الدوحة- الشرق

كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته:

الآثار الاجتماعية للفقر:

للفقر آثار اجتماعية خطيرة، ولا سيما إذا لم تكن هناك تربية إيمانية قوية، من أهمها:

— الأمية والجهل والتخلف كما سبق.

— كثرة الأمراض، حيث إن معظم الأمراض تعود أسبابها إلى سوء التغذية، ويعود تأثيرها على الإنسان بالموت، أو الإنهاك وإلى عدم وجود الدواء المناسب الصالح، ومع الأسف الشديد فإن العالم النامي وعلى رأسه عالمنا الإسلامي يفتقد الأمرين بنسبة كبيرة، يذكر الدكتور الطويل: “أن الجوع والمجاعة ضاربان بجذورهما في ديار المسلمين”، ويقول المدير لمنظمة الصحة العالمية في عام 1963م: “من المؤسف أن يكون نصف سكان العالم أو ربما ثلثاهم مصابين بسوء التغذية”، ويقول المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة عام 1981: “لم يطرأ أي تحسن على حالة الأغذية في البلدان ذات الدخل المنخفض..) وهناك من يقول: “إن 70 % من أولاد البلدان النامية يشكون من سوء التغذية”، ومن المعلوم أن السبب الأول لسوء التغذية هو الفقر.

— زيادة معدل الوفيات، حيث ربط جميع الخبراء بين معظم الأمراض بحلقة محكمة بالفقر، وبالتالي موت الكثيرين، وقد ذكرنا أثر الجوع في موت الأطفال في السابق، حيث ذكروا أن نقص فيتامين A يؤدي إلى فقدان البصر، وأن نسبة 60 — 70 % من حالات فقدان البصر تنجم بسبب ذلك، وأن ضحاياه هم أبناء العلائلات المعدمة، وان مرض التراخوما، وهو أيضاً أحد أسباب العمى يترتب على سوء التغذية في الغالب، وأن عدد المصابين به يقدر بأكثر من أربعمائة مليون نسمة، وكذلك مرض عمى الأنهار الذي قُدِّر عدد ضحاياه بأكثر من ثمانية وعشرين مليوناً، ومعظمهم في البلاد النامية.

بل إن صحة الوليد الحديث مرهونة بعوامل عدة منها صحة الوالدين، وبخاصة الأم، ومستوى تغذيتها، والامراض التي أصابتها، ومنها تغذية الطفل، ومنها بيئة الطفل من حيث النظافة والتهوية.

— نقص الخدمات الصحية والسكنية ونحوهما، فمما لا شك فيه أن هذه الأمراض المذكورة وغيرها يرتبط جميعها ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر بالفقر وانعدام الإمكانيات المادية، وانخفاض الخدمات الصحية، فمثلاً يوجد في الدول المتطورة (أوروبا مثلاً) طبيب واحد لكل 250 — 500 شخص، وأما في الدول النامية (ومعظم دولنا الاسلامية) يوجد في مقابل 7400 — 18000 شخص طبيب واحد.

— التبعية الاجتماعية، حيث إن معظم الفئات الغنية القادرة تبذل كل جهودها لاستغلال الفقر لصالح مصالحها الاقتصادية، والسياسية، وشراء أصواتهم بأموال لمكاسب سياسية، إضافة إلى التبعية الاجتماعية للدول المانحة، حيث لا تعطي الأموال مجاناً، وإنما تحاول التغلغل في المجتمع الفقير بالتاثير فيه دينياً واجتماعياً، وجعله تابعاً لها، كما حدث أثناء الحرب الباردة، حيث كان العالم النامي مقسماً على المعسكرين الرأسمالي، والشيوعي، وكانت الدولة تعطى لها الأموال حينما تترك معسكراً إلى آخر.

— هجرة العقول والعمالة إلى الخارج، فقد أشارت التقارير الحديثة في الهند مثلاً أن حوالي 30 % من خريجي معاهد القضاء وعلوم الكومبيوتر، والكيمياء، والهندسة الميكانيكية في الهند يهاجرون سنوياً إلى أمريكا وكندا وغيرها.. وقد عقد في القاهرة مؤتمر لمناقشة هذه الظاهرة الخطيرة، توصل من خلالها إلى أن وراءها مجموعة من الأسباب، حيث ذكر ضمن البحوث أن مصر وحدها هاجر منها إلى الخارج أكثر من 824000 عالم في مختلف التخصصات، ونشرت جريدة الحياة دراسة أعدها مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية في الامارات إلى أن الدول العربية تتكبد خسائر مذهلة لا تقل عن مائتي مليار دولار سنوياً بسبب ما يعرف بهجرة العقول العربية إلى الخارج، وأظهرت الدراسة أن 5.4 % من الطلبة العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى أوطانهم وأن 34 % من الأطباء الأكفاء في بريطانيا هم من العرب (علماً بأن عدد الأطباء العراقيين فقط في بريطانيا وحدها 2000 طبيب)، وأن 75 % من الكفاءات العلمية المهاجرة تتجه نحو أمريكا، وبريطانيا، وكندا، ومن الملاحظ أن هجرة العقول تدخل أيضاً في الآثار الاجتماعية السلبية، لأنها تؤدي إلى خلخلة الوضع الاجتماعي، وتدخل كذلك في الآثار العلمية السلبية، وفي الآثار الاقتصادية السلبية للفقر.

— التفكك الأسري وزيادة الطلاق، أو عدم الزواج أصلاً، حتى إن الاسلام أمر من كان فقيراً بالعفاف، فقال تعالى: “وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ”، وذلك لخطورة الفقر على الأسرة، فالزوج العائل إذا لم يجد مالاً ينفق على عياله الذين يتضورون جوعاً، أو يموتون بسبب عدم الدواء والغذاء يفكر إن لم يكن تقياً في أية وسيلة لتحصيل المال، ولذلك يستغل تجار المخدرات هؤلاء الفقراء ويغرونهم بالمال حتى يوقعوهم في شباك التهريب والترويج لسموم الموت، بل إن الله تعالى أشار إلى ما كان يفعله الجاهليون من قتل أولادهم بسبب الفقر فعلاً، او الخوف من وقوعه فقال تعالى: “وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ”، وقال تعالى: “وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيرًا”.

ومن واقعية الفقه الإسلامي أن الفقهاء أجازوا التطليق قضاءً بسبب الإعسار وعدم القدرة على الإنفاق.

— زيادة الجرائم بين الشباب، والنساء، والأحداث، فلا شك أن للفقر أثره الكبير في زيادة الجرائم التي تقع من الشباب، أو النساء، أو الأحداث، حيث ترى المدرسة الاجتماعية في تفسير الإجرام أن الأحوال الاقتصادية السيئة تحتل المرتبة الأولى في مسؤولية الجنوح نحو الإجرام، وأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الجريمة والدورات الاقتصادية، فالبيئة التي فيها الفقر والبطالة هي البيئة التي تكثر فيها جرائم المال والاغتصاب والقتل ونحوها، هذا بلا شك إذا جرد المجتمع من قيمه الدينية المؤثرة.. وذكرت بعض الدراسات الاجتماعية أن 25 % من أطفال المناطق الفقيرة يجنحون إلى الجريمة، في حين أن النسبة في المناطق المتقدمة لا تزيد على 1 %، وكذلك تدل الدراسات الاجتماعية على ان انتشار البغاء والدعارة له ارتباط كبير بالفقر والمناطق الفقيرة، وقد عملت مقابلات مع النساء الداعرات في تركيا في عهد أربكان ـ عندما كان رئيساً للوزراء ـ فتبين أن نسبة كبيرة منهن دفعتهن الظروف المعيشية والجهل إلى هذه المهنة، وأن نسبة تزيد على 95 % مستعدات لتركها إذا أتيح لهنّ معيشة مناسبة مع زوج صالح، ولذلك فرق بعض الباحثين بين البغاء في المجتمعات الفقيرة الذي يرتبط بالحاجة، والبغاء في المجتمعات المتقدمة الذي يرتبط بالتحلل الجنسي والترفيه.

وهكذا تعاطي المخدرات، وتهريبها، حيث أوضحت بعض الدراسات: أن أكثر الفئات تهريباً وتعاطياً للمخدرات هم الفقراء، ومتوسطو الجهل، حيث تأتي مرتبة الأغنياء في المرتبة الثالثة، وذلك لشيوع الجهل فيما بينهم والهروب من المشاكل وغير ذلك، كما تشير الاحصائيات إلى أن حجم استهلاك المخدرات في الهند وصل إلى 250 طناً مترياً عام 1987، وفي باكستان 34 طناً مترياً، وفي دراسة للمجلس القومي للأمومة والطفولة بمصر تبين أن 16 % من الشباب جربوا المخدرات، و4 % منهم أدمنوا عليها، وأن مصر تكبدت خلال السنوات العشر الأخيرة 178 مليار جنيه، ولكن الواقع أن المخدرات منتشرة حتى في الدول الخليجية الغنية، مما يستدعي دراسة عميقة مفصلة لجميع أسبابها التي لا تقتصر على سبب واحد، ولذلك فإن هذه النسب يمكن أن تصدق مع التهريب، واستغلال الفقراء لذلك.

— الاستبداد السياسي، والتبعية السياسية في الداخل من خلال أن القوة تكون لأصحاب الأموال والنفوذ، وشراء الذمم في الداخل، والتبعية السياسية للخارج، اي للدول الاستعمارية المانحة للقروض والمساعدات.

والواقع الفعلي للشعوب الفقيرة أنها تعاني من الاستبداد السياسي والدكتاتورية المطلقة، وأن للفقر دوراًً في صنع المستبد والدكتاتور الذي يعتمد على الشعارات البراقة وعلى دعم الطبقات الجاهلة، وإبعاد الطبقات المتعلمة والسياسية عن مراكز القرار، والمشاركة السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني، وبالمقابل إعطاء الدور الأكبر للعسكر، والإنفاق العسكري، لذلك يظهر لنا بوضوح أن هناك خطة لتطبيق سياسة التجويع والافقار في عالمنا الإسلامي، لإعداده للاحتلال المباشر من جديد!! (والله المستعان).