الدوحة – العرب

يقول فضيلة الشيخ علي محيي الدين القرة داغي في باب منفعة الإجارة وخصائصها وضوابطها:

أولاً خصائصها

تمتاز المنفعة بمجموعة من الخصائص لا توجد في غيرها، وترتبت عليها اختلافات بين الفقهاء، وهي:

الخصيصة الأولى أن المنفعة عرض غير محسوس، وأنها تتجدد ساعة فساعة، لذلك لا تتحقق بذاتها منفردة، بل تتعلق بمحلها.

وبناء على هذه الحقيقة اختلف فيها الفقهاء، فالمتقدمون من الحنفية لم يدخلوها في الأموال، كما أن نظرية الأعذار التي تفسخ بها الإجارة مبنية على ذلك -كما سبق- وبعض الشافعية جعلوا العين المأجورة محلاً للعقد -كما سبق-.

الخصيصة الثانية أن المنافع تستهلك، وتفنى، ثم تتجدد وتنتهي عند استعمالها، وتتجدد، حيث ينتجها المحل شيئاً فشيئاً وأنها عرض لا يبقى وقتين، حتى يقول السرخسي: (فلا يتصور كونها في يد المالك) ولذلك لا تقبل الادخار والتخزين على عكس المادة.

الخصيصة الثالثة أن قبض المنافع لا يتحقق إلا بقبض محلها، أو بأصل العقد، وقد كانت نظرة متقدمي الحنفية إلى أن المنافع غير قابلة للحيازة، بل إنها غير موجودة في نظرهم فضلاً من إحرازها، لأنها عرض غير باق وغير مستقر، لكنهم استحسنوا لحاجة الناس فقالوا: إنها يتم إحرازها بالعقد نفسه، وبإقامة محلها مقامها للحاجة العامة بالإضافة إلى الأدلة الشرعية الدالة على صحة عقد الإجارة.

والتحقيق أن مسألة القبض تعود إلى العرف، وبالتالي فإن عرف الناس قائم على أن حيازة المنافع تتحقق بالعقد ثم بتمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة.

ومن جانب آخر فإن الغرض المطلوب من الحيازة يتحقق بذلك التمكين من خلال أن آثاره متحققة وملموسة، فمثلاً لو تملكت القوة الكهربائية بعقد الإجارة فإن آثار منافعها ملموسة من خلال الإضاءة، وبقية الاستعمالات، وهكذا الأمر عندما تستأجر الخط التليفوني، فالنتيجة إذن متحققة.

ثانياً شروطها وضوابطها

ويشترط في المنفعة التي تكون محلا للإجارة الشروط والضوابط التالية:

الشرط الأول أن تكون معلومة علماً تندفع به الجهالة المؤدية إلى النزاع، وذلك ببيان محل المنفعة، وبيان مدتها، إلا إذا كانت الإجارة مرتبطة بإنهاء عمل، وببيان العمل في استئجار الصناع والعمال، وهناك تفاصيل تخص إجارة الأعيان والمنافع لا يسع البحث لذكرها هنا. ونذكر هنا بعض الضوابط التي تعد بمثابة التفصيل لما ذكر آنفاً، وهي:

أ- تحديد العين المستأجرة، وتبيينها، وتمكين المستأجر من المنفعة في الإجارة المعينة، وبيان الصفات المطلوبة لرفع الجهالة في الإجارة الموصوفة في الذمة، فلو كانت المنفعة السكنى فتضبط من خلال ذكر جميع الصفات المطلوبة للسكن بحيث تكون الصورة الذهنية لنوعية المنفعة واضحة جداً للطرفين، وفي الإجارة المعينة يحدد المحل من خلال الرؤية أو التعيين، أو الإشارة إليه.

ب- بيان مدة الإجارة، وزمن التسليم، ومدة الانتفاع بدقة مثل السنة أو الشهر أو الأسبوع أو اليوم أو الساعة، حسب عرف محل الإجارة، فتحديد المدة شرط أساسي لصحة العقد.

ج- الرجوع إلى العرف السائد الذي يحدد كيفية القبض وكيفية الاستعمال والاستغلال في العقارات والفنادق، والسيارات والطائرات والسفن ونحوها.

د- إن الإجارة تضبط من خلال شروطها وقيودها، وتفاصيلها التي يتضمنها العقد نفسه، أو النشرة المرفقة أو اتفاقية التفاهم المشترك التي تحدد كيفية الاستعمال والاستغلال، والمدة.. إلخ.

هـ- ضبط محل المنفعة بضبطها بالوحدات مثل منفعة الكهرباء، والاتصالات الحديثة من التليفون، والإنترنت، وخدمة التلفاز ونحوها، وأصبح هذا الضبط اليوم في غاية من الدقة، لذلك ارتفعت الجهالة وانتفى الغرر عما ذكرناه كلياً وفي هذا يقول الشاطبي: (أنفس الرقاب ضبط طلي لجملة المنافع فهو معلوم من جهة الكلية الحاصرة، بخلاف أنفس المنافع مستقلة بالنظر فيها، فإنها غير منضبطة في أنفسها ولا معلومة أمداً، ولا حداً، ولا قصداً، ولا ثمناً، ولا مثمناً، ولذا إذا ردت إلى ضابط يليق بها يحصل العلم من تلك الجهات أمكن العقد عليها، والقصد في العادة إليها.. فكانت الأعيان ضابطاً كلياً للمنافع.. فالنظرة إلى الأعيان نظر إلى كليات المنافع..).

إجارة المنفعة المجهولة للحاجة والإجارة بالنسبة المئوية

ذكر ابن رشد أن طائفة من السلف، وأهل الظاهر ذهبوا إلى جواز إجارة المجهولة من حيث عدم التحديد والتعيين، والأجرة النسبية التي تنتهي بالتعيين، مثل أن يعطي دابته لمن يسقي عليها بنصف ما يعود عليه قياساً على المضاربة، وهذا مذهب أحمد وابن سيرين، وإليه مال البخاري.

الشرط الثاني أن تكون المنفعة متقومة أي أن تكون لها قيمة مقصودة حسب العرف، فلا تصح إجارة التافه الحقير الذي لا يقابل بالمال، وذكر بعض الفقهاء من أمثلتها استئجار تفاحة للشم.

الضابط الثالث أن تكون مباحة الاستيفاء، فلا تكون معصية ممنوعة ولا طاعة واجبة، وهذا الشرط فيه تفصيل وخلاف.

الشرط الرابع أن تكون مقدورة الاستيفاء حقيقة وشرعاً، فلا تصح إجارة المغصوب من غير الغاصب.

الشرط الخامس ألا تستهلك العين المؤجرة بالإجارة مثل الطعام.;