جاءت نصوص الشريعة مركزة في نصوصها القطعية على الأسس والأركان التي يبنى عليها هذا الدين، وتوضيح العقيدة الصحيحة، والقيم والأخلاق الراقية، وأسس المعاملات والتعامل مع الناس جميعاً تاركة التفاصيل في معظم الأشياء للأدلة الظنية، أو للاجتهادات الإنسانية في ظل المبادئ العامة والقواعد الكلية.
وبذلك جمعت الشريعة بين الثوابت التي لا تقبل التغير (أي بمثابة الهيكل العظمي للإنسان)، والمتغيرات التي تشبه أحوال الإنسان العادية القابلة للتغير وبذلك انسجمت الشريعة التي أرسلها للإنسان مع الإنسان الذي نزلت عليه: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
فالإنسان ثابت في حقيقته وجوهره وأصل عقله وروحه ونفسه ومكوناته وضرورياته وحاجاته العامة إلى المأكل والملبس والمشرب (وإن كانت النوعيات مختلفة لكن الأصل العام لم يتغير منذ خلق الإنسان إلى يومنا هذا)، ولكن الإنسان متغير في معارفه، وفي إمكاناته للتسخير وعلومه، وفي أنواع ملابسه ومشاربه ومآكله ومساكنه فقد وصل إلى القمر ومع ذلك يظل بحاجة إلى الهداية الربانية والعقيدة التي تملأ فراغ روحه ونفسه، وإلى قيم وأخلاق ربانية تمنعه من الازدواجية والعنصرية والظلم والإعساف،وتدعوه إلى العدل والمساواة والإنصاف،وتردعه عن إذلال الإنسان وازدرائه وأكل حقوقه وأمواله.
وبهذه الصفة العظيمة الجامعة بين الاستفادة من النقل والعقل، وبين الثوابت والمتغيرات يجتمع في الإنسان خير الدنيا والآخرة، ويتحقق له التآلف والمحبة والتقارب الحقيقي، لأننا حينئذٍ نتعاون ونتحد فيما أجمعنا عليه من الثوابت، ويعذر بعضنا البعض فيما اختلفنا فيه، لأنه من المتغيرات الاجتهادية التي تقبل أكثر من رأي.
فالمقصود بالثوابت هنا الأحكام الإسلامية التي ثبتت بأدلة قطعية الدلالة والثبوت أو بالإجماع الصحيح الثابت الذي مضت عليه الأمة في قرونها الثلاثة الأُوَل.
وعلى ضوء ذلك فالثوابت تشمل أركان الإيمان الستة (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى)، وأركان الإسلام الخمسة (الشهادة والصلوات الخمس، والزكاة والصوم والحج لمن استطاع إليه سبيلا)، وتشمل كذلك القيم والأخلاق الثابتة، والأحكام الأسس العامة لأحكام الأسرة في الإسلام، والأحكام والمبادئ العامة للمعاملات والجهاد، والعلاقات الدولية، والقضاء ونحو ذلك، والخلاصة أن كل حكم من أحكام الإسلام في جميع مجالات الحياة إذا ثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة أو بإجماع الأمة إجماعاً صحيحاً قائماً على الدليل وليس العُرف فهو من الثوابت التي يجب الالتزام بها، وعدم التهاون في حقها، إلا ما هو من قبيل الضرورات التي تبيح المحظورات.
وأما المتغيرات فالمقصود بها هنا هي الأحكام التي تثبت بدليل ظني (سواء أكانت الظنية في دلالة النص وثبوته، أم في أحدهما) أو باجتهاد قائم على القياس أو المصالح المرسلة، أو العرف، أو مقاصد الشريعة أو نحو ذلك.
فنطاق المتغيرات في الفتاوى والأحكام الفقهية الظنية واسع جداً وهو يشمل كل الاجتهادات الفقهية السابقة،إضافة إلى منطقة العفو التي تقبل التغييرات بشكل واضح حسب الاجتهادات الفقهية. يقول إمام الحرمين: (إن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها).
وذلك لأن الاجتهادات الفقهية السابقة لفقهائنا الكرام ـ ما دامت ليست محل إجماع ـ تقبل إعادة النظر،بل ينبغي إعادة النظر فيها وغربلتها بكل تقدير واحترام من خلال الاجتهاد الانتقائي،والترجيح فيما بينها للوصول إلى ما هو الراجح،ثم تنزيله على قضايا العصر بكل دقة ووضوح.
بل يمكن إعادة النظر في فهم هذه النصوص الظنية مرة أخرى على ضوء قواعد اللغة العربية وأصول الفقه، والسياق واللحاق وحينئذٍ يمكن الوصول إلى معان جديدة وأحكام جديدة لم ينتبه إليها السابقون، أو لم يخترها الجمهور، بل ذكرها قلة قليلة من السابقين.
وأما منطقة العفو فيكون الاجتهاد فيها اجتهاداً إنشائيا لابد من توافر شروط الاجتهاد وضوابط من يتصدى له.
ونطاق المتغيرات يشمل ما عدا الأصول والثوابت القطعية، وفي غير أصول العقائد والعبادات، وأكثر ما يظهر في عالم المعاملات الاقتصادية والمالية والقضايا السياسية والطبية، والعلاقات الدولية ونحوها، يقول الإمام الشاطبي:(مجال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات).
ويقول الغزالي: (المجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي).