، ويتضرع إليه في حصول العافية ودفع المرض ، ولو كان التوكل وحده كافياً ، لما قال الله عز وجل : (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ)[12] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي (أعقلها وتوكل)[13] وقال صلى الله عليه وسلم : (أغلقوا الأبواب)[14] .

  فمن ظن أن التوكل هو ترك الأسباب ، فما عرف التوكل ولو كان كما ظن ما اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، فلو قال قائل : أُغلق بأبي وأتوكل ، كان مخالفاً للعقل والشرع .

  وأما من ترك التداوي كما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وغيره من السلف ، فالجواب بأمور :

اعلى الصفحة

أحدها : أن يكون تداوى ثم أمسك .

الثاني : أن ما قاله لا ينافي التداوي ، وإنما أخرجه مخرج التسليم للقدر .

الثالث : أن يكون كوشف بقرب أجله .

الرابع : أن يكون مشغولاً بذكر عاقبته عن حاله .

الخامس : أن تكون العلة مزمنة ، والدواء الموصوف له موهوم النفع ، وعلى هذه الأشياء يحمل حال كل من ترك التداوي ، وأخصّ ما حملوا عليه أنهم تركوا مداواة الأدواء الغامضة الموهومة ، وعليه يحمل كلام الإمام أحمد بن حنبل ، لإنه ليس في مقتضى الحال ترك الأسباب إلى المصالح ، بل على الإنسان بذل الاجتهاد ، وإن لم يحصل المقصود)[15] . 

  وأما الذين قالوا بالوجوب فاستندوا على النصوص الواردة من الرسول صلى الله عليه وسلم بصيغ الأمر الذي هو حقيقة في الوجوب ، ولأنه يتعلق بحفظ النفس والبدن وهما من مقاصد الشريعة من حفظ الضروريات والحاجيات[16]، والذي تشهد له الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة هو أن الأحكام التكليفية الخمسة (الوجوب ، والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة) ترد عليه .

 فالعلاج واجب إذا ترتب على عدم العلاج هلاك النفس بشهادة الأطباء العدول ، لأن الحفاظ على النفس من الضروريات الخمس التي يجب الحفاظ عليها ، وكذلك يجب العلاج في حالة كون المرض معدياً مثل مرض السل ، والدفتريا (الخناق) والتيفود الكوليرا[17]  للنصوص الدالة على دفع الضرر وأنه ( لا ضرر ولا ضرار)[18] ، بل إن بعض الفقهاء ـ منهم جماعة من الشافعية،وبعض الحنابلة[19] ـ يذهبون إلى أن العلاج واجب مطلقاً وقيده بعضهم بأن يظن نفعه ، بل ذهب الحنفية[20] إلى وجوبه إن كان السبب المزيل للمرض مقطوعاً به وذلك كما أن شرب الماء واجب لدفع ضرر العطش ، وأكل الخبز لدفع ضرر الجوع ، وتركهما محرّم عند خوف الموت ، وهكذا الأمر بالنسبة للعلاج والتداوي . جاء في الفتاوى الهندية : ( اعلم بأن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش ، والخبز المزيل لضرر الجوع … أما المقطوع به فليس تركه من التوكل ، بل تركه حرام عند خوف الموت )[21] .  

  

 وقد استدل هؤلاء الفقهاء بقوله تعالى : (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ)[22] وقوله تعالى : (وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)[23] ، وبالأحاديث الآمرة بالتداوي مثل حديث أسامة بن شريك قال : (أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير ، فسلمت ، ثم قعدت ، فجاء الأعراب من ههنا وههنا ، فقالوا : يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال : تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءً إلاّ وضع له دواء غير داء واحد الهرم )[24] ، ولحديث أبي الدرداء : ( قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله أنـزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ، ولا تتداووا بحرام )[25] ، فإذا كان العلاج واجباً فيكون تركه حراماً كما في حالة كون المرض معدياً ، أو يكون الشخص مهدداً بالموت أو بضرر كبير إذا لم يتم العلاج ، ويدل كذلك حديث جابر قال : (خرجنا في سفر ، فأصاب رجلاً منا حجر ، فشجه في رأسه ، ثم احتلم ، فسأل : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وانت تقدر على الماء ، فاغتسل ، فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ذبلك ، فقال : (قتلوه ، قاتلهم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العيّ السؤال… )[26].

 وأن التداوي مستحب إذا كان التداوي بما يمكن الاستشفاء به حسب الظن وليس اليقين[27]  ، وذلك اقتداءً بتداوي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله ، وفعله[28]، وفيما عدا ذلك فهو مباح مشروع وهذا رأي جمهور الفقهاء[29] ، قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : (اعلم أن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون ، ولكن قد ترك التداوي أيضاً جماعة من الأكابر ) ثم ذكر بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى ، ولو كان نقصاناً لتركه ، إذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله )[30] .

 وقد ردّ الغزالي على من قال بأن التداوي يخالف التوكل بأن ذلك نوع من المغالطة ، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى وهو سيد المتوكلين ، وأمر به في أكثر من حديث ، ثم إن التداوي مثل استعمال الماء للعطشان ، والأكل لدفع الجوع فلا فرق بين هذه الدرجات ، فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، وأجرى بها سنـته[31] ، ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ وعن الصحابة في قصة الطاعون ـ فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً فافترق الناس فرقتين ، فقال بعضهم لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة ، وقالت طائفة أخرى : بل ندخل ونتوكل على الله ولا نهرب من قدر الله تعالى ، ولا نفرّ من الموت كمن قال الله تعالى في حقهم : ( ألم ترَ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت … )[32] ، فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه ، فقال : نرجع ولا ندخل على الوباء ، فقال له المخالفون لرأيه : أنفرّ من قدر الله تعالى ؟ قال عمر : نعم ، نفرُّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى …. فلما أصبحوا جاء عبدالرحمن فسأله عمر عن ذلك ؟ فقال : عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا سمعتم به ـ أي بالطاعون ـ بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه )[33].

 فالعلاج سبب من الأسباب يؤخذ به كما يؤخذ بالأسباب في كل الأمور الأخرى ، بل إن تركه إذا ترتب عليه ضرر يكون محرماً وقد أكد هذه المعاني ابن القيّم في الطب النبوي وبيّن بأن العلاج سبب مشروع ، وقدر من قدر الله تعالى ، وسنة من سننه .

 ويكون التداوي مباحاً جائزاً تركه ، إذا كان العلاج لا يجدي نفعاً وأن الدواء لا ينفعه ، حيث ذكر الغزالي خمسة أسباب لترك التداوي منها أن تكون العلة مزمنة ، والدواء الذي يؤمر به موهوم النفع[34].

  واما النظر إلى العلاج الجيني من حيث ما له من خصو