التعريف بالاحسان  :

   الاحسان لغة : مصدر أحسن يحسن إحساناً ، أي فعل ماهو حسن ، فقال تعالى : ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ )[1] ويقال : أحسن الشيء : أي أجاد صنعه ، فقال تعالى : ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)[2] أي أجادها وأتقنها .

  وأصله من الحسن ـ بفتح الحاء والسين مصدر حَسُن يحسُنُ ـ بضم السين فيهما ـ بمعنى الجمال والزينة ، ويقال : حسّن الشيء : جعله حسناً وزيّنه ، وتحسّن أي تزيّن ، واستحسنه ، أي عدّه حسناً ، والحُسن ـ بضم الحاء ـ الجمال ، وكل مبهج مرغوب فيه ، والأحسن : الأفضل[3] .

  وفي القرآن الكريم تكرر لفظ ( حسن ) ومشتقاته حوالي مائتي مرة منها بلفظ ( حسن ) مرة واحدة فقال تعالى : ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً )[4] وبلفظ ( حسنت ) مرتين ، وبلفظ  ( أحسن ) ماضياً ومضارعاً ، وأمراً اثنتي عشرة مرة مثل قوله تعالى : ( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ )[5] وبصيغة أفعل التفضيل ( أحسن ) ستاً وثلاثين مرة ، وبلفظ ( محسن ) مفرداً وجمعاً أربعين مرة ، وأما بلفظ (إحسان) فاثنتا عشرة مرة .

  وقد حاول الراغب الأصفهاني[6] أن يجمع شمل معانيه في القرآن الكريم فقال  : ( الحَسَن عبارة عن كل مبهج مرغوب فيه وذلك ثلاثة أضرب : مستحسن من جهة العقل ، ومستحسن من جهة الهوى ، ومستحسن من جهة الحسّ ، والحسنة يعبّر بها عن كل ما يسر من نعمة تنال الإنسان في نفسه ، وبدنه ، وأحواله ، والسيئة تضادها … فقوله تعالى : ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)[7] ـ أي خصب وسعة وظفر ـ ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)[8] أي جدب وضيق وخيبة ـ وقوله تعالى ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ )[9]   .

ثم قال : ( والاحسان يقال على وجهين :

أحدهما : الانعام على الغير ، يقال : أحسن إلى فلان .

والثاني : إحسان فعله ، وذلك إذا علم علماَ حسناً ، أو عمل عملاً حسنا ، وعلى هذا قول أمير المؤمنين رضي الله عنه : ( الناس أبناء ما يحسنون ) أي منسوبون إلى ما يعلمون ، وما يعملونه من الأفعال الحسنة ) … فالاحسان أعمّ من من الانعام …. ).

وقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ )[10] فالاحسان فوق العدل ، وذاك أن العدل هو أن يعطى ما عليه ويأخذ ماله ، والاحسان أن يعطى أكثر مما عليه ، ويأخذ أقل مما له ، فالاحسان زائد على العدل ، فتحرى العدل واجب ، وتحري الاحسان ندب وتطوع ، وعلى هذا قوله تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )[11] وقوله تعالى : ( ….. وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ )[12] ولذلك عظم الله تعالى ثواب المحسنين فقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[13] وقال تعالى : ( مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ …..)[14] .

  وفي السنة المشرفة لا يختلف معنى الحسن والاحسان عما ذكرناه في اللغة ، وفي استعمالات القرآن الكريم ، وسيأتي الاستعانة ببعض الأحاديث الخاصة بالموضوع[15] .

   ولكن المعنى الجديد الذي ذكرتها السنة النبوية الشريفة للإحسان هو قول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الاحسان حينما سأله جبريل عن الاحسان حيث قال : ( الاحسان : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )[16].

   يقول الحافظ ابن حجر في شرح الاحسان : ( الاحسان هو مصدر ، تقول أحسن يحسن احساناً ، ويتعدى بنفسه وبغيره ، وتقول : أحسنت كذا إذا أتقنته وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع ، والأول هو المراد ، لأن المقصود : اتقان العبادة ، وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلاُ محسن باخلاصه إلى نفسه ، وإحسان العبادة : الاخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود ، وأشار في الجواب إلى حالتين ، أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه بعينه ، وهو قوله : ( كأنك تراه ) أي وهو يراك ، والثانية : أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل وهو قوله ( فإنه يراك ) وهاتان الحالتان يثمرها معرفة الله وخشيته …. ) .

   وقال النووي : ( فتقدير الحديث : فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك …. وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين ، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين ، وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين وكنز العارفين ، ودأب الصالحين ، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم … )[17] وقد ورد الحديث في رواية مسلم بلفظ : ( ما الاحسان ؟ قال : أن تخشى الله كأنك تراه )[18] .

  ومما أضافته السنة المشرفة : أن الإحسان ليس من باب المستحبات المستحسنات ، بل هو فرض ، حيث يقول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب الإحسان في كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح…. )[19] قال النووي : ( وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام)[20] وهذا الحديث واضح في وجوب الإحسان بمعنى الاتقان ، لأن لفظ ( كتب ) بمعنى فرض في عرف القرآن والسنة مثل قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ …. )[21] قال المفسرون : أي فرض عليكم[22] .

  فهذا التفسير النبوي الشريف للاحسان ـ في نظري ـ باعتبار الوسيلة ، أي أن الخشية ومراقبة المعبود ومشاهدة الحق تؤدي إلى الاتقان الحقيقي في كل شيء ، فيكون من باب اطلاق الشيء على سببه ووسيلته .

الخلاصة مع التحليل :

تبين لنا أن ( الاحسان ) استعمل في الشرع في أربعة معان أساسية وهي  :

1.الإنعْام على الغير ( أي الصدقة والفضل )

2.فعل الحسن وقوله أي الفعل الجميل والقول الجميل

3.الاتقان

4.الخشية ومراقبة الله تعالى في كل الأعمال 

علاقة الإحسان بأدوات الانتاج والتوزيع والاستهلاك :

  وكل هذه المعاني الأربعة للإحسان لها علاقة بالاقتصاد ، وبأصوله وأدوات الإنتاج والتوزيع ، فالانعام على الغير بالصدقة داخل في في التوزيع الواجب إن كانت هذه الصدقة من الصدقات الواجبة ، وفعل الحسن بالجوارح ، أو باللسان يدخل ضمن القيم الإسلامية العظيمة الشاملة لجيمع الأخلاق الفاضلة القولية والفعلية المتعلقة بالانتاج ، وأدواته ، وبالاستهلاك ، وبالتداول ، وبالتوزيع ، وبإعادة التوزيع ، وكذلك الخشية ومراقبة الحق تؤديان إلى طهارة اللسان والجوارح والابتعاد عن الأخلاق السيئة الضارة مثل الكذب ، والغش ، والخيانة والاحتكار .

  وأما الاتقان فهو يتعلق تعلقاً مباشراً بأهم عنصر من عناصر الانتاج ، وهو العمل والإدارة ، ومعظم الآيات التي أطلقت كلمة الاحسان ، أو المحسنين تشمل كل هذه المعاني معاً دون أي تعارض بينها ، مثل قوله تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً … )[23] أي انعاماً عليهما ، بفعل الحسن ، وقول الحسن ، واتقان خدماتهما ، مع مراقبة الله والخشية حتى يبلغ الاحسان إلى القمة ، وهكذا قوله تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )[24] أي وهو متقن في جميع عباداته وأعماله خاشعاً ، ومنعماً على الآخرين بالفضل والخير ، وبفعل الحسن وقوله ، وقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[25]  أي المتقنين في جميع أعمالهم ، المنعمين على العباد بالخير والفضل وقول الحسن وفعله ، مع الخشية من الله ، ومراقبة الحق ومشاهدته ، وهكذا جميع الآيات التي وردت فيها كلمة ( محسن ) أو (المحسنين ) أو ( المحسنات ).

  فالإحسان في القرآن الكريم بالمعاني السابقة يشمل الواجبات والمندوبات والمباحات ، وليس محصوراً في المندوبات فقط ، وذلك لوروده ، أو أو ورود ( المحسنين ) أو (المحسن) بعد فعل الواجبات أيضاً مثل ورود الاحسان للوالدين في قوله تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً … )[26] فهذا الاحسان واجب ، وقوله تعالى : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)[27] ، ولكنه قد يدل السياق واللحاق على أن المقصود به فعل المندوبات من الصدقات والأفعال والأقوال غير الواجبة ، بحيث إذا لم توجد هذه القرائن فإنه يبقى على إطلاقه وشموله لجميع معانيه السابقة .

  وأما علاقة الاحسان بالاستهلاك فتتحقق من خلال أن الانعام بالصدقات إذا تحقق فإنه يؤدي إلى تداول رأس المال إلى الاخر المحتاج إلى الاستهلاك حيث يستهلكه في إحدى ضرورياته أو حاجايته ، في حين لو بقي المال عند المحسن القادر الغني مثلاً لما استهلكه في إحدى حاجياته ، والاستهلاك هو إحدى حلقات الأنشطة والتنمية الاقتصادية التي تبدأ بالانتاج ، وتزداد بالتوزيع والاستهلاك .

علاقة العدل بالاحسان :

  فقد ذكر الله تعالى العدل والاحسان كلمتين مستقلتين ، وعطف الاحسان على العدل مما يقتضي المغايرة فقال تعالى  : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[28] .

  ولذلك اختلف العلماء في ذلك ، فقد ذكر شيخ المفسرين الإمام الطبري عدة تفسيرات للعدل ، والاحسان :  ومنها قول ابن عباس : العدل : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، والاحسان : أداء الفرائض ، ومنها أن العدل هو الانصاف ، وأن الاحسان هو أداء الفرائض ، وقال بعضهم : الاحسان هنا هو الصبر لله على طاعته فيما أمر الله ونهى في الشدة والرخاء والمكره والمشنط ، وذلك هو أداء فرائضه[29] .

  وذكر ابن كثير أن العدل هنا فسره سفيان بن عيينة بأنه : ( استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملاً ، والاحسان : أن تكون سريرته أحسن من علانيته …) لكن ابن كثير ذكر بأن العدل هو القسط والموازنة [30] ، وقد ذكر الماوردي الأقوال السابقة ، وذكر قولاً آخر وهو : ( أن العدل : قضاء بالحق ، والاحسان : التفضل بالانعام )[31] .

  وذكر ابن العربي : ( أن حقيقة العدل : التوسط بين طرفي النقيض وضده الجور ، وذلك أن الباري خلق العالم مختلفاً متضاداً متقابلاً مزدوجاً ، وجعل العدل في اطراد الأمور بين ذلك على أن يكون الأمر جارياً على الوسط في كل معنى … وأما الاحسان فهو في العلم والعمل ، ففي العلم فبأن تعرف حدوث نفسك ونقصها ، ووجوب الأولوية لخالقها ، وكماله ، واما الاحسان في العمل فالحسن ما أمر الله به ، حتى ان الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر في تعهده….) [32] .

  وقد فصل الإمام الرازي تفصيلاً طيباً نذكره لأهميته ، حيث وضع منهجية جيدة عند كثرة التفسيرات فقال : ( واعلم أن في المأمورات كثرة ، وفي المنهيات أيضاً كثرة ، وإنما حسن تفسير لفظ معين لشيء معين إذا حصل بين ذلك اللفظ وبين ذلك المعنى مناسبة ، أما إذا لم تحصل هذه الحالة كان ذلك التفسير فاسداً ، فإذا فسرنا العدل بشيء والاحسان بشيء آخر وجب أن نبين أن لفظ العدل يناسب ذلك المعنى ، ولفظ الاحسان يناسب هذا المعنى فلما لم نبين هذا المعني كان ذلك مجرد التحكم ، ولم يكن جعل بعض تلك المعانى تفسيراً لبعض تلك الألفاظ أولى من العكس ، فثبت أن هذه الوجوه التي ذكرناها ليست قوية في تفسير هذه الآية ، وأقول ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى أمر بثلاثة أشياء ، وهي العدل والاحسان وايتاء ذي القربى ونهى عن ثلاثة أشياء وهي : الفحشاء والمنكر والبغي ، فوجب ان يكون العدل والاحسان وايتاء ذي القربى ثلاثة أشياء متغايرة ، ووجب أن تكون الفحشاء والمنكر ، والبغي ثلاثة أشايء متغايرة ، لأن العطف يوجب المغايرة فنقول : أما العدل : فهو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الافراط والتفريط ، وذلك أمر واجب الرعاية في جميع الأشياء ، ولا بدّ من تفصيل القول فيه ، فنقول : الأحوال التي وقع التكليف بها إما الاعتقادات وإما أعمال الجوارح ، أما الاعتقادات : فالعدل في كلها واجب الرعاية ……. ، وأما الاحسان فاعلم أن الزيادة على العدل قد تكون احساناً وقد تكون إساءة ، مثاله أن العدل في الطاعات هو أداء الواجبات ، أما الزيادة على الواجبات فهي أيضاً طاعات وذلك من باب الاحسان ، وبالجملة فالمبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية هو الاحسان ، والدليل عليه : أن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاحسان قال : ( الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فإن قالوا : لم سمي هذا المعنى بالاحسان ؟

  قلنا : كأنه بالمبالغة في الطاعة يحسن إلى نفسه ويوصل الخير والفعل الحسن إلى نفسه ، والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات ، والاحسان عبارة عن الزيادة في تلك الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ، وبحسب الدواعي والصوارف ،وبحسب الاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوية فهذا هو الاحسان .

  واعلم أن الاحسان بالتفسير الذي ذكرناه دخل فيه التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله )[33] .

  وذهب بعض المعاصرين إلى أن العدل هو القول الحق ، والعمل بالحق بكل حزم وصراحة وبميزان واحد ، وأن الاحسان هو التسامح ، والزيادة على الطاعات ، وعدم الاكتفاء بالفرائض ، وبالتالي فإن الإحسان أوسع مدلولاً ، فكل عمل طيب إحسان ، وأن الأمر به يشمل كل عمل حسن ، وكل تعامل حسن سواء كان بين الإنسان وربه ، أم بينه وبين أسرته ، أو أمته ، أو الناس أجمعين[34] . 

  في حين ذهب آخرون إلى ترجيح أن العدل هو الانصاف ، وأن الاحسان : اتقان الأعمال والتطوع بالزائد عن الفرائض ، ومقابلة الخير بأفضل منه ، والشرّ بأقل منه[35] .

  وقد سبق أن الراغب الأصفهاني ذكر أن الاحسان فوق العدل ،  وأن تحري العدل واجب ، وتحري الانسان  ندب[36] ، كما أن ابن عطية وآخرين اتجهوا إلى أن المراد بالعدل : هو فعل كل ما هو فرض من عقائد ، وشرائع وسير الناس في أداء الأمانات ، والاحسان : فعل كل مندوب إليه[37] .

الترجيح :

أولاً : أن الذي ظهر لنا رجحانه هنا هو أن الاحسان في هذه الآية هو ما يقتضيه الأخلاق الإسلاميةالسامية ، والقيم الدينية والروحية من عدم الوقوف عند العدل المطلق ، بل يكون هناك تسامح ، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[38]  فكظم الغيط والعفو عن الناس من باب الاحسان وليس من باب العدل ، وبعبارة أخرى فإن ميزان العدل يقوم على كفتين معتدلتين متساوتين من حيث الحقوق والواجبات ، أما الاحسان فكفة المحسن فيه ثقيلة بالفضل والتسامح عن حقه ، ولكنها خفيفية بحقه على عكس كفة المقابل .

  ومن جانب آخر فإن العدل له ميزانه الخاص من حيث الحزم والحسم ، وأما الاحسان فله ميزانه الخاص من حيث العفو والتسامح والتنازل عن الحق ، والتصالح على الخير ، وهذا الاحسان بهذا المعنى ليس كله من المندوبات ، بل من المأمورات التي تشمل المندوبات ، والواجبات حيث قد يصبح ذلك الإحسان واجباً .

ثانياً : أما في غير هذه الآية فإن الاحسان يطلق على عدة معان ، منها :

1) فعل الحسن وقول الحسن ، أي الفعل الجميل ( الأخلاق السامية ) وهو بهذا المعنى يشمل جميع الأخلاق الفاضلة والسلوكيات الرشيدة والقيم السامية العظمية .

  وهذه الأخلاق من المأمورات التي تشمل المندوبات والواجبات ، فالأخلاق في الإسلام من شعب الإيمان الأساسية[39] ، ولكن منها ما هو من المندوبات ، فالإحسان إلى الوالد ( الذي امر الله تعالى به في أكثر من آية ) ليس من المندوبات ، وإنما هو من الواجبات والفرائض ، ولذلك فالإحسان في معظم آيات القرآن يشمل كل ما هو حسن سواء كان واجباً أو مندوباً ، ولكل لكل واحد منهما درجته ووزنه وثوابه ، فقوله تعالى : ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)[40] يشمل كل ما هو حسن سواء كان واجباً أم مندوباً إليه ، وكذلك قوله تعالى : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)[41] أي أدوا كل ما هو حسن من الواجبات والمندوبات ، وهكذا قوله تعالى : )ِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[42] وكذلك قوله تعالى : ( وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا)[43] ليس خاصاً بالمندوبات وقوله تعالى : (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[44] أي قمْ بالأفعال والأقوال الحسنة ، من أداء الزكاة وشكر الله تعالى ونحوهما ….

  نعم قد تدل القرائن على أن المقصود به هو المندوب ، مثل قول اخوة يوسف : ( إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[45] حيث طلبوا الإحسان بدل العدل وحينئذ يحمل عليه مثل قوله تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[46]  أي القرض الحسن أو الصدقة .

2) الانعام على الغير ، وهو بهذا المعنى الغالب فيه هو اطلاقه على المندوبات ، أي الصدقات العامة ، ومثل الوقف .

  ولكن ليس هناك مانع من اطلاقه أيضاً على الواجبات المفروضة ، مثل النفقات الواجبة للزوجة والأصول والفروع ، فهي في العرف القرآني من الاحسان ، ولكنه من الاحسان الواجب يدل على ذلك قوله تعالى في حق المرأة المطلقة قبل الدخول ولم تفرض لها فريضة : ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ)[47] حيث ذهب جماعة من العلماء إلى أن ذلك واجب ، مع أن الله تعالى قال : (حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) استدل البعض على الندب بهذه الكلمة التي فسروها بـ (حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فرد عليهم القاضي ابن العربي بأن للتقوى أقساماً …. منها ما هو واجب ، ومنها ما هو ليس بواجب[48] .

3) وأما الخشية من الله تعالى ، والتقوى فهما سبب النجاة والفلاح وبدونهما لا يتحقق الإيمان الكامل ، وحينئذٍ فلا يسع القول إلاّ بوجوبهما من حيث المبدأ والاجمال ، والاحسان بهذا المعنى له علاقة بكل الأنشطة الاقتصادية ، حيث إن تلك الخشية تحميها من الغش ، والخيانة ، والاحتكار ، والتغرير والتدليس وغير ذلك من الأمور الخفية التي لا يمكن محاربتها ، والقضاء عليها إلاّ من خلال التقوى والخشية من الله ، والانضباط المعنوي الذي هو الحارس الحقيقي لضبط تصرفات الانسان  .

4) وأما الاحسان بمعنى الاتقان فهو قد يكون من الواجبات والفرائض ، وقد يكون من المحسنات المندوب إليها حسب نوعية العمل ، وأما الاتقان في الأعمال والصناعة ، والعلوم فهو من الفروض الكفائية ـ إن لم يكن من فروض الأعيان ـ وذلك لأن الأمة لا يمكنها أن تواجه تحديات العصر الخطيرة من مختلف الأمم في مجال العلوم والتكنولوجيا ، والصناعة إلاّ بمزيد من الاتقان والابداع ، من باب (ما لايتم الواجب إلاّ به فهو واجب) ، يقول العلامة الشيخ يوسف القرضاوي : ( ومن القيم المهمة في مجال الإنتاج بعد قيمة العمل : إحسان العمل واتقانه ، فليس المطلوب في الإسلام مجرد أن يعمل ، بل أن يعمل عملاً حسناً ، وبعبارة أخرى : أن يحسن العمل ويؤديه بإحكام واتقان.

  فهذا الإحسان في العمل ليس نافلة أو فضلاً أو أمراً هامشياً في نظر الإسلام ، بل هو فريضة دينية مكتوبة على المسلم[49] .

  ففي الحديث الصحيح : ( ان الله كتاب الاحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)[50] .

  وقد استعمل الحديث بلفظ ( كتب ) الذي يفيد الفرضية المؤكدة الموثقة وقد استعملها القرآن الكريم في مثل قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[51] ، وقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)[52] .

  فمن فرّط في إحسان العمل فقد فرّط في واجب ديني ، وفريضة إلهية ، مما كتب الله على عباده المؤمنين .

 وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه )[53] ، ( إن الله يحب من العامل إذا ما عمل أن يحسن )[54].

  بل نجد في القرآن الكريم في بعض المجالات الاقتصادية لا يكتفي بطلب (العمل الحسن) بل يأمر بـ ( العمل الأحسن ) .

  وهذا ما نلحظه واضحاً في طلب تنمية مال اليتامى ، فقد نهى القرآن العزيز عن قربانه إلاّ بالتي هي أحسن ، يعني بالطريقة التي هي أحسن الطرق ، وأمثل الأساليب في المحافظة على مال اليتيم من ناحية ، والعمل على نمائه وتكاثره من ناحية أخرى .

  يقول تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ )[55] وهذه وصية تكررت بلفظها في القرآن الكريم في سورتين : سورة الأنعام ، وسورة الاسراء )[56] .