ينطلق الإسلام في نظرته إلى الحضارات والعمارة من منطلق أن الإنسان خليفة في الأرض ، وان الله تعالى زوده بكل مقومات التعمير والبناء والحضارة ، وأعطاه من صفاته التي تحقق من هذا الغرض المنشود مثل العلم والقدرة والإرادة ، قال الفقيه ابن العربي : ( ليس لله خلق أحسن من الإنسان فإن الله جعله حياً عالماً قادراً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً وهذه صفات الربّ ، وعنها عبر بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خلق آدم على صورته )[1] أي على صفاته التي قدمنا ذكرها )[2] ، ولذلك حينما فهم الملائكة أن أسباب هذه الخلافة ينبغي أن تعود إلى العصمة والتسبيح والذكر والسجود لله تعالى ، وهذا موجود في الملائكة ، في حين ان الإنسان ليس على هذا المستوى حيث يعصي الله تعالى ، إذن فليس أهلاً لأن يكون خليفة في الأرض ،ردّ الله عليهم ذلك مبيّناً أن هذه الخلافة تعطى لمن هو قادر على كيفية التعامل مع الكون من خلال العلم ، فقال تعالى لملائكته : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ، وعلّم آدم الأسماء كلها كلَّها ثمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إنْ كنتم صادقين ، قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ علمتّنا إنك أنت العليم الحكيم ، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)[3].
وبعد ما أظهر للملائكة هذه الأسرار وبيّن لهم فضل الإنسان ، أمرهم بالسجود سجود اعتراف وتحية إلى هذا الإنسان الذي سخر الله تعالى هذا الكون كله لأداء مهمته في التعمير وإذا أراد أن يسعد في الآخرة فعليه أن يعبد الله تعالى ويعمر الكون على ضوء منهج الله تعالى في الإصلاح دون الإفساد والظلم .
فهذه القصة واضحة جداً في بيان التصور الإسلامي نحو فضل الإنسان ودوره في هذا الكون في التعمير وبناء الحضارة على ضوء سنن الله في التعمير ، وقد أكد القرآن هذه الحقيقة أكثر من مرة من خلال آيات أخرى تدل على دور الإنسان وما كلف به ، وما سخر الله تعالى له فقال : ( ألم تروا أن الله سخرَّ لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة … )[4] وفي سور كثيرة فصَّل الله تعالى أنواع التسخير للشمس والقمر ، والليل والنهار ، والحيوانات والبحار والجمادات.
الأمم والشعوب سواء في بناء الحضارة :
والإسلام أراد من أول يوم نـزل بناء مجتمع حضاري يقوم على العدل والانصاف والمساواة بين جميع البشر دون التفرقة بين جنس وآخر ، ولون وآخر دون تفاضل إلاّ على أساس العمل الصالح ( الانتاج للدنيا والآخرة ) والإخلاص والتقوى ، فكلهم من آدم وآدم من تراب ، وإذا وجد تخلف في أي شعب فإن أسبابه تعود إلى الظلم والبعد عن المنهج القويم ، لكن الشعب نفسه إذا اتيح له المجال فهو مثل بقية الشعوب والأجناس الأخرى وبذلك قضى على العنصرية التي لم تتخل عنها معظم الأمم السابقة واللاحقة ، فكل أمة إذا سيطرت وغلبت ادعت لنفسها نوعاً من الأفضلية والاختيار لا يوجد في أمة أخرى ، أو شعب آخر كما حدث للرومان ، والفرس والإغريق واليونان ، بل وصلت إلى بعض الديانات القديمة بعد تحريفها حيث تدعي اليهودية أن اليهود هم شعب الله المختار .
بل وصلت هذه العنصرية إلى القرون الأخيرة فقد ألف أرفوردو غوبينو (ت1882) كتابه المسمى ( بحث في تفاوت العروق البشرية ) في أربعة مجلدات يشرح فيها أسباب رقي المجتمعات وتأخرها ويصل إلى أن الجنس الأبيض هو أعلى العروق وأرفعها وأقدرها على الإبداع والحضارة [5]. وتبعه ستوارت تشميرلن في كتابه ( دعائم القرن التاسع عشر بالألمانية عام 1899م ) ، ودوبلاج في كتبه : ( الاصطفاءات الاجتماعية عام 1896م ) ، ( والآري وتصرفه الاجتماعي عام 1899م ) ( والعرق والبيئة الاجتماعية عام 1909م ) ، وفرانسيس غالتون وغيرهم ، بل تجسدت هذه الأفكار من خلال النازية والعنصرية التي تبناها هتلر ، وموسوليني .
وحينما ذاق العالم ويلات الحرب العالمية الثانية التي دمرت العالم بسبب هذه النـزعة العنصرية قام المفكرون الغربيون أنفسهم بمواجهة هذه الفكرة المدمرة وإن كان بعضهم قد ردّ عليها حتى قبل الحرب العالمية الثانية ، أمثال جوان كوماس عالم الأجناس البشرية ، حيث أثبت عدم وجود فوارق بينها ، وأثبت العالم الإيطالي نبشفورد والدكتور برسوتر وغيرهم عدم التفرقة بين الأجناس والألوان في الذكاء والفقر والغنى والانحراف والخمول ، بل إن العالم الاجتماعي المعروف كارل بيرسون أجرى احصاءً على ألف مجاز من جامعة كمبرج وخمسمائة طالب بها فلم يجد أي علاقة بين لون الشعر ودرجة الذكاء .
كما قام بإجراء إحصاء للعباقرة في الجزر البريطانية ليعرف نسبة الشقر فيهم ونسبة السمر فكانت النتيجة مخيبة لآمال العنصرين حيث وجد أن عدد العباقرة (424) وأن ألوانهم كالآتي : (115أسمر) ، (85قاتماً) ، (71أشقر) ، (99كستناوياً) ، ( 54وسطاً) [6].
وجاء في قصة الحضارة : ( وقصارى القول : إن الآريين لم يشيدوا صرح الحضارة ، بل أخذوها عن بابل ومصر ، وأن اليونان لم ينشئوا الحضارة إنشاءً ، لأن ما ورثوه منها كان أكثر مما ابتدعوه … فإن درسنا الشرق الأدنى وعظمنا شأنه فإنا بذلك نعترف بما علينا من دين لمن شيّد بحق صرح الحضارة الأوربية والأمريكية ، وهو دين كان يجب أن يؤدى من زمن بعيد ) [7].
وجاء بعدهم أرنولد توينبي ليهدم تلك النظرية العنصرية من أساسها بأدلة علمية دامغة [8]. وقصدنا بذلك أن ما وصل إليه المفكرون المنصفون في القرن العشرين هو مبدأ إسلامي عظيم سبقهم إليه بعدة قرون .
عناصر الحضارة الأساسية في الفكر الإسلامي :
تكمن هذه العناصر في الإنسان الذي زوده الله تعالى بكل ما يحتاج إليه في التعمير ، وفضله وكرمه ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً )[9] وفي الأرض التي زودها الله تعالى بكل عناصر الحياة ومقومات البناء والابداع حيث سلمها الله تعالى الأرض وهي صالحة إلى الإنسان فأمره بالإصلاح ونهاه عن الإفساد فيها فقال تعالى : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين )[10] وتحدث عن المفسد الملعون في نظر الإسلام بقوله : ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد )[11] .
والإسلام لا يختصر عناصر الحضارة في الأرض بل يضم إليها بقية أجزاء الكون التي سخرها الله تعالى للإنسان من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والمجرات وما فيها فقال تعالى : ( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )[12] .
والعنصر الثالث هو القيم الإسلامية في مجال العقيدة وربطها بالتعمير ، والقيم الخلقية ، وقيم العمل والبناء وقيم احترام الوقت وغير ذلك مما لا يسع المجال لذكرها ، فهذه القيم كلها ربطت المسلم بالحضارة والبناء باعتبارها عبادة ، بل إن تصفح صفحات الكون بالتفكير والتذكر والاستفادة كتصفح صفحات القرآن من حيث الأجر والثواب والعبودية ، فقال تعالى : ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً ……. )[13] .
بعض القيم المؤثرة في الحضارة :
ونتحدث هنا عن بعض القيم الإسلامية المؤثرة في الحضارة وهي :
1 ـ إعطاء الأهمية للعقل والتفكير :
فالعقل سبب تميز الإنسان عن غيره ، وهو مناط التكليف ، وهو الدليل للوصول إلى الله تعالى ، وهو أكرم شيء في الإنسان فقد ورد في حديث مرسل جيد الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أول ما خلق الله تعالى العقل ، فقال له : أقبلْ ، فأقبل ، ثمَّ قال له :أدبر ، فأدبر ، ثمَّ قال : وعزتي وجلالي ما خلقت أكرم علي منك ، بك آخذ ، وبك أعطي ، وبك أثيب وبك أعاقب)[14].
وقد اعتنى القرآن الكريم عناية قصوى بالعقل ، وربط بين الكفر والجهل والضلالة ، وبين عدم العقل ، كما ربط بين دخول النار وعدم العقل فقال تعالى : ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير )[15] أي لو كنّا نسمع الوحي المنـزل ، أو نعقل ونفكر في هذا الكون لأمنّا بهذه الرسالة ، وبمقتضاها ، وحينئذٍ ما كنّا من أهل جهنم ، وقال تعالى في أكثر من آية في الربط بين الكفر وبين عدم العقل : ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )[16] ، وقد أعطى الله تعالى أيضاً الدور للعقل في فهم الأمثال وتحليلها والوصول فيها إلى النتائج فقال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون )[17].
ودور العقل في النظر والاستفادة من الكون في التسخير والتعمير وبناء الحضارة في قوله تعالى : ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنـزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثَّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )[18] .
ودور العقل في الوصول إلى أن الدين ضرورة للحياة وأن الآخرة خير من الدنيا في قوله تعالى : ( والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون )[19] ، وقوله تعالى : ( لقد أنـزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون )[20] .
وقد تكرر لفظ ( عقل ) ومشتقاته في القرآن الكريم تسعاً وأربعين مرة شملت أهميته ، ودوره في مجالات الحياة كلها من مجالات العقيدة والعبادة ، والآخرة والعمل الصالح ، وتعمير الكون .
فبلا شك فإعطاء هذا الدور الكبير للعقل يعود بالنفع العظيم والتشجيع على الإبداع والابتكار وتسخير الكون وتعميره تعميراً صالحاً .
وأما التفكير في الكون للوصول إلى خالقه ومدبره ، والتفكير فيه لتسخيره وتعميره وإصلاحه والاستفادة من كل ذراته فريضة شرعية [21] دلت عليها النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة ، منها قوله تعالى : ( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار )[22] .
بل دلّ القرآن الكريم بأن الآيات تنـزل إلاّ ليتفكر فيها فقال تعالى : ( وأنـزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نـزل إليهم ولعلهم يتفكرون )[23] ، وقال تعالى : ( كتاب أنـزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب )[24] ، وأن الآيات الكونية والقرآنية لم يفصل فيها إلاّ لأجل التفكير فيها فقال تعالى : ( كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون )[25] .
فقد تكررت ألفاظ ” تفكر ” ومشتقاته ، و” تدبر ” ومشتقاته ، ولفظ ” فقه ” ونحوه و ” تذكر ” ومشتقاته مئات المرات في القرآن الكريم ، فهذا الدين دين العلم والعقل والفقه والفهم ، والتدبر والتفكر ، لأنه متفق مع الفطرة السليمة ومع العقل السليم ، وأنه لا يمكن أن يتعارض نصّ صريح صحيح مع العقل السليم ، وهذا ما صرح به علماء المسلمين قاطبة .
فهذه العناية بالتفكير تدفع المسلم نحو الإبداع والإنتاج من خلال التفكير العميق في كلّ ذرة من ذرات الكون كله بمجراته ، وشموسه ، وكواكبه ، ونجومه .
ومن جانب آخر فإن هذه العناية الإسلامية ، ومطالبة الإنسان بالتدبر في القرآن الكريم وتحديه بأنه لا يجد فيه نقصاً ولا خلالاً ولا خلافاً وأكبر دليل على الثقة بالإسلام بأنه من عند الله الذي خلق العقل فأنـزل إليه هذا القرآن العظيم حتى يزداد تنوراً وقدرة على التعامل مع الكون ، وتدبير مصالحه في الدنيا والآخرة .
دور العقيدة الإسلامية في بناء الحضارة :
تكفل القرآن الكريم والسنة النبوية بشرح العقيدة وما يحتاج إليه المسلم من العلم بعالم الغيب بأدلة وبراهين مقنعة ، ثم أمر الإسلام المسلم بأن لا يخوض في عالم ما وراء الطبيعة ( الميتافيزيقيا ) بل يشغل عقله وفكره بعالم المادة والطبيعة لإنتاج العمل الصالح وخدمة الإنسان وتعمير الكون على ضوء منهج الصلاح ، ولذلك اهتدى المسلمون إلى المنهج التجريبي الذي أخذه الغرب فيما بعد وبنى عليه حضارته القوية .
لذلك تمتاز العقيدة الإسلامية بهذه المميزات التالية :
وضوح الرؤية لكل ما يحتاج إليه الإنسان .
الطمأنينة والسكينة والقناعة من خلال الإيمان بالقضاء والقدر .
فهم الأشياء على حقيقتها .
الصبر والجرأة والشجاعة في مواجهة الشدائد وعدم الانهيار أمام المصائب مهما كانت كبيرة ، وعدم الطغيان والتجبر والتكبر مهما أقبلت الدنيا على الإنسان كما قال تعالى : ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم )[26] ، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سرّاء فشكر فكان خيراً ، وإن أصابته ضرّاء فصبر فكان خيراً له ، وليس ذلك لغير المؤمن )[27] .
الإيمان بالمساواة بين البشر وتحقيق العدل والتكافل الاجتماعي ، لأن ربهم واحد فهو خلقهم من أصل واحد ، وأوجب عليهم ما يحقق العدل والخير للجميع .
التصور الشامل للكون :
الكون مخلوق لله تعالى وبيّن القرآن بعض تفاصيل هذا الخلق حيث كان دخاناً ، ثم ماءً ، ثم كان شيئاً واحداً ففتقه ، فقال تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين )[28] ، وقال تعالى: ( أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ) [29].
هذه المخلوقات خلقت لغاية وهدف دون عبث ( ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب عذاب النار )[30] ، ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين )[31] ، وقال تعالى 🙁 وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار)[32] ، وقال تعالى:( أفحسبتم أنا خلقناكم عبثاُ وأنكم إلينا لا تُرجعون )[33] .
وقد خلق الكون علىتمام الاتقان والنظام ودقة التقدير وشدة الاحكام واهتداء كل شيء قال تعالى : ( صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون )[34] ، وقال تعالى : ( فلينظر الإنسان مم خلق )[35] ، وقال : ( ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا )[36] ، وقال : ( والذي قدر فهدى )[37] ، وقوله : ( أعطى كل شيء خلقه ثم هدى )[38] .
وأن المخلوقات خلقت لنفع الإنسان قال تعالى : ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنـزل ربكم قالوا خيراً )[39] فهذا التصور الشامل يساعد الإنسان على التعمير والإبداع والإنتاج ، لأن العلم والمعرفة هو الأساس للإبداع ، ومن جانب آخر فإن الإنسان المسلم لا يحتاج إلى أن يشغل عقله وتفكيره في عالم الغيب ، لأن المعلومات حوله كافية ، لذلك يسخر كل عقله وطاقاته للتعمير المادي في حين لو انشغل عقله بعالم الغيب لما استطاع أن يبدع في عالم المادة .
قانون السببية في الخلق واحترام السنن :
يقوم الخلق كله على قانون السببية فقال تعالى : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون )[40] ، ( فأتبع سببا )[41] ، وقد أقر الإسلام هذا القانون في إطار متوازن مع الإيمان بقدرة الله تعالى وإرادته دون تعارض ولا تصادم ، ولذلك فرق بين التوكل المطلوب الذي يعني الاعتماد على الله والإيمان بقدرته ، ثم الأخذ بجميع الأسباب المتاحة ، وبين التواكل المنبوذ الذي يعني التكاسل وإهمال الأخذ بالأسباب وبالتالي الفشل والخسران .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع تصرفاته وحركاته وفتوحاته يعتمد على جميع الأسباب المتاحة بعد التوكل على الله تعالى حيث لم يهمل أي سبب متاح ، ففي هجرته خرج بشكل اعتمد فيه على كل وسائل الإخفاء عن قريش بما لايدع أي مجال للشك في أن الأخذ بالأسباب مطلوب حتى للأنبياء ، وكذلك في غزوة بدر حتى استفاد من الشمس حيث جعلها خلفه حتى تطلع متجهة نحو عيون المشركين ، وقد لبس في غزوة أحد درعين[42] تعويداً للأخذ بالأسباب ، حيث كانت سيرته العطره تجسيداً لهذا التوازن الرائع بين الإيمان بالله والتوكل عليه وبين الأخذ بالأسباب المشروعة المتاحة [43] .
بل إن القرآن الكريم إضافة إلى أمره الأخذ بالأسباب وإعداد القوة ما استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، فإنه قد حدد النسبة في البداية بواحد من المسلمين إلى عشرة من المشركين ، ثم خفف إلى واحد إلى اثنين فقال تعالى : ( الان خفف عليكم وعلم أن فيكم ضعفاً إن يكن منكم مائة صابة يغلبوا مائتين )[44] ولم يكلف بأكثر من ذلك ، مما يدل على أهمية الكثرة والعدد بجانب القوة المعنوية .
وهذه العقيدة القائمة على الأخذ بالأسباب جعلت المسلمين أن يبذلوا كل جهودهم لتحقيق أسباب القوة والحضارة والتمكين غير معتمدين على الخيال والخرافات ، وحتى الكرامات والمعجزات التي إن أتت فهي بفضل الله تعالى ، فلم يدخل المسلمون على مرّ تأريخهم في أية معركة عسكرية أو حضارية معتمدين على المعجزات والكرامات فقط ، بل اعتمدوا على الله تعالى ثم على جميع الأسباب الممكنة ، ولذلك أراد الله تعالى أن يشهد صحب الرسول صلى الله عليه وسلم هزيمة عسكرية في معركة أحد ، حينما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر الذي كان يتعلق أيضاً بالأخذ بالأسباب ، حيث أمر الرماة أن لا ينـزلوا من فوق جبل عينين ، لكنهم نزلوا فحدثت المصـيبة ، فـقـال تـعـالى : ( أو لمّا أصـابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هـو من عند أنفـسكم )[45] .
ومن هنا استطاع المسلمون أن يحققوا حضارة رائعة خلال أقل من قرنين شهد بتقدمها والابتكارات فيها المنصفون .
قيمة البقاء والفناء :
ويعلم المؤمن أنه خالد بروحه وأعماله وإن بليت الأجساد ، وأن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأنه يجب عليه أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً ، ولآخرته كأنه يموت غداً ، وبذلك يوازن بين دنياه وآخرته ، كما أنه يؤمن بأنه لن ينفعه في الآخرة إلاّ الأعمال الصالحات الباقيات والصدقات الجاريات ، ولذلك لن يترك الدنيا إلاّ وقد ترك أثاراً طيبة تبقى بعده من العلم والعمارة لتشهد له في الدنيا والآخرة اقتداءً بإبراهيم عليه السلام قدوة الأنبياء حيث دعا ربه فقال : ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين )[46] ، أي ذكراً حسياً ، أي وفقني لأن أترك أثاراً نافعة طيبة يراها الناس من بعدي فيذكرونني بالخير حيث بنى الكعبة المشرفة ، والمسجد الأقصى فبذكره جميع المؤمنين .
نظرة الإسلام إلى الحضارات :
ينظر الإسلام إلى أن الحضارات جميعها تراث إنساني فيع عناصر الخير والشرّ ، والبناء والهدم ، والنفع والضرر ، وفيه الحسنات والسيئات .
وأن الأمة الإسلامية ليست مسؤولة عما جرى لها : ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون )[47] وإنما الأمة الإسلامية مطالبة بأن تأخذ منها ما هو صالح ونافع وتضيف إليه ما تستطيع إضافته ليكون لها دور وريادة وقدرة على البناء والتمكين .
فالمسلمون مطالبون بأن يأخذوا كل ما هو الأحسن من القول والفعل والتراث والعلم ، والحضارة ( فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنّى وجدها )[48] .
وكرر القرآن الكريم ” الحكمة ” عشرين مرة ، فجعل تعليم الحكمة من أهم وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )[49] ، وقال تعالى : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً )[50] وجعل تعليم الحكمة من أكبر النعم على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:( وأنزل الله عل