الدوحة- الشرق

كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يكمل فضيلته الحديث عن الفقر:

إن الاسلام لا يجعل الفقر دليلاً على الاهانة، والغنى دليلاً على التكريم، بل المبدأ الاساس في التفاضل هو العمل الصالح والتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ولذلك نعى على هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بهذه النظرة فقال تعالى: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)، بل إن الاسلام يغرس في نفس الفقير المسلم أنه ان صبر على فقره فله أجر عظيم عند الله تعالى وقد يصل به إلى مقام أعظم وأفضل وأكرم من الغنيّ في يوم القيامة لدى الحشر، وفي الجنة، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء….) ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام) ويقول صلى الله عليه وسلم: (قمت على باب الجنة فكان عامة الناس من دخلها المساكين وأصحاب الجدّ أي محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار).

ولا شك أن هناك أحاديث أخرى في فضل الغنى الشاكر المؤدي لحقوق الله تعالى كما سبق ولكن مقصدنا هو أن الفقر مع الصبر والقناعة والزهد، يتحول من النقمة إلى النعمة، ومن الشقاء إلى الاحساس بالأجر والثواب.

معالجة الجانب النفسي للفقير:

إن الاسلام في علاجه هذا مع تركيزه على التربية والتزكية، يولي عناية قصوى بالجانب النفسي للفقير من جانبين:

1 — أن ينظر إلى من هو أفقر منه، أو إلى من هو مصاب في صحته وماله، أو بعبارة أخرى ينظر إلى من هو أكثر بلاء منه وحينئذ يشكر الله على ذلك، وهذا ما أرشده إليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فيقول: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم) وفي رواية للبخاري بلفظ: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه).

2 — التركيز على قوة الارادة، وعدم الاستسلام للفقر والمسكنة، بل الاعتزاز بما أعطاه الله تعالى له (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ)، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) ويقول صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً وقنّعه الله بما آتاه )، ولذلك يكون الفقير المسلم قوي الارادة والشخصية لا يستسلم للمسكنة وذل السؤال، بل يسعى جاهداً لتوفير الرزق الحلال حسب طاقته، وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً، أتكفل له بالجنة؟ فقلت: أنا) فكان لا يسأل أحداً شيئاً.

3 — غرس ثقافة الجمع بين التوكل والأخذ بأسباب الغنى، وذلك لأن التوكل هو الاعتماد الكلي على الله تعالى بقلبه ونفسه، مع بذل كل ما في وسعه في الأخذ بالأسباب الظاهرة، وإلاّ فمن اعتمد على على الله دون العمل فهو متواكل وليس متوكلاً، وذلك قدوتنا رسول الله صلى الله عليه كان أكثر الناس اعتماداً على الله، ثم على الأسباب الظاهرة كما تدل على ذلك سيرته العطرة.

4 — الأخذ بكل الأسباب الظاهرة للوقاية من الأمراض، وضرورة الأخذ بكل اللقاحات ضد الأمراض، والحماية من العدوى….

البعد الثالث: الحلّ الخارجي (المتمثل بما على غير الفقراء للقضاء على الفقر):

وهو يتمثل في الواجبات التي فرضها الله تعالى على الدولة، وعلى المجتمع، وعلى الأقارب، والأصول، والفروع، والزوج على ضوء ما يأتي:

أولاً دور الدولة ومسؤوليتها نحو رعاياها وبخاصة الفقراء:

إن الدولة (جميع المسؤولين بدءاً من رئيس الدولة إلى الوزراء وبقية المسؤولين أصحاب القرار) مسؤولة أمام الله تعالى ثم أمام أهل الحلّ والعقد مجلس الشورى إن وجد عن توفير الحياة الكريمة لجميع من يعيش على أرضها حتى من غير المسلمين المواطنين، وعلى هذا تدل مجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وإجماع الأمة.

وهذا الدور يتجلى في نظر الاسلام في النقاط الآتية:

1 — تهيئة فرص العمل المباشرة للقادرين عليه، وهذا يتطلب قيام الدولة بأمرين أساسيين، هما:

الأمر الأول: إنشاء جهاز خاص بالتدريب والتوظيف والمتابعة، بحيث يقوم بالتدريب في مختلف مجالات العمل اليدوي والمهني، والفني، والاداري، وتمكين الاستعانة بالخبراء، والمدربين، ومراكز التدريب الخاصة، ويكون من واجبه وضع سياسة واضحة للتدريب على كل ما يحتاج إليه المجتمع، والشركات والمصانع ونحوها، كما يكون ضمن واجباته ومقاصده القيام بالتوظيف، والتعيين، من خلال توجيه العاملين والفنيين والاداريين للوظائف المناسبة، وتعينهم فيها.

ولا ينبغي الاكتفاء بهذا، وإنما لا بدّ من القيام بالمتابعة والمراقبة لمعرفة مدى نجاح هؤلاء العاملين في وظائفهم وأعمالهم، ويدل على ذلك ما رواه أنس بن مالك: (‏أن رجلا من ‏ ‏الأنصار ‏ ‏جاء إلى النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يسأله، فقال: ألك في بيتك شيء؟ قال: بلى ‏ ‏حلس ‏ ‏نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقدح نشرب فيه الماء. قال: ائتني بهما. قال: فأتاه بهما فأخذهما رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏بيده ثم قال: من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: من يزيد على درهم مرتين ‏ ‏أو ثلاثاً؟ ‏ ‏قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاماً ‏ ‏فانبذه ‏ ‏إلى أهلك. واشتر بالآخر ‏قدوما ‏ ‏فأتني به ففعل فأخذه رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فشد فيه عوداً بيده، وقال: اذهب فاحتطب ولا أراك خمسة عشر يوما. فجعل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فقال: اشتر ببعضها طعاماً وببعضها ثوباً ثم قال: هذا خير لك من أن تجيء والمسألة ‏نكتة ‏ ‏في وجهك يوم القيامة ‏ ‏إن المسألة لا تصلح إلا لذي فقر ‏ ‏مدقع ‏ ‏أو لذي ‏ ‏غرم ‏ ‏مفظع ‏ ‏أو دم موجع) حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى عمل مناسب، ثم تابعه، وحدد له زماناً مناسباً لمعرفة مدى نجاحه، ولذلك قال الشافعية يعطى المحتاج من الزكاة ما يشتري به آلات حرفته كما سيأتي.

الأمر الثاني: قيام الدولة بتعيين القادرين على العمل في جميع مؤسساتها التابعة لها حسب قدراتهم وتخصصاتهم، وكذلك يمكن للدولة بعد الدراسة ورعاية التوازن أن تفرض على الشركات والمصانع (القطاع الخاص) العاملة في البدل، تعيين نسبة معينة (مثل 20%) من الأيدي العاملة والفنيين والاداريين من أهل البلد الذين تتوافر فيهم الشروط المطلوبة، وينبغي أن تكون في هذه السياسة مرونة خوفاً من هروب أصحاب المصانع والشركات بسبب ذلك.

ولذلك فالبديل هو أن تشجع الدولة على ذلك من خلال تخفيف الضرائب، أو تقديم الدعم المناسب للشركات والمصانع التي تعين نسبة كذا (50 — 80% مثلاً) من المواطنين، وهذا ما يحدث في معظم البلاد المتقدمة الحرة.