الدوحة ـــ بوابة الشرق
كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته عن الحكم الشرعى لغسل الأموال:
إن غسل الأموال يتكون من جريمتين في نظر الاسلام:
احداهما الأصل، وهى النشاط المحرم نفسه، مثل الاتجار بالمخدرات، والبغاء والدعارة، والرشوة والفساد الادارى والسياسي، والاختلاس والسرقات ونحوها من المحرمات التى ذكرناها، فهذه كلها اما من الكبائر التى دلت على حرمتها آيات وأحاديث كثيرة، بل ان عقوبة بعضها مثل السرقات من الحدود التى أجمعت على حرمتها، وعلى عقوبتها الأمة، وامام من المحرمات التى دلت النصوص الشرعية على حرمتها، وبالتالى تكون فيها عقوبات رادعة تعزيرية مناسبة.
والجريمة الثانية: هى جريمة الاخفاء على المحرمات، واضفاء الشرعية عليها، وهى جريمة الغش والنصب والخداع والتعزير والتدليس والكذب والنصب والاحتيال، وكل ذلك من المحرمات التى أجمع عليها المسلمون بناء على نصوص كثيرة واضحة.
وعلى ضوء ذلك فان الشخص الذى قام بالنشاط المحرم فهو آثم مرتكب معصية كبيرة عند الله تعالى فتطبق عليه القواعد العامة للعقوبات فى الشريعة الاسلامية، فان كان ذلك النشاط المحرم يدخل فى الحدود فيقام عليه الحد المنصوص عليه، وان لم يكن داخلاً فى الحدود فحينئذ يؤدب بعقوبة تعزيرية مع مراعاة القواعد العامة والشروط والضوابط لاقامة العقوبات.
وأما اذا قام بغسل الأموال شخص آخر غير المجرم الأساسى فانه أيضاً آثم قد ارتكب معصية كبيرة، حيث قام بالغش والاحتيال والكذب، والتعاون على الاثم والعدوان، وفى حرمة كل واحد منهما نصوص كثيرة بحرمته، فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الكذب من علامات النفاق فى حديث صحيح متفق عليه فقال: (أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: اذا اؤتمن خان، واذا حدث كذب، واذا عاهد غدر، واذا خاصم فجر ).
فعلى ضوء ذلك فان من تعاون فى غسل الأموال فقد ارتكب معصية وجريمة يعاقب عليها بالتعزير حسب تقدير الحاكم، أو من خلال قانون ينظم هذه العقوبات بصورة رادعة وعادلة.
تحدى عدم التوازن (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ):
أقصد بعدم التوازن: الخلل الحاصل بين الانتاج والاستهلاك، داخل العالم الاسلامي، بل داخل الدولة الواحدة، وبين الضروريات والحاجات، والترفيهيات، وبين الموارد البشرية فى بلد والموارد المالية فى بلد آخر، وبين….
فمثلاً ان دول الخليج العربية تملك الموارد المالية الممتازة والحمد لله وبعض الدول العربية والاسلامية لديها امكانية بشرية هائلة، ومع ذلك لا توضع السياسات الفعالة لتحقيق التوزان والتكامل، فهنا الخلل.
ومن جانب آخر فان الدول الغنية فى العالم الاسلامى تولى كل عنايتها بالمحسنات والمرفهات، بل بثقافة الاستهلاك والتبذير، فى حين أنها بحاجة الى توفير الضروريات الصناعية والزراعية والغذائية والدوائية، وبالتالى تستورد كل هذه الضروريات من الخارج دون خطة عملية خلال عشر سنوات، أو خمسين سنة، أو مائة سنة للخروج من عالم الاستهلاك المحض الى عالم الانتاج والتصنيع والاكتفاء الذاتي، بل التصدير للخارج، مع أن لدينا امكانيات كافية بل زائدة لتحقيق التقدم الصناعى والزراعى والتجاري.
والخلاصة أن النجاة فى اقتصاد موزون ولذلك فان الهدف الأسمى للاقتصاد الاسلامى من خلال نصوص الشريعة ومقاصدها هو الوصول الى اقتصاد متزن متوازن موزون.
ان الله تعالى خلق كل ما فى هذا الكون فأعطى لكل شيء وزنه، ووضع كل شيء فى مكانه بتوازن دقيق للوصول الى كوْن موزون بجميع عناصره وطبائعه، فقال تعالى: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَاِن مِّن شَيْءٍ اِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ اِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَاِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِى وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ).
وقد دلت التجارب والتاريخ والوقائع على أن هذا التوازن لن يستطيع البشر أن يحققه وحده بدون هداية ربانية، ولذلك كانت الرسالة الخاتمة (رسالة الاسلام) قائمة على هذا التوازن فى جميع أوامرها ونواهيها وارشاداتها وتوجيهاتها،
ونحن هنا نذكر معالم هذا التوازن فى الاقتصاد الاسلامى على ضوء ما يأتي:
أولاً — التوازن فى جميع الأنشطة الاقتصادية، وداخل النشاط الاقتصادى الواحد، وهو كما ذكرنا له ستة أنواع:
1. التوازن فى الملكية من خلال ما يأتي:
أ) الملكية ليست ملكية فردية فقط، كما هو الحال فى النظام الرأسمالى الحر، ولا جماعية (الدولة) كما هو الحال فى النظام الشيوعي، بل هو جماع بين الأمرين بدقة متناهية كما سبق.
ب) وضع شروط للتملك من حيث الأسباب المشروعة، وفرض قيود على الملكية لمنع الجشع والاحتكار ومنع آثار الفلسفة المادية، مع الحث الكبير على المال وكسبه وبيان أهميته ودوره فى النهوض بالأمة لازالة آثار الرهبانية والعزلة..
ج) فرض حقوق كثيرة مثل الزكاة والنفقة…على المال لتحقيق التكافل، وحتى لا يكون المال محصوراً فى دائرة معينة (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) مع عدم تحديد الملكية والأموال بحد معين، بل ترك الاسلام الحرية المنضبطة ليكسب المسلم الملايين، أو المليارات دون أى حرج ما دام ملتزماً بالشروط والقيود والحقوق السابقة.
2. التوازن فى الانتاج من حيث توجيه الاسلام الانتاج نحو الانتاج النافع، ومنع الانتاج الضار بالانسان، أو الحيوان أو البيئة.
3. الاستهلاك حيث يجب أن يقوم على القوام بنص القرآن الكريم فى وصف عباد الرحمن (وَالَّذِينَ اِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) وقال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً اِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا).
4. التبادل من خلال العقود التى دلت النصوص الشرعية على أنها يجب أن تكون قائمة على العدل، وعلى الحقوق المتساوية للعاقدين فقد وزعت الشريعة الحقوق والواجبات بين طرفى العقد، فاذا وجد أى خلل فى هذا التوازن أصبح العقد غير مشروع.
5. التوزيع:
ان الفكر الرأسمالى وضع فى مقابل رأس المال (النقود) الفائدة (الربا)، والاسلام حرم الربا، لأنه ظلم فى ميزان العدل الذى تحدثنا عنه فى الفقرة السابقة، وذلك لأن جميع الايجابيات تجتمع فى كفة المرابي، والسلبيات فى كفة المقترض، حيث ان كفة المرابى تجمع بين ضمان رأس المال وأخذ جزء من المال (نسبة متحركة أو ثابتة من رأس المال) مطلقاً فى جميع الأحوال، فى حين أن كفة المقترض تجمع سلبيات ضمان رأس المال، وضمان نسبة من رأس المال زيادة وربا.
ولذلك وضعت الشريعة بديلاً عن الربا العقود الشرعية من البيع، والسلم، والمشاركة، والمضاربة، والمساقاة، والمزارعة، ونحوها من العقود المتوازنة العادلة القائمة على توزيع الحقوق والواجبات على الطرفين وعلى أساس (الغنم بالغرم) فى المشاركات كلها.
6.اعادة التوزيع:
ان النظام الاسلامى فى هذا المجال فى غاية من الأهمية من التوازن بين الأغنياء والفقراء، وكل طبقات المجتمع، فأجاز لهم الملكية والتملك والانتاج والتعاقد لتحقيق الربح والمال الصالح، وبالمقابل أوجب على الأغنياء حقوقاً بسيطة، لكنها تحقق التكافل والتكامل، وهى حق الزكاة، وحق النفقة، حيث يبدأ التكافل داخل الأسرة الصغيرة ليشمل المجتمع كله، اضافة الى الصدقات والأوقاف والكفارات والديات، ثم بعد ذلك تتدخل الدولة من خلال أموال الفئ وغيره لتحقيق التكافل الاجتماعي.
ثانياً — التوازن بين دور الدولة، ودور الفرد، والسوق:
ان الاسلام جعل المسؤولية بين الجماعة والدولة، ومسؤولية الفرد فى تكامل حقيقي، من خلال المراقبة، حيث دلت النصوص الشرعية على خطورة هذه المسؤولية أمام الله تعالى، ثم أمام الأمة فقال تعالى: (وَقِفُوهُمْ اِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته…) وقد عبر الخلفاء الراشدون عن هذه المسؤولية عن الانسان، والحيوان، والبيئة، فقد قال الخليفة عمر رضى الله عنه: (لو عثرت دابة على دجلة لسئل عنها عمر ).
ثالثاً – التوازن الدقيق بين الضروريات والحاجيات والمحسنات (المرفهات) فى جميع أعمال الدولة والمؤسسات، والأفراد بل داخل الفرد نفسه كما سبق للوصول الى المجتمع الموزون.