استدل كل فريق على دعواه بأدلة مطولة نوجزها فيما يأتي :

أولا ً : ذكرنا وجهة نظر الرأي التاسع والرد عليه حيث لم نجد له مبرراً مقبولا ً حتى وصفه العلامة أبو شامة بأنه قول سخيف ليس له أصل قوي يقف عليه .

ثانياً : أما أدلة القائلين بالمساواة فهي كالآتي :

  1. إذا نظرنا إلى أحكام الشريعة الغراء وجدنا كلها إلا ما خصّ بدليل الاختصاص عامة في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته ، بدءاً بالعقيدة إلى العبادات والمعاملات ، والأخلاق والسلوك والجهاد ، وما هو خاص به قليل ونادر ثبت بدليل خاص ، ومن هنا فما دام قد علمت صفته من وجوب ، وندب ، وإباحة ولم يوجد دليل على كونه خاصاً به فيكون عاماً له ولأمته ، إذ أن حمله على العموم أولى بكثير من حمله على الخصوصية ، يقول الآمدي :” هذا بالنسبة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأما بالنسبة إلى أمته ، فلأنه ، وإن كان عليه السلام قد اختص عنهم بخصائص لا يشاركونه فيها غير أنها نادرة ، بل أندر من النادر بالنسبة إلى الأحكام المشترك فيها ، وعند ذلك فما من واحد من آحاد الأفعال إلا واحتمال مشاركة الأمة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيه أغلب من احتمال عدم المشاركة إدراجاً للنادر تحت الأعم الأغلب ، فكانت المشاركة أظهر ” [1]  .

  2. ومن جهة أخرى أن الآيات والأحاديث الدالة على وجوب اتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حجة لهذا القول من جهة أن نوعية الوصف مطلوبة ، وأن ذلك محمول على مطلق المتابعة ، ــ كما سيتضح عند مناقشتنا لحجة القول السادس ــ لأن الإجماع قائم على أن وجوب الاتباع ليس في كل ما فعله ، وإنما في الواجبات ، أو من حيث العموم .

ثالثاً : إن الرأي الثاني الذي فرق بين العبــادات ، وغيرها استدل على ذلك بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر باتباعه في أفعاله العبادية، ولم يرد مثل ذلك في غيرها فقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) :” صلوا كما رأيتموني أصلي ” ، و ” خذوا عني مناسككم ” [2] .

ويمكن مناقشة هذا الدليل بأن الآيات القرآنية الدالة على اتباعه عامة لم تفرق بين ما هو من العبادات ، أو من غيرها .

رابعاً : إن الرأي القائل بالخصوصية قائم على أن الأصل هو الخصوصية ، وهذا الأصل ــ كما سبق ــ غير مسلم ، بل العكس هو الصحيح الموافق لكون وظيفته الأساسية هي التبليغ .

خامساً : أن الرأي القائل بالتوقف قد استدل بأن الفعل المجرد عن القرائن لا دلالة له على الخارج ، ولا يتجاوز مدلوله إلى الغير إلا بدليل قال الغزالي في رده على القول بالوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة ” وهذه تحكمات ، لأن الفعل لا صيغة له ، وهذه الاحتمالات متعارضة ” [3]  فعلى ضوء ذلك إذا تعارضت تساقطت ، فلا يبقى أحدها أولى من الآخر فنتوقف إلى أن نجد دليلا ً خاصاً .

 وهذا الدليل محجوج بالآيات الآمرة بالاتباع ، فلا يبقى صامداً أمامها ، ثم لا نسلم أن الفعل المجرد لا دلالة له ولا سيما إذا كان حكمه معروفاً .

سادساً : استدل القائلون بالوجوب بأدلة كثيرة شملت الكتاب والإجماع ، والآثار .

أما الكتاب فآيات كثيرة منها :

  1.  قوله تعالى : (( … فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون )) [4]  فالآية صريحة في وجوب الاتباع ، والمتابعة هي الإتيان بمثل فعله [5] .

  2. قوله تعالى : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله …. )) [6] .

    قال الرازي :” دلت الآية على أن محبة الله مستلزمة للمتابعة ، لكن المحبة واجبة بالإجماع ، ولازم الواجب واجب فمتابعته واجبة ” [7] .

  3. قوله تعالى :(( فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً …. )) [8]  قال الرازي :” بيّن أنه تعالى إنما زوجه بها ، ليكون حكم أمته مســـــــاوياً لحكمــه في ذلك ، وهذا هو المطلوب ” [9] ، قال ابن النجار :” فلولا الوجوب لما رفع تزويجه الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم ” [10] .

  4. وقوله تعالى : (( فليحذر الذين يخــــالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو عذاب أليم )) [11] والأمر يشمل الفعل أيضاً .

 وأما الإجماع فقال الرازي في توجيهيه :” …. فلأن الصحابة ( رضي الله عنهم ) بأجمعهم اختلفوا في الغُسل من التقاء الختـــانين ، فقالت عائشة ــ رضي الله عنها ــ :” فعلته أنا ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاغتسلنا ” [12]  فرجعوا إلى ذلك ، وإجماعهم على الرجوع حجة وهو المطلوب ، وإنما كان لفعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) [13]  .

 وآثار الصحابة تشهد على ذلك حيث لما رأوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خلع في الصلاة ، خلعوا نعالهم ، فلما قضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاته ، قال : ما حملكم على إلقائكم نعالكم قالوا : رأيناك ألقيت نعليك ، فألقينا نعالنا ” [14] وكذلك لما رأوا بعد صلح الحديبية أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تحلل من إحرامه فنحر بدنه ، وحلق رأسه بادروا إلى ذلك مع أنهم كانوا متمسكين بإحرامهم على الرغم من أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالتحلل [15] وكذلك لما اتخذ خاتماً من ذهب اتخذوا خواتيم الذهب فلبسوها ، ثم نزعه ، ونبذه فنبذوا خواتيمهم [16]  وكذلك قبّل عمر الحجر الأسود ، وقال :” لولا أني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبَّلك ما قبَّلتُك ” [17] وغير ذلك .

وأما المعقول فالاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه ، ولا شك أن أعظم مراتب فعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هو الوجوب ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فلا يتأتى التأسي الكامل إلا إذا قلنا بوجوب فعله على أمته ، حتى لا يدعوا شيئاً منه ” [18]  .

ويمكن أن نناقش هذه الأدلة عموماً فنقول إنها جميعاً لا تدل على الوجوب ، بل منتهى ما تدل عليه هو وجوب الإتيان بمثل ما أتى به ، بحيث إن كان واجباً عليه فيكون واجباً على أمته ، وإن كان ندباً فيكون ندباً عليهم ، أو مباحاً له فيكون مباحاً عليهم ، ولا تدل إطلاقا على وجوب فعل شيء على أمته لم يكن واجباً عليه ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك بأن يكون مندوباً له فيكون واجباً على أمته ، كما يتضح من المناقشة التفصيلية لها :

فالآية الأولى لا تدل على الدعوى قال الرازي :” إن قوله : ( واتبعوه ) إما أن لا يفيد العموم ، أو يفيده ، فإن كان الأول سقط التمسك به ، وإن كان الثاني فبتقدير أن يكون ذلك الفعل واجباً عليه وعلينا : وجب أن نعتقد فيه ــ أيضاً ــ هذا الاعتقاد ، والحكم بالوجوب يناقضه ، فوجب أن لا يتحقق ” [19] وقد ذكر الجصاص أن الطاعة لا تتحقق إلا عند المماثلة ، أما إذا فعلنا فعلا ً على سبيل الوجوب وهو عليه مندوب فإن الطاعة لم تتحقق ، والاتباع لم يوجد ، فقال :” والاتباع : أن يفعل مثل فعله ، وفي حكمه ، فإذا فعله واجباً فعلناه واجباً ، وإذا فعله مندوباً ، أو مباحاً فعلناه كذلك ، لنكون قد وفّينا الاتباع حقه ، وفيما يقتضيه ” [20] وكذلك الجواب عن الآية الثانية .

وأما الآية الثالثة فلا تدل إلا على المساواة في الحكم ، وذلك لأن منتهى ما تدل عليه هو أن حكم أمته مساو لحكمه ، ولا تدل على أن ذلك واجب عليهم ، ولذلك استدل الجصاص بها على القول بالمساواة فقال :” فأخبر : أنه أباح ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليكون حكماً جارياً في أمته ، ونبهنا به على أن النبي ــ عليه السلام ــ وأمته في أحكــــام الشرع سواء إلا ما خصّه الله به ” [21] ، وكذلك الأصفهاني حيث قال :” وجه التمسك أن الله تعالى علل نفي الحرج عن المؤمنين في نكاح أزواج أدعيائهم بتزويج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) زوجة دعيه زيد ، فلو لم يكن حكم الأمة حكمه ( صلى الله عليه وسلم ) في الفعل المعلوم صفته لم يكن للتعليل في الآية معنى ، لأنه حينئذ لم يلزم من نفي الحرج عن المؤمنين ” [22] .

وأما الآية الرابعة ، فلا يسلم أن لفظ ” أمره” حقيقة في الفعل ، حتى لو سلم فإن حمله على اللفظ أقوى من القول ، أو مساو له ، وحتى لو فرضنا صحة ذلك من الناحية النظرية فإن هناك موانع من حمله على الفعل منها : أن تقدم ذكر الدعاء ، والمخالفة يمنع من ذلك ، فإن الإنسان إذا قال لآخر :” لا تجعل دعائي كدعاء غيري ، واحذر مخالفة أمري ” فهم منه أنه أراد بالأمر القول ، ومنها ــ كما قال الرازي ــ أن الإجماع قائم على أن المراد به : القول ، فلا يجوز حمله على الفعل ، بالإضافة إلى أن الضمير في ” أمره” ليس راجعاً إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بل إلى الله تعالى لأنه أقرب المذكورين ، ولأنه يؤدي إلى التأكيد ، وذلك لأنه لما حث على الرجوع إلى أقوال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأفعاله أكد ذلك بالتحذير من مخالفة أمره ، ثم إن هذه المخالفة عن أمره التي حذرنا الله تعالى عنها إنما تتحقق بترك ما هو واجب عليه وعلينا ، ولا يكون بترك ما هو مباح ، أو مندوب له [23] .


وأما الجواب عن الإجماع فمن وجوه :

أولها : أن ما ذكروه لا يعتبر إجماعاً ولا سيما الإجماع الصريح ، لأنه لم يرد عنهم التصريح بذلك ، وحتى لو سلم ذلك لا يدل على أن إجماعهم كان على وجوب جميع أفعاله المطلقة على أمته ، وإنما على مطلق المتابعة المتحققة بوجوب المساواة .

ثانيها : أن فهم الوجوب من الصحابة كان لدليل خاص ، حيث لو تابعنا الأمثلة الواردة بهذا الخصوص لوجدنا أكثرها مسبوقة بأمر خاص مثل ” صلوا كما رأيتموني أصلي ” ، بخصوص خلع النعال في الصلاة ” وخذوا عني مناسككم ” [24] بخصوص التحلل من الحج ونحو ذلك ، أو أنهم لم يفعلوها على سبيل الوجوب بل من باب حب المتابعة والتأسي ، يقول الرازي :” وأما خلع النعل فلا نعلم أنهم فعلوا ذلك واجبـــاً ، وأيضاً لا يمتنع أن يكونوا ، لما رأوه قد خلع نعـــله مع تقدم قوله تعالى : (( خذوا زينتكم عند كل مسجد )) [25] رأوا أن خلعها مأمور به غير مباح ، لأنه لو كان مباحاً لما ترك المسنون في الصلاة ، على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم :” لم خلعتم نعالكم ؟ فقالوا : لأنك خلعت نعلك ، فقال :” إن جبريل أخبرني أن فيها أذى ” فبين بهذا أنه ينبغي أن يعرفوا الوجه الذي أوقع عليه فعله ، ثم يتبعونه ، وأما خلع الخاتم فهو مباح ، فلما خلع أحبوا موافقته ، لا لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم ” [26] ، ثم دل الدليل الخاص على حرمة خاتم الذهب [27] .

 وأما تقبيل عمر الحجر الأسود فلا يظهر فيه الدلالة على اعتقاد الوجوب ناهيك عن أن ذلك مسبوق بالأمر النوي الخاص بوجوب أخذ المناسك عنه ، وكذلك الأمر في اتباعهم في التحلل بالحديبية ، وكذلك الأمر في الاغتسال من التقاء الختانين حيث أخذوا هذا الحكم من الحديث القولي وليس من الفعل فقط كما رواه مسلم [28]  ، أو لأنهم اتفقوا على وجوب الغسل منه ، لأن فعله وقع بياناً ، لقوله تعالى : (( وإن كنتم جنباً فاطهروا )) [29] ، ولا نزاع بينهم في وجوب اعتبار هذا الفعل .

 ولذلك قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر هذه الآثار :” وليس في جميع ما ذكره ما يدل على المدعي من الوجوب ، بل على مطلق التأسي به ” [30] .

وأما الرد على دليلهم العقلي فهو أن الاحتياط إنما يصار إليه إذا لم تعرف صفة فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحتى في هذه الحالة فاللجوء إليه لا يخلو من ضرر وهو احتمال كونه خاصاً به فحينئذ يحرم على أمته ــ كما سيأتي ــ وأما في موضوعنا فليس من الاحتياط أن نوجب على الأمة فعلا ً هو مندوب أو مباح بالنسبة له ( صلى الله عليه وسلم ) بل إن ذلك يعتبر مخالفة وليس موافقة ، وتأسياً ، وأيضاً أن ذلك لو كان واجباً لأدى إلى وجوب البحث عن كل فعل منه حتى نقوم به ، يقول العلامة الجصاص ” ومن الدليل على أن ظاهر فعله لا يقتضي وجوب مثله علينا : أنه لا يصح تكليفنا عموم مثل أفعاله ، لأنا نقدر عليه ، ولا نتوصل إليه ، لأن من كان مخاطباً بذلك يحتاج إلى ملازمته ، وترك مفارقته ، فاستحال من أجل ذلك تكليفنا عموم أفعاله ، فلما استحال ذلك علمنا أن بعضها غير واجب ، فلو كان بعضه واجباً لاستحال أن يميز ما هو واجب منها مما ليس بواجب ، بدلالة غير الفعل ، فإذاً لا يصح الاستدلال بظاهر فعله على وجوب فعل مثله علينا ” [31] .

 سابعاً : استدل القائلون بالندب : بالكتاب ، والإجماع ، والمعقول :

أما الكتاب فقوله تعالى : (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )) ، وجه الاستدلال به هو أنه لو كان التأسي واجباً لقال :” عليكم ” فلما قال ” لكم ” دل على عدم الوجوب ، ثم لما أثبت الحسنة دل على رجحان الفعل على جانب الترك ، فلم يكن مباحاً [32] .

 وأما الإجماع فهو أنا رأينا أهل الأمصار متطابقين على الاقتداء في الأفعـــال بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا يدل على تحقق اتفاقهم على دلالتها على الندب [33] .

 وأما المعقول فهو أن الفعــــــل يقتضي أن يكون كل ما فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكون بالنسبة لنا راجح الفعل ، مرجوح العدم ، وهذا هو المراد بالندب [34]  .

 ويمكن أن تناقش هذه الأدلة بأن الآية ــ تدل على الأسوة الحسنة ــ وهي إنما تتحقق إذا أجرينا أفعالنا مثل فعله نوعاً وصفة ، فإن كانت واجبة عليه تكون واجبة علينا ، أو ندباً فتكون ندباً لنا ، وهكذا ، فلا يحصل التأسي إذا كان فعله واجباً أو مباحاً ونحن فعلناه مندوباً [35] .

 وأما ادعاؤهم الإجماع فغير مسلم ، قال الرازي :” لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل فلعلهم وجدوا مع الفعل قرائن أخرى [36] .

 وأما الجواب عن المعقول فلا نسلم الحصر في الندب ، بل العقل يقتضي غيره ، ولا سيما أن الأدلة دالة على التأسي والمساواة [37] .

 ثامناً : استدل القائلون بالإباحة بأنها هي المتحققة ، لأن رفع الحرج عن الفعل والترك ثابت ، وزيادة الوجوب والندب لا تثبت إلا بدليل ، ولا يوجد إذن فوجب الوقوف عند الإباحة إلا إذا دل دليل صرف دلالته إلى غير ذلك .

والجواب عن ذلك واضح ، وهو أن الأدلة شاهدة على المساواة ــ كما سيأتي ــ بالإضافة إلى أن هذا الكلام إنما يصدق في الفعل الذي لم تعلم صفته ، لكن إذا علمت صفته ، ولم نجد دليلا ً على تخصيصه به فكيف نجعل فعلا ً واجباً عليه مباحاً لأمته [38]


الترجيح :

وبعد هذا العرض والمناقشة : الذي يظهر لنا رجحانه هو القول الأول ، أي أن أمته   ( صلى الله عليه وسلم ) مثله في الأفعال التي علمت صفاتها من وجوب وندب ، وإباحة ، ولم يدل دليل على تخصيصها به ، فما كان واجباً عليه يجب علينا فعله ، وما كان مندوباً له يكون مندوباً لنا ، وما كان مباحاً فيكون لنا مباحاً ، يدل على ذلك آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : (( أطيعوا الله ….)) [39] ، و (( ….. فاتبعوني يحببكم الله )) [40] ، قال الجصاص : ” فلما أمرنا بطاعته واتباعه ، وكانت طاعته واتباعه لا يكونان إلا بأن نوقع أفعالنا على الوجه الذي يريده منا … لأن شرط الاتباع إيقاعه ــ أي الفعل ــ على الوجه الذي أوقعه عليه ، ومتى خالفناه في هذا الوجه خرجنا من حد الاتباع ” [41] .

ومنها قوله تعالى : (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )) ، فالتأسي إنما يتحقق إذا فعلناه على الوجه الذي فعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكذلك الآيات التي ذكرناها للقول بالوجوب حيث ظهر بعد المناقشة أنها تدل على وجوب المماثلة ، وليست وجوب الفعل في حد ذاته .

 قال الجصاص :” ويدل على ذلك حديث المرأة التي سألت أم سلمة حين بعث بها زوجها إليها لتسألها عن القبلة للصائم ، فأخبرتها : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقبل وهو صائم فقال الرجل : لست كالنبي ــ عليه السلام ــ إن الله تعالى قد غفر لنبيه ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ، فلما جاء النبي ــ عليه السلام ــ سألته ، فقال النبي لأم سلمة :” هلا أخبرتيها أني أقبل ، وأنا صائم ” فقالت أم سلمة : قد أخبرتها بذلك …. ” [42] .

فأعلم النبي ــ عليه السلام ــ أن وجود فعله في ذلك كان كافياً في الاقتصار عليه في مسألته عن حكم نفسه … ” [43]  .

 وقال الرازي :” وأما الإجماع فهو أن السلف رجعوا إلى أزواجه في قبلة الصائم ، وفي أن من أصبح جنباً لم يفسد صومه [44] ، وفي تزوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ميمونة وهو حرام ــ أي محرم ” [45] ، وذلك يدل على أن أفعاله لا بد أن يتمثل فيها طريقه ” [46] .

 ويقول الأصفهاني :” وبيان الإجماع أنا نقطع بأن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته من الوجوب والندب والإباحة عند كل حادثة ، ويقتدون بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك الفعل ، من غير نكير أحد منهم ، كرجوعهم إلى تقبيله ــ عليه السلام ــ للحجر الأسود ، وإلى تقبيله لنسائه وهو صائم وذلك دليل إجماعهم على أن حكم الأمة حكمه ــ عليه السلام ــ في الفعل الذي علن صفته ، وإلا لم تفد المراجعة لهم ” [47] ، وهذا الرأي هو الذي رجحه كثير من المحققين الأصوليين ، منهم الجصاص والسرخسي ، والرازي ، وابن الحاجب ، والأصفهاني وغيرهم [48] .

 ومن الجدير بالتنبيه عليه هو أن أداء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعلا ً مجرداً لا يفهم منه ــ من حيث هو ــ كونه واجباً عليه ، أو مندوباً ، أو مباحاً ، وإنما لا بد من قرائن تدل على ذلك ، وتتم هذه المعرفة في الغالب عبر الأقوال النبوية ، ولا سيما الواجبات ، ومن هنا يكون دور الفعل هو بيان كيفية أداء الفعل ، ولكنه مع ذلك قد يدل غير القول على الوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة ــ كما سيأتي تفصيله ــ وإذا لم تعلم صفته من خلال دليل مقبول فهذا يدخل في الفرع الثاني الآتي .

 الفرع الثاني : فعله المجرد المبتدأ الذي لم تعلم صفته :

وذلك بأن لم نجد أي دليل على حكم هذا الفعل الذي فعله النبــي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أي لم يعرف كونه واجباً عليه أم مندوباً ، أو مباحاً له ، أو خاصاً به .

 وهذا النوع أيضاً قد ثار فيه خـلاف كبير يمكن حصره واختصاره في خمسة آراء هي :

الرأي الأول : وهو منسوب إلى ابن سريج ، وأسنده الكثيرون إلى ظاهر قول الشافعي ، وإلى أكثر أهل العراق ، واختاره القطان وغيره [49]  أنه يحمل ذلك على الوجوب بالنسبة لأمته ، حيث إنه الأحوط ، بالإضافة إلى الأدلة السابقة في الفرع الأول التي ذكرها أصحاب الاتجاه القائل بالوجوب ، وقد قمنا بردها ومناقشتها ووجدناها لا تنهض دليلا ً على الدعوى ، وهنا يظهر ضعفها أكثر ، لاحتمال الخصوصية التي لا يجوز معها الاقتداء ناهيك عن الوجوب ، وقد ذكر الغزالي أن حمله على الوجوب تحكم وترجيح بدون مرجح ، لأن فعله متردد بين الوجوب والندب ، والإباحة ، بل حتى الحظر عند من أجاز صدور الصغائر عنه [50]  فحمله على الوجوب بدون دليل تحكم بين ” [51] بل يصرح ابن حزم الظاهري بأنه :” لو كانت الأفعال على الوجوب لكان ذلك تكليفاً لما لا يطاق من وجهين ضروريين أحدهما أنه كان يلزمنا أن نضع أيدينا حيث وضع ( صلى الله عليه وسلم ) يده … وأن نمشي حيث مشى … وهذا كله خروج عن المعقول ” [52] .

 الرأي الثاني : يحمل على الندب ، وقد استدل بالأدلة التي ذكرناها سابقاً وهذا هو ما ذهب إليه الظاهرية [53]  ، وهو رأي أسنده الزركشي إلى أكثر الحنفية ، والمعتزلة ، ونقله القاضي عن الصيرفي ، والقفال الكبير ، قال الروياني هو قول الأكثرين ،  وقال ابن القشيري : في كلام الشافعي ما يدل عليه وقد سبقت أدلتهم .

 الرأي الثالث :  الإباحة ، وهو منقول عن بعض العلماء [54]  .

 الرأي الرابع : التوقف ، أي لا يحمل الفعل المذكور على حكم معين بالنسبة لنا ، للأدلة السابقة ، يقول الغزالي في الرد على الأقوال الثلاثة السابقة وترجيح هذا الرأي :” وهذه تحكمات ، لأن الفعل لا صيغة له ، وهذه الاحتمالات متعارضة ، ونحن نفرد كل واحد بالإبطال .

أما إبطال الإباحة فهو أنه إن أراد به أنه أطلق لنا مثل ذلك فهو تحكم لا يدل عليه عقل ، ولا سمع ، وإن أراد به أن الأصل في الأفعال نفي الحرج ، فيبقى على ما كان قبل الشرع فهو حق وقد كان ذلك قبل فعله فلا دلالة إذاً لفعله ، أما إبطال الحمل على الندب فإنه تحكم إذا لم يحمل على الوجوب ، لاحتمال كونه ندباً ، فلا يحمل على الندب ، لاحتمال كونه واجباً ، بل لاحتمال كونه مباحاً … ثم نقول : إذا انقسمت أفعاله إلى الواجب والندب لم يكن من يحمل الكل على الوجوب ، أو الندب متأسياً “[55]

LinkedInPin