اعتبر فضيلة الشيخ د. علي محيي الدين القره داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أن الأخوة الإيمانية داخل أنفسنا، والرحمة من أهم آثار الإيمان، وقال إن الإيمان الذي أوجبه الله تعالى على عباده هو الإيمان المفجر للطاقات، المحرك إلى فعل الخير المطلق.. وقال فضيلته في خطبة الجمعة أمس بجامع السيدة عائشة رضي الله عنها بفريج كليب: إن من أهم آثار الإيمان بالإضافة إلى ما ذكرناه في الخطبة الأولى، الأخوة الإيمانية داخل أنفسنا، والرحمة التي حصر الله تعالى رسالة رسلنا صلى الله عليه وسلم فيها، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» رحمة للعالم أجمع، ومقتضى هذه الإخوة الإيمانية والرحمة الربانية أن نكون رحماء فيما بيننا، «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»، وقمة الرحمة الإحساس بالمظلومين، والفقراء والمساكين، والإحساس بالمنكوبين الذين أخرجوا من ديارهم وأوذوا، ونحن كل يوم نشاهد من حالهم ما تنفطر منه القلوب، وتقشعر الأبدان، وتدمع العيون، الأمة مسؤولة أمام الله تعالى عن كل ذلك، ولكم تحدثنا عن مآسينا في الموصل، وسوريا، واليمن وميانمار، كل هذه الأجزاء قطع من جسد الأمة، لا يجوز التغافل عنها، وعلينا أن نتحمل مسؤوليتنا تجاههم، وأرجو أن تظهر آثار إيماننا بالله تعالى في أخلاقنا وأحاسيسنا، وتحملنا المسؤولية عن الأمة كلها.
خيرية الأمة
وقد بدأ خطبته قائلا: أعد الله تعالى هذه الأمة حتى تكون خير أمة أخرجت للناس، خيرية مطلقة في جميع مجالات الحياة، وبكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى من حيث الأفضلية والأصلحية في كل ما يتصوره عقل الإنسان، وما يحقق فكره، لتقدمه الأمة لنفسها ولغيرها من أمم الأرض، ولكل كائن يشاركها الحياة على هذا الكون الفسيح… وزود الله الإنسان بكل سبب ينمي في الأمة هذه الخيرية، ومن أهم هذه الأسباب وأفضلها وأقومها مطلقاً الإيمان العظيم الذي بينه الله تعالى في كتابه العظيم القرآن الكريم، الإيمان بالله وباليوم الآخر، وببقية الأركان التي بينتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة.
مفجر للطاقات
وقال إن الإيمان الذي أوجبه الله تعالى على عباده هو الإيمان المفجر للطاقات، المحرك إلى فعل الخير المطلق، هذا الإيمان يجب أن يتجلى في جميع حالات الإنسان، في حالة القوة والضعف، وفي حالة الانتصار والهزيمة، ولا يكتفي المرء في الإيمان بما يحقق له الآخرة فقط.. الإيمان الذي يريده الله تعالى يصنع الخير، ويصنع الأمة، ويصنع خيرية الأمة، قال تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ»، فالإيمان بالله تعالى هو مصدر الخيرات والحسنات والسعادة للإنسانية أجمع، ولهذا الكون كله؛ لأن الإيمان الحقيقي هو الذي يربطك بالله سبحانه، ويجعل قلبك متعلقاً بالله وحده، ويجعل لسانك رطباً بذكر الله تعالى، فلا تغيب عنه طرفة عين، ولا تغفل عنه لحظة، وهذا ما يولد فيك التقوى، وينمي مشاعر المراقبة لله وحده، والتقوى التي تنفجر في قلبك على نوعين: وقاية لك ووقاية لغيرك… أما الوقاية لك فهي التي تحميك من الوقوع في المعاصي والآثام، وهي التي تبعدك عن مواطن الفساد، وهي التي تنأى بك عن الشرور والمحرمات، ثم تستقر في نهاية المطاف في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. وأما الوقاية لغيرك فلا تضر أحداً ولا تؤذي أحداً، ولا تعتدي على أحد، ولا تأكل أموال الناس بالباطل، إلى غير ذلك من المنكرات.
فقه الإيمان
وأكد أن هذا هو فقه الإيمان، وبالتالي في الإيمان حركة وطاقة، وسلوك وعمل، ولذلك يزداد وينقص، وليس الإيمان مجرد تصديق يستقر في القلب أو الفكر، بل تصديق يتجاوز إلى اللسان، وإلى الجوارح والأعمال، فيصبح الإنسان المؤمن قرآناً يمشي على الأرض، كما كانت قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم.. نحن اليوم ينقصنا هذا الفقه الإيماني، الفقه الذي يريده الله لنا، حتى نكون خير أمة أخرجت للناس، ولقد فقدنا جزءاً كبيراً من هذا الإيمان، ظانين أن مجرد التصديق في القلب أو العمل بالأركان يكفي في تحقيق الإيمان، ربما يكفي ذلك للدخول في دائرة الإيمان، ولكنه يبقى قاصراً عن تحقيق ما يريده الله تعالى من المؤمن، لأن الله تعالى يريد أن تكون الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس عقيدة وفكراً وسلوكاً وقلباً ونفساً وعقلاً وروحاً وتعاملاً.. وهذه هي الخيرية التي يريدها الله تعالى، وليست الخيرية محصورة في أداء أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، وإنما الخيرية الحقة أن يكون الإنسان عبداً لله تعالى بما تحمل هذه الكلمة من معنى، كما بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام، حين جاء يسأل عن الإسلام والإيمان، والإحسان، فقال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وفي رواية «أن تخشى الله»، وفي رواية أخرى «أن تفعل لله».
العبادة المقصودة
وأشار فضيلته إلى أن كلمة العبادة المقصود بها القيام بكل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى عنه، وما أمر الله تعالى به ليس خاصاً بالقيام بالشعائر على الرغم من أهميتها، وإنما يشمل أمْر الله تعالى كل ما يصدر عن الإنسان على مستوى الفكر والتصور، والعقل والسلوك والأفعال، والأنشطة الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية، وإن الأوامر التي جاءت في مجالات غير الشعائر أكثر بكثير من التي جاءت في مجال الشعائر، على الرغم من أساسيتها وأهميتها، ولكنها ليست كل الإسلام.. هذه الخيرية إنما تتحقق بهذا الإيمان الشامل المحرك المفجر للطاقات، الإيمان الذي يجعلك ألا تكتفي بالحسن في الأمور، بل يحفزك إلى القيام بالأحسن والأخذ به، ناهيك عن القبائح، إذ المؤمن لا يرتكب القبائح ولا يأتي الفواحش إلا جهلاً أو خطأ.
اقتراف المنكر
وطرح فضيلته تساؤلا مهما حين قال: هل يستطيع أن يقترف المرء مخالفة أو يفعل منكراً أمام رئيسه أو سيده أو أمام جمع من الناس؟ فأنى للمؤمن بعد أن تتمكن التقوى من قلبه، ويغدو قلبه خاشعاً لله رب العالمين أن يفعل المنكرات؟ وما يقوم به من منكر أو فاحشة أو ظلم وعدوان، وكل ما لا ينتمي إلى السلوك الحسن والأحسن ناتج عن ضعف الإيمان في القلوب، وبسبب غياب شرط «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
ولقد ذكر الله تعالى لنا قدوات كثيرة، وأوجب علينا اتباعها حتى نسلم من الآثام،