الدوحة- الشرق

كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. ويوصل الحديث عن دور الدولة في محاربة الفقر فيقول فضيلته:

— تهيئة الفرص غير المباشرة للعمل، وهذا يتحقق من خلال ما يأتي:

أ) تبنى خطة مرحلية، واستراتيجية للقضاء على الفقر، وللتنمية الشاملة، تكون مدروسة متوازنة، تتجسد معالمها من خلال سياسة اقتصادية واضحة مستقرة، وبرامج عملية، ومشروعات متنوعة تسهر عليها باخلاص وتفان جميع أجهزة الدولة.

ب) قيام الدولة بالبنية التحتية المادية (مثل تهئية الشوارع، والاتصالات والمواصلات..) والمعنوية (مثل التشريعات والقوانين الخاصة المشجعة على الاستثمار) ونحوها ويدل على ذلك ما قاله الخليفة الراشد من أنه لو عثرت دابة (أو بغلة) على شط الفرات لسئل عنها عمر، مما يدل بوضوح أن مشاريع البنية التحتية مطلوبة في الاسلام، إضافة إلى القاعدة المعروفة “ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب”.

ج) تبني سياسة مشجعة للصناعات الخفيفة، والمتوسطة، والثقيلة، مع حركة التجميع، حيث إن هذا المجال يوفر كثيراً من فرص العمل للجميع، ويكون للمواطنين حق الأفضيلة والأولوية من خلال فرض نسبة، أو تخفيف الضرائب كما سبق.

ونرى أن الشريعة قد خففت الزكاة تماماً على المصانع حيث لا تجب الزكاة إلاّ في أرباحها الصافية بنسبة 2.5% حسب الراجح من أقوال أهل العلم، والفتاوى الجماعية، في حين أن الزكاة على الواردات الزراعية تتراوح بين 5% إلى 10% وعلى المعادن 20%.

— قيام الدولة بتوفير الحياة الكريمة لغير القادرين على العمل، أو الذين لم تستطع أن توفر لهم فرصة العمل المناسب (البطالة) وذلك بمنح حدّ الكفاية (أي إزالة الفقر) على أقل تقدير لكل محتاج، أو معيل، إن كانت أموال الدولة والزكوات لا تكفي إلاّ لهذا الحلّ، وإلاّ فينبغي إعطاؤه حدّ الكفاية، ثم تمام الكفاية من المسكن تمليكاً، أو تأخيراً والملبس، والمشرب والمأكل، ونحوهما مما لا بدّ منه، يقول الشيخ القرضاوي: ((إن هذا التكافل لا يقصد به مجرد اسعاف سريع يقضي به الفقير بعض حاجاته المادية أو المعيشية، ثم يظل محتاجاً إلى كثير من الأشياء الأخرى، إنما المقصود به: كفالة مستوى للمعيشة لائق به، يحقق المطالب أو الحاجات المادية والنفسية فلكل انسان أن يعيش في المجتمع الاسلامي مسلماً أو غير مسلم عن طريق اتاحة العمل للقادر عليه، او تدريبه عليه ان كان يحتاج إلى تدريب، أو سد حاجته، ان كان من أهل العجز.

وهذا المستوى اللائق له صفة الديمومة، وهو لا يقتصر على أن يوفر للفرد في المجتمع المسلم (حد الضرورة) أو (مستوى الضرورة) الذي لا يعيش الانسان إلاّ به…. كما لا يقتصر هذا الضمان على توفير (مستوى الكفاف) أو (حد الكفاف) للفرد، وهو يعني الحد الأدنى للمعيشة……

إنما يعمل الضمان الاجتماعي في الاسلام على توفير مستوى (تمام الكفاية) كما يعتبر الفقهاء في مبحث (ما يعطاه الفقير والمسكين، من الزكاة…) وقد ذكر الفقهاء أن من تمام كفاية المرء كتب العلم ان كان من أهله، وأثاث البيت المناسب، والفرس الذي يركبه، كما ذكروا أن الزواج يدخل في تمام الكفاية، بل رأينا الفقهاء كما هو مذهب الشافعي من يرى وجوب اعطاء الفقير من الزكاة كفاية العمر الغالب لأمثاله، بحيث يغنيه الزكاة غنى دائماً… بأن يعطى أدوات الحرفة ان كان محترفاً، أو رأس مال التجارة ان كان تاجراً…..، بهذا انتقله الزكاة من يد آخذة إلى يد معطية…. ).

وهذا المصطلح (تمام الكفاية) أو هذه المرتبة، تبناها جماعة من الفقهاء القدامى، وبخاصة الشافعية، فقد جاء في المجموع: (ويعطيان أي الفقير والمسكين ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام، وهذا هو نص للشافعي رحمه الله )، وجاء في حاشية القليوبي: (قال شيخنا وهو الرملي فلو لم يكفه فله أخذ تمام كفايته…) قال النووي: (الأصح المنصوص، وقول الجمهور: يعطى كفاية العمر الغالب، فيشتري به عقاراً يستغله، ويستغني عن الزكاة) وقال المحلى: (ومن يحسن الكسب بحرفة يعطى ما يشتري به آلاتها قلت قيمتها أو كثرت، أو بتجارة يعطى ما يشتري به مما يحسن التجارة فيه ما بقي ربحه بكفايته غالباً) ثم ضرب أمثلة للمبالغ الكافية لشراء أدوات الإنتاج في عصره، فقال: (فالبقلي أي من يبيع البقول الخضراء يكتفي بخمسة دراهم، وبالباقلاني أي من يبيع الفول بعشرة، والفاكهي بعشرين، والخباز لخمسين، والبقال بمائة، والعطار بألف والبزاز بألفين، والصيرفي بخمسة آلاف، والجوهري بعشرة آلاف) وعلق على ذلك القليوبي فقال: (يفيد أنه لا يعطى من النقد ما يكفيه، لما ذكر بل مقداراً يكون ثمناً لعقار نفى غلته بذلك، أو بما يتم به ذلك إن كان مالكاً لبعضه، ويشتريه له المالك، لكن بعد قبضه… ).

قول الشارح فقال: (قوله: “ما يفي ربحه بكفايته غالباً” أي بحسب عادة بلده، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأماكن والأزمنة، فيراعى ذلك على الأوجه، وما ذكره الأئمة إنما هو بالنظر للغالب في زمانهم، ومن له أكثر من حرفة يعطى لما يكفيه منها… ).

 

الأدلة على أن الدولة ملزمة بتوفير الحياة الكريمة:

هناك أدلة كثيرة على أن الدولة مسؤولة لتوفير الحياة الكريمة من خلال العمل أو التكافل أمام الله تعالى أولاً، ثم أمام الأمة من خلال ممثليها: أهل الحل والعقد في مجلس الشورى (البرلمان )، وهي أدلة عامة تدل في عمومها على التعاون، والتكافل، وعلى تعظيم حرمات المسلمين، وبيان حقوقهم، والشفقة عليهم والرحمة بهم، وقضاء حوائجهم ودفع الجوع والخوف عنهم ونحو ذلك.

وأما الأدلة الخاصة فكثيرة منها الآيات والأحاديث الدالة على تحقيق العدل والأمن والأمان وأن الإمام مسؤول عن رعيته.

تنفيذ التكافل الاسلامي بين الماضي والحاضر:

كان التكافل الاجتماعي الاسلامي، وضمان الحياة الكريمة للفرد والجماعة يتمان من خلال موارد الدولة المتعددة المتمثلة في: الزكاة، والخراج (ضريبة الأرض) والجزية (ضريبة المواطنة) والفيئ، واستثمارات الدولة وغيرها من أموال الدولة الاسلامية حسب ضوابط ومعايير شرعية خاصة بكل واحد من هذه الموارد، وبخاصة الزكاة.

واليوم يمكن تنظيم ذلك كما هو الحال من خلال جهازين خاصين، جهاز التدريب والتوظيف والمتابعة كما سبق وجهاز التكافل الاجتماعي أو ما يسمى اليوم بوزارة الشؤون الاجتماعية، ويكون من واجبات هذا الجهاز توفير الحياة الكريمة (تمام الكفاية) للمحتاجين إما بالعمل المناسب للقادر عليه، أو بالرعاية الاجتماعية لكل من ليس قادراً على العمل، أو لا يجد العمل المناسب إلى أن يجده.

— إصدار قوانين لرعاية حقوق العمال، وضمان حقوقهم، وحرية اختيار العمل المناسب لهم من حيث التخصص، أو المواهب الفردية، مع حماية حق التنافس، والتفاوت، وقانون العرض والطلب ما دام ينأى عن الاستغلال والاحتكار، وبعبارة أخرى فإن الاسلام يحمي حقوق الطرفين: العمال، وأصحاب العمل من خلال توزان عادل.

وتدخل هنا الضوابط الشرعية لعقد الإجارة على الأشخاص من كون الأجر معلوماً عادلاً ليس فيه غبن أو ظلم للطرفين، ومدة العمل معلومة، والعمل مشروعاً، ودفع الأجر بمجرد انتهاء العمل، أو حسب العقد وغير ذلك.

وقد ربط الاسلام العميل بين العامل وصاحب العمل، بالقيم والضوابط الأخلاقية الاسلامية من الرحمة والشفقة والاحسان، وعدم تكليف العامل بما لا يطيق هذا من رب العمل، وأما من جانب العامل فهي: الأمانة، والاخلاص، والاتقان، والحفاط على أسرار العمل، ونحو ذلك.